كنتيباي محمود... السيرة والمسيرة - الجزء الاول

بقلم الأستاذ: عثمان همد نور الدين (ود ابيب)

كان الخناق من كل جانب يضيق علي الحباب، ويحيط بهم كالسوار بالمعصم... والمهددات حولهم

يتعاظم خطرها مع بزوغ كل فجر جديد... وفي 1869م يفتتح المجري البحري رسمياً، لقناة السويس، لتمخر السفن الأجنبية عباب أمواج البحر الأحمر، ويكون الطريق القريب سالكا، مام حركة سفن القائد الإيطالي (سابيتو) لترسوا بميناء عصب. والحيلة الذكية كانت تزويد السفن بالوقود، وتجويد خدمة اللوجستيات والمناولة البحرية، بغرض التجارة والإستثمار.

ولكن سرعان ما تكشفت وتحولت المكيدة والمكر الإيطالي إلي حالة من التمدد والاستحواذ والتوسع، لأهداف إستعمارية بحتة. ليكتمل المسلسل جلياً بحلول 1870م، عندما أعلنت ايطاليا احتلالها لميناء عصب، وحركت جيوشها وأسلحتها وشركاتها الاستثمارية لتلك المنطقة. وفي المقابل بريطانيا اقتنصت فرصة ضعف وهزائم المصريين والأتراك المتكررة، أمام مقاومة رجال الثورة المهدية، لتحتل ميناء سواكن وتفرض سيطرتها الفعلية عليه. وفي يناير 1885م فتحت المهدية الخرطوم، وطردت منها المصريين والأتراك...

وخوفاً من تمدد هذا النصر المهدوي النوعي، أسرعت ايطاليا وبتشجيع من بريطانيا احتلالها لميناء مصوع، وإعلانها رسمياً (ارتريا) كمستعمرة تابعة لإيطاليا في إفريقيا... وأيضا هناك قوي أخري كانت تتربص بالمنطقة، وهي الحبشة، الملك (يوهنس)، وعامله في إقليم التقراي (رأس الولا)، حيث وجدوا أنفسهم في طبيعة جغرافية قاسية ومغلقة بلا منفذ بحري، خاصة بعد إكمال ايطاليا احتلالها لميناءي (عصب، ومصوع) مما حفزهم الوضع الجديد لشن حروب، وغارات نهب وسلب للثروة، علي المناطق التابعة لإيطاليا في مصوع، و مناطق الحباب الغنية بالثروة الحيوانية في الساحل... وزاد الأمر سواءَ بعد أن ابرم المصريون اتفاقية، مع الأحباش لتسهيل مهمة انسحاب جيوشهم المحاصرة، أمام ضربات قوات المهدية في مناطق كسلا والقلابات... مقابل أن يزود المصريون مملكة الحبشة بالأسلحة والذخائر، والانسحاب من مناطق (سنحيت) لصالحهم... وهذا الإنحصار المرعب للنفوذ المصري، لصالح الحبشة والقوي الاستعمارية الأوربية الجديدة الطامعة في خيرات المنطقة، زاد من معاناة الحباب الذين كانوا يتبعون إدارياً إلي نفوذ الخديوية المصرية في سواكن... وبالطبع كانوا يتمتعون بحمايتها، من الغزوات الحبشية المتكرر علي أراضيهم وثروتهم.

وبالفعل الحباب وقع ضحية الاعتداءات الحبشية الغاشمة. وبصورة قاسية بعد أن استخدم الأحباش السلاح والذخائر، التي حصلوا عليها من المصريين بعد الإتفاقية. مما أدي ذالك الوضع إلي زيادة استنزف الحباب، وتعرضهم لخسائر ودمار كبير في مواردهم المادية والبشرية... لكن الدهاء السياسي للزعيم كنتيباي حامد بك كان في الموعد... حيث أنقذ الحباب من ورطة الإبادة، ونقل الحرب والمواجهة والصراع، من محطة الحباب والحبشة، إلي محطة الحبشة وايطاليا، عندما وافق علي توقيع اتفاقية الحماية بين الحباب و إيطاليا في 1887م.

وقد نجح المفاوض الحبابي حشر الحبشة في خندق ضيق، عندما نصت الإتفاقية علي جعل الحبشة عدواً مشتركاً بالنسبة للطرفين (الحباب، وإيطاليا)... واللزام ايطاليا بتزويد الحباب بالسلاح... مقابل دعم الحباب لإيطاليا بالجمال والحصين لنقل (لوجسيات الحرب)، وإعفاءات وتسهيلات الواردات والصادرات الإيطالية من الرسوم الجمركية في ميناء تكلاي... وهذه الإتفاقية أجازها البرلمان الإيطالي في روما، وضمنها في المادة الخامسة للدستور الإيطالي... والشيء المحير لواضعي الدساتير، وصانعي القوانين، ومهندسي الاتفاقيات، وضامني المعاهدات... أن الزعيم كنتيباي حامد بك، عندما سئل عن الضمانات... سلم ابنه محمود حامد حسن للإيطاليين كرهينة وضماناً لنجاح الإتفاقية... وهذه كانت حادثة، غير مسبوقة... وربما لم تحدث لا حاضراً، ولا مستقبلاً، ولم يسجل التاريخ سابقة مشابهة في تاريخ علم الاتفاقيات والضمانات الدولية، الا عند اتفاقية (الحباب وإيطاليا)... وهي من دهاء ومكر وأفكار الزعيم الأفريقي العظيم كنتيباي حامد بك... وأن قصة الرهينة والضمان، يمكن أن تكون المدخل المناسب، ونحن ندلف للدخول إلي حقبة الشاب المتطلع إلي قيادة الحباب، وهو يكتنز في نفسه الكثير والمثير من الأحداث العظام، والتي كان هو جزءً منها، في حقبتي (والده، وعمه) أبان توليهما لمنصب (الكنتيباي).

وقبل أن نفتح حقبة، وحقيبة كنتيباي محمود، لابد من الإشارة إلي بعض الحقائق التاريخية المهمة، والتي تسهل علينا فهم ما كانت عليه المنطقة في ذالك الوقت:-

1. الفضاء البجاوي التاريخي والجغرافي والديمغرافي، يمتد من الحدود المصرية وحتي مصوع شرقاً... ومن أسوان شمالاً وحتي منابت الهضبة الحبشية جنوباً... ومن البحر شرقاً، إلي النهر غرباً.

2. هذه المنطقة كانت عبارة عن وحدة جغرافية وديمغرافية واحدة، حتي في عهد السلطنة الزرقاء، وحد حدودها الشرقية، ملك أفحارين وعموم حماسين (بحالياي ود بئمنت)، تحت إدارة السلطنة الزرقاء، وكان يورد رسوم الضرائب، وعشور القطعان إلي سنار.. 1881 - 3 اصدر البابا العالي في (اسطنبول) مرسوما لتقسيم موطن البجا التاريخي إلي خمسة مديريات، والذي سماها المرسوم بإقليم شرق السودان وهي:- التاكا (كسلا)، سواكن، مصوع، كرن (سنحيت)، القلابات).

4. الحباب حتي 1883م كان مقر ادارتهم في سواكن، وهو بداية تاريخ ظهور المهدية في شرق السودان، وتزايد معاركهم علي سواكن... وبعد تأكيد احتلال ميناءي سواكن ومصوع وإغلاقهما لصالح القوي الإستعمارية. اتخذ كنتيباي حامد بك قراره بالخروج من سواكن، ونقل مقر إدارته إلي ميناء تكلاي، لدعم ومساعدة حليفه الأمير عثمان دقنة.

5. بعد تقسيم المنطقة الواسعة التي يقطنها البجة، و (الحباب واحدة من قبائلهم)، بين النفوذ الأوربي (الإيطالي والبريطاني)، وقع جزء من مصايفهم ومرزاعهم ومراعيهم تحت نفوذ وسيطرة إيطاليا... والجزء الآخر للأرض من مشاتيهم الساحلية تحت النفوذ البريطاني... لكن عملياً لم يأبه السكان المحليون بهذه الحدود الوهمية، وظلوا يتنقلون بين أراضيهم في رحلة (سبك... ساقم) أو رحلة (الشتاء والصيف)... واتفاقية الحدود نفسها كانت محل شد وجذب بين الطريفين البريطاني والإيطالي، واستمرة التفاوض حولها لعدة سنوات (1895-1898م).

6. بعد تولي كنتيباي محمود قيادة الحباب في 1891/3/21، أعلن تمرده ورفضه القاطع للخضوع للسياسات القمعية الإيطالية الظالمة ضد الحباب... واتخذه قراره الحاسم بانضمام الحباب رسميا إلي الحلف البريطاني... ونقل مقر قيادته وسلطته إلي (مشاتي) الحباب الواقعة تحت النفوذ البريطاني في منا طق (مقدام، وطوكر، وسواكن)...

النقاط الستة أعلاه، تعتبر مفتاحاً مهماً لفك طلاسم و تداخل حلقات الأحداث، وتحول الجولات، ومعرفة الصراعات... وخاصة البريطانيين والإيطاليين كلاهما عاشا في حالة هستيرية من الخوف والتوجس عند تعاملهم مع ملف الحباب، لعلاقة الأخير القوية ودورهم الداعم للمهدية... لاسيما القادم الجديد في سدة حكم الحباب، الشباب محمود حامد بك، كان يمسك بملف علاقة الحباب بالمهدية، عندما تولي شيخ مشايخ الحباب، في فترة حكم عمه كنتيباي هداد حسن... ومطلع علي كافة مواقف وسجلات وسياسات القوي الإستعمارية، المناهضة للحركات التحررية الوطنية.

والجديد المثير في عهد كنتيباي محمود، أن تغيرت خارطة المنطقة جغرافياً، وسياسياً، وقانونياً... وتداخلت حلقات الضغط، ومؤامرات التصفية، وإضعاف الوحدة والتكتلات للكيانات القوية التي كانت تشكل عقبة كأداء في وجه تمدد إطماع القوي الإستعمارية... كمان أن السلطات الإستعمارية، تعتبر أن الشاب الجديد الذي تولي سدة حكم الحباب كنتيباي محمود بن كنتيباي حامد بك، هو محل شك و صداع وتوجس لهم، وعلاقته مع المهدية لم تنقطع، وظلت مستمرة.

و يوصف بشدة التدين والورع والزهد. وهو صاحب قرار، وقائد انتفاضة، وزعيم مطاع في قومه، و تميز بشدة المواقف، وصلابة المراس... حيث ركل إيطاليا بجلالة قدرها، وعظم قوتها العسكرية، والإستخبارية والسياسية... وانتقل منها إلي الحلف البريطاني في أيام معدودات، وفي معيته أكثر من 15000الف نسمة ...ودون أن يعلم بأمره احداً... وقد أربك بفعله وقراره هذا، كل حسابات (البريطانيين، والإيطاليين) علي السواء... كيف لا وهو القائل...؟

(شيقباي سني ابوكا *** حقو قنطا إب نويت)

أي أبوك يركب الصعاب إذا نوى الشيء، ويفعل ما بدي له إذا قصد الأمر... وفعلا الرجل نفذ قصده... وأعطي السلطة الإيطالية صفعة قوية، ودرساً بليغاً في تنفيذ إرادة الشعوب، عندما تطاول ظلم الطليان، وتكاثر استبدادهم... وزاد توسعهم...علي الحباب.

إلى اللقاء... في الجزء القادم

Top
X

Right Click

No Right Click