تذكّرتك يوم تحرّك القطار قصّـة الشهيد حامد راقى

بقلم الأستاذ: عبدالفتّاح ودّ الخليفة - كاتب ومؤرخ إرتري، المملكة المتّحدة  من كتاب: إرتريا رحلة فى الذّاكرة - لأحمد طاهر بادورى

من ضمن إستراتيجية القيادة العسكريّة لقوات التّحرير الشّعبية،

فى العام 1971 كان حماية قاعدتها الرّئيسية فى المثلث الذى جعلت ضلعه الأول يمتدّ من ساحل البحر الأحمر فى شرق إرتريا، مارّا بقدم ليمتدّ إلى الغرب حتّى (شبّح) و(متكل أبيت) ومنها إلى الهضبة إلى (بحرى بارا) فى (شمال بحرى) فى إقليم (حماسين)، وجرت معارك بطوليّة هناك، قاد الجزء الأكبر منها، الشهيد القائد (إبراهيم عافة) كانت معارك إثبات الوجود، وتثبيت الأقدام، لقّنت العدوّ الإثيوبى درسا، لغّمت كلّ الطرق المؤّدية إلى هذا المثلّث، ومن ضمن تللك الأعمال هذه واحدة إستشهد منفّذها وقائدها الشهيد المناضل (حامد راقى) فإليكم القصّة كما أوردها المناضل (أحمد طاهر بادورى) فى كتابه (إرتريا رحلة فى الذّاكرة) فى صفحاته (159-161).

"بدأت العمليات التدميرية لمواقع الحراسات يوميا من خلال زرع أفخاخ ومتفجّرات وألغام مضادة للأفراد داخل مركز الحراسات ليلا فى تلك المتواجدة على الجبال المطلة الطريق العام فأحدثت هذه العمليات الهندسية الجريئة الهادفة الفزع والرّعب فى نفوس جنود العدوّ الذين لم يعرفوا من أين يأتيهم الموت المفاجئ، فقد لعبت وحدات الهندسة العسكرية الدور الأـساسى فى إستكمال تلك المهمة كما قامت تلك الوحدات بتدمير طرق السكك الحديدية ودمرت عدد من القاطرات والمقطورات وفككت عشرات الكيلو مترات من قضبان السكك الحديدية وكانت أكبر عملية هندسية خطّط لها الشهيد (حامد راقى) وكان وقتها قائد وحدات الهندسة العسكرية (صفحة كانت خطّته أن يدمّر ويوقف كلّ خطوط السكك الحديديية نهائيّا، أجرى مع رفاقه دراسة دقيقة لهذه العملية فحمل معه كمية هائلة من المتفجرات ومجموعة خفيفة من مساعديه من وحدات الهنسة العسكرية.

كانت خطّته أن يدمّر أكبر نفق، وهو النّفق السّابع أطول الأنفاق السبعة والثلاثين فى هذا الخط الواقع بالقرب من مدينة (إمباتكلاّ) يا لهذه الجرأة والشّجاعة كان حامد من أبناء مدينة (قندع) وإشتغل عامل فى مصلحة السكك الحديدية منذ بداية شبابه.

إنضمّ من (جبهة تحرير إرتريا) إلى (قوّات التّحرير الشّعبية) عند قدومها من (دنكاليا) تبوّء هذا المنصب بعد أن ترك المناضل (إبراهيم يسين جميل) هذا الموقع ورحوله إلأى السّودان كان الشّهيد (حامد راقى) يعدّ مجموعته وأدواته للعملية عندما جئتهم فى (أقناد - حمّرت فقرت) فى منطقة (عد شوما) كان حامد لطيفا.. ومتواضع جدّا جئت إليه وبفضوليتى المعهودة سألته إلى أين هذه المرّة يا (أبا حميد) قال: فقط أدعو لنا وقل فليوفقكم الله قلت له مازحا: "دعاء من شاكلتى لا تصل إلى السّحاب ناهيك عن السّموات السّبع" ضحك وضحكت... كان قد إستعّد وتأهّب للرحيل.

قلت أخبرنى ما هذه فحدثنى عن المهمة قلت له: سوف توفق ولن تخيب قال :نحن نعمل الواجب ولكن ليس كلّ الخطط دائما نتجح قلت يعطيك العافية على الطريقة الشامية!! وتحرّك مع مجموعته محمّلين بالأثقال.. تركونى واقفا أتأملهم يتسلقون الجبال حتى إختفوا من ناظرى كان حامد يحمل على ظهره حقيبة كبيرة من المتفجّرات وعلى كتفه الأيسر بندقية من نوع (سيمانوف) الرّوسية الصنع لم يكن يحبّ حمل الـ (كلاشن كوف) سريع الطلقات لا أدرى لماذا...؟

ذهب (حامد راقى) لتنفيذ عمليّته الدقيقة ولكنه لم يعد دفع دماؤه ثمنا لها وكانت بداية النهاية للسكك الحديدية فى إرتريا... حينها وإلى زمن بعيد... ذات يوم بعد التّحرير، إحتفلت إرتريا فى تحدى كبير، بقيام القطار العتيق بسواعدنا من جديد فى رحلة تجريبية من مصوع إلى (دوقلى)... كان القادة كلّهم مدعوّون للحفل، وللمشاركة فى تدشين المشروع وكنت أحد المدعويّين، ونحن نعلّق على الحدث طلب منّى المناضل الدكتور (قرقيس) وكان هو المشرف على تشغيل القطار قائلا: (يا أباطاهر أريدك أن تكتب عن هذا الحدث الغظيم عدت إلى أسمرا بعد الرحلة الجميلة وكتبت مقالا كرّست فيه ذكرى الشهيد (حامد راقى) ونشرته فى صفحة (إرتريا الحديثة) بعنوان (تذكّرتك يوم تحرّك القطار) هذا نصّها".

إلتقيته فى منطقة (أغناد) فى (عد شوما) كان ذالك فى عام 1971 وهو يستعدّ على رأس مجموعة الهندسة للإنطلاق لتنفيذ أهمّ عمليّة تفجير منذ قيام الثّورة، هدفها توقيف خطّ السّكة الحديدية الجارى من (مصوّع) إلى أسمرا لأجل غير مسمّى، قد يطول لعمر حرب التّحرير.

قام على مدى شهر كامل بدراسة إستطلاعية جاب فيها هذا الخط من (درفو) بالقرب من (أسمرا) إلى (دوقلى) على بعد عشرون كيلو مترا من (مصوّع) وحدّد بدقّة مواعيد وتحرّكات قطار الشّحن لتنفيذ تلك العمليّة الجريئة، كان لطيف الحديث هادئ الطّباع شديد الذّكاء يحمل فى جنبه الأيسر قلب أسد، فارع القامة أسمر اللون، نحيل الجسم، أشيب الصّدقين يضيف إلى هيبته الحشمة والوقار... أتخيّله بعد مضى خمسُ وعشرون عاما وكأنّه واقفا أمامى ببدلته العسكريّة الخضراء، وقبعته الكاكية وجيتره الأصفر الذى يربط سرواله حول ساقيه فوق حذاءه الشّدة - بإحكام وعلى ظهره حقيبة مليئة بأصابع الدناميت والمتفجّرات والصّواعق وغيرها من الأدوات التى تلزمه كخبير متفجّرات، كنت علمت أنه متجه لتنفيذ عمليّة تفجير جريئة وخطيرة فى النّفق رقم (7) الواقع على بعد ثلاث كيلو مترات من أهمّ موقع عسكرى للبحريّة الإثيوبية فى مدينة (إمباتكلا).

تجاذبت معه أطراف الحديث عن العمليّة وعلى عجل قلت له: إذا نجحت العمليّة كما خطّط لها أى - تفجير قطار الشّحن داخل النّفق - وتهدّم النفق ستتوقّف أهمّ وأثقل وسيلة لنقل البضائع فى بلادنا أليس كذالك؟ قال: نعم، وبالتأكيد إلى أن تتحرّر بلادنا كاملة قلت له: ولكن كثير من العمّال سوف يفقدون عملهم وإنّ أسرا كثيرة فقيرة تترزّق من جريان الخط سوف تضرّر لأجل بعيد، ليس فحسب،بل إنّ إعادة بناءه بعد التّحرير ستكون شاقّة على حسب إعتقادى، أليس من الأفضل أن نقوم بعمليات تفجير لا ترقى إلى هذا المستوى من الضّرر المستقبلى وتكون مستمرّة نكسب منها إعلاميّا وندخل بها الرّعب إلى نفوس جيش العدوّ بإستمرار؟ ضحك بهدوء من سذاجتى وقال لى أيضا بهدوئه المعهود:

كنت أعتبرك أكثر علما وثقافة منّى وتفهم جيّدا مدى أهميّة هذه العمليّة من حيث الضّرر الذى سوف تلحقه بالعدوّ... هذه العملية يا رفيق أحمد إن نجحت وأتمنّى ذالك ستضرب حركة التجارة والنقل الثقيل بقوة لا تتصوّرها وستعطينا القدرة على إضعاف قوّة العدوّ اللوجيستيكية وهو أمر يمكنك أن تتصوّر أهمّيته لإستمرارية الثورة وأيضا إنتصارها، أما إعادة بناؤه بعد التّحرير الكامل فلا تخشى لأنّنا سنعيده بأيدينا ولن يكلّفنا مقابل ما سيكلّفنا ترك هذا الخطّ على حاله يقدّم أجلّ وأعظم الخدمات للعدوّ.

ودّعته ورفاقه بإعجاب، وبقيت واقفا أتأمّلهم وهم يسيرون فى نسق منظّم متسلّقين التلال الجنوبيّة حتى إختفوا من ناظرى...كان منظرهم يبدو لى وكأنّهم قافلة جمال محمّلة بالبضائع أو المؤن، حيث كان كلّ منهم يحمل على ظهره حقيبة مليئة بالأثقال من المتفجّرات وكان وهو يسير فى مقدّمتهم وبندقيته الـ سيمانوف التى يعشقها كثيرا على كتفه الأيمن، كانت خطّة التفجير تتمثّل فى إيقاف القطار قبل النّفق بـ مائة متر، وإنزال العمّال منه ثمّ إطلاق القاطر الأسود لعنانه ليدخل النفق، وعندما يصل إلى منتصفه يصطدم بعبّوة متفجّرات من نحو خمسين كيلو جراما من مادة شديدة الإنفجار، فيتحطّم تماما بل يتهدّم النفق عليه وتكون تلك نهاية خطّ السكك الحديدية، طبّق مع رفاقه تفاصيل الخطّة بحذافيرها ودخل القاطر الأسود النفق وخرج من الناحية الثانية سليما ثمّ توقّف!؟

فكانت حسرته ورفاقه شديدة ومؤلمة، لكنّ لم يتأخّر ثانية فى إتّخاذ القرار وهرع بكلّ إندفاع داخل النّفق ليس لشيئ، وإنّما للحاق بالعبوّة لإبطال مفعولها طمعا فى إستعادة كميّة المتفجّرات الهائلة التى كانت فى ذالك الزمن تعنى وتساوى الكثير وبالرغم من نداءات رفاقه أن لا يفعل ظلّ راكضا بإصرار.

وكان ما كان إنتفجرت العبوة اللعينة لحظة وصوله إليها فحولته إلى بخار بحث رفاقه عن بقايا جثمانه فلم يجدوا له على أثر سوى من الجانب الأشيب من جمجمّته ملتصقا بجدار النّفق على بعد عشرين مترا كان هذا المناضل الشجاع هو الشّهيد (حامد راقى) عامل السّكك الحديدية قبل إلتحاقه بالثورة فى العام 1967 من مواليد مدينة (قندع) قائد مجموعة الهندسة فى (قوّات التّحرير الشّعبية) فى ذالك الوقت.

تذكّرتك يا رفيقى يوم تحرّك القطار فى يوم السّبت فى 4 يناير 1997 من (أماترى) فى مدينة (مصوّع) إلى محطّة (ماى عطال) بعد أن أعدنا إليه الحياة بأيدينا، كما تنبّأت وآمنت،أظنّ هكذا كافأك وطنك العزيز الّذى أحببته وكرّمك أيّما تكريم يــا حـامد!!! والآن أحكى لك ما حدث للقطار من بعدك... لعمرى!

لم يستمرّ القطار فى السّريان لأكثر من أربعة أعوام بعد إستشهادك فقد توقّف نهائيّا منذ عام 1975 فقد أكمل رفاقك من بعدك الرّسالة، فقد حملوا قضبانه وقت الشدّة لتحميهم من وابل القذائف والصواريخ، صانعين منه درعا وحصنا منيعا تكسّرت عنده كلّ قوى العدوّ وأسلحته الفتّاكة وإنتصروا به، ثمّ حملوه إلى مكانه، على ظهورهم، وأعادوا القطار ليجرى ومن جديد كسيرته الأولى، تذكّرتك فى الصّفارة التى أطلقها القاطر الأسود (دروى) معلنا الإنطلاقة الجديدة التى أبصرتها قبل ربع قرن بعقلك الشّفاف، تذكّرتك حين قرأت مظاهر العزّة والفخر والكبرياء، فى وجوه زملائك عمّال السّكك الحديدية القدامى، رغم كبر سنّهم ورغم تجاعيد زمن الشّقاء على محياهم.

هؤلاء الفولاذ ورغم الشيخوخة التى حنت ظهورهم سقوا الفولاذ بعزمهم وإرادتهم الّتى لا تنحنى... فتحرّك القطار.

"قبل هذه العملية كان حامد ورفاقه قد أغلقوا كلّ الطّرق المؤدّية إلى قاعدتنا (المؤقّتة) فى المثلث الخطر بالألغام المضادة للآليات العسكريّة والشاحنات وناقلات الجند المدرّعة، وأذكر أنّنا أعلمنا وحذّرنا شعبنا وكذالك أصحاب البساتين فى سهول (شبّح) و (متكلْ أبيت) و (فلفل) و(فاجينا) و(فِشِّى) وأن يخبرونا عن تحرّكاتهم على طريق الشّاحنات النّازلة من عقبة (عناقلّى) نزولا إلى السّهول المؤدّية إلى (قحتيلاى) حتّى تساعدهم وحدات الهندسة على المرور بسلام".

إنتهت القصة وهى درسا لمن أراد أن يعرف أىّ الأثمان دفعت لتحرير الأرض والإنسان الإرترى... رحمك الله يا ود (قندع) أرض العزّة والشّموخ أرض الثورة والثّوار وقريبا لنا مع مناضل وشهيد آخر منها هو (شمسى) وحتى القاكم فى قصة الشهيد شمسى لكم تحية.

Top
X

Right Click

No Right Click