محطات مظلمة في تاريخ الجبهة الشعبية.. والكثير من محطاتها كانت مظلمة

بقلم الأستاذ: محمد علي صالح هنتولاي

الحدث: مذبحة نفذتها قوات الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا داخل الأراضي السودانية.

المكان: مدينة قرورة - على الحدود بين السودان وإرتريا.

التاريخ: 26 مارس.. من عام 1997م.

ما أقصر مساحات الزمن وما أقربها عندما يكون الحدث محفوراً في الذاكرة.. وجرحا غائراً يؤلمك كلما ورد ذكر اسم "قرورة" على ألسنة الناس.

حاولت عدة مرات.. هنا في جداري المتواضع على هذا الفضاء الافتراضي أن أكتب شيئاً عن مدينتي التي كانت وادعة وهانئة في يوم من الأيام.. قرورة التي تربيت فيها وعشت فيها أجمل سنوات طفولتي.. حاولت أن أكتب عن أهلها.. وطبيعتها وأرضها وسمائها.. لكن في كل مرة أبدأ فيها شيئاً كنت أتوقف.. لم أكن قادرا على المواصلة.. لأنه كان هناك ثمة شعور كان يحاصرني.. بأن هناك أمر آخر كان الأجدر بالكتابة.. كان الأولى أن أبدأ به.. لكنني كنت أتهرب من هذا الحدث كلما وقف أمامي.. وكلما توقفت عقارب الزمن عند هذا التاريخ... بل كنت أتنازل له عن ما بدأت الكتابة عنه في مواضيع أخرى.. كان هذا الحدث باختصار شبحاً ظل يقف أمامي وعلى عاتقه الكثير من الأسماء والصفات والوجوه والذكريات.. لآباء وأعمام أعزاء.. وأساتذة أجلاء.. وأخوة وأصدقاء أعزاء.. كان هذا الحدث يحاصرني بعينيه الغائرتين.. ويخاطبني بلسان الحال.. ما هذا الترف..

غير أنني اليوم.. قررت أن استجمع قواي وأكتب ما تيسر لي عن الحدث الذي طالما تهربت منه كثيراً.. مجزرة قرورة..

لكنني.. عندما بدأت وقفت حائراً.. لا أدري من أين أبدأ.. وأين يمكن أن أنتهي..

فالتاريخ الذي أشرت إليه أعلاه 26 مارس 1997م لم يكن البداية.. بل لم يكن مفاجئاً عندما حدث.. لو نظرنا إليه في سياق أحداث أخرى قاسية ومؤلمة عايشتها قرورة وأهلها على يد تنظيم الجبهة الشعبية.. فمن يتذكر حوادث الاغتيالات التي كانت تنفذ ليلاً وفي بيوت الآمنين وأمام الأطفال والنساء والشيوخ ابتداء من اغتيال "الشهيد صالح طعديتاي الذي أفرغوا فيه مسدساً كاملاً على مرأى ومسمع طفلته الوحيدة التي لم تتجاوز سنتين أو ثلاث وزوجته وخاله المسن"، واغتيال شخصين أو ثلاث في تلك الليلة في عام 1983 (تقريباً).. ومروراً باغتيال (الشهيد نوراي ود قوع) أمام أطفاله السبعة... كانت أكبرهم حينئذ طفلة لم يتجاوز عمرها الحادية عشرة.. تخيل بقية أعمار اخوتها وأخواتها الصغار !!.. سبعة أطفال شاهدوا الرصاصات تخترق جسد أبيهم.. وهم يتصايحون.. في مشهد لم نسمع عنه في أحلك روايات التراجيديا كان هذا في إبريل 1992م.. مر الحدث وكأنه لم يقع أبداً بكل تفاصيله السوداء.. فمن أين لقرورة وأهلها أن يسمع الناس بمعاناتهم.. ولكنه الإعلام.. يضع أقواماً.. ويرفع آخرين..

صالح طعديتاي أو نواري قوع لم يكونا يحملان السلاح.. ولم يكونا من ضباط أركان حرب الجيش الإثيوبي أو من عملاء الاستعمار..حاشاهما رحمهما الله.. جريمتهما الوحيدة أن طعديتاي كان قيادياً في جبهة التحرير الإرترية وكان قد عاد لتوه من مؤتمر عقدته الجبهة في إحدى المناطق في بركا.. بينما نوراي قوع كان يؤيد حركة الجهاد في نسختها الأولى.. جريمتهما الوحيدة أنهما كانا فقط مختلفين مع طريقة الجبهة الشعبية وأسلوبها ومنهجها.

لم أصل بعد إلى الحدث الذي قلت سأكتب عنه.. هذه فقط من الأحداث التي تم تشييع ضحاياها.. وهناك أحداث أخرى.. اختفاء قسري.. واعتقال سري.. لا ندري حتى الآن ما حل بالمغيبين والمعتقلين.. قرورة وأهلها عايشوا الظواهر التي عمت إرتريا اليوم قبل التحرير بسنوات طويلة.. ولعلهم مع غيرهم من الإرتريين ومن المهتمين بقضية إرتريا بحكم وشائج القربي وصلات الأرحام.. لعلهم أدركوا حقيقة الجبهة الشعبية في وقت مبكر.. لأنها خصتهم بشيء من ممارساتها الإجرامية التي تبينت للجميع فيما بعد..

ألم أقل لكم أنني كنت أتهرب ؟ نعم كنت أتهرب لأن الحكاية أبعد من ذلك.. وأكبر من مجزرة 26 مارس 1997 وحدها.. الأمر أكبر من الاحتمال.. لكن دعوني أقفز بكم فوق الكثير من المحطات والأحداث.. ولنتحدث عن تلك المجزرة الرهيبة..

لقد مهدت الشعبية وخططت لهذه المجزرة بشكل محكم.. العلاقات السياسية بين الخرطوم وأسمرا كانت متوترة.. وكل فصائل المعارضة السودانية كانت آنئذ مستضافة في أسمرا.. كلها كانت تتلقى تعليماتها من هناك.. وكانت مجزرة قرورة من المحطات السوداء التي تورطت فيها بعض فصائل المعارضة السودانية عندما اتخذتها الجبهة الشعبية غطاءً لتنفيذ مخططها.. ولتنفيذ عمليات اغتيال واعتقالات كانت قد خططت لها سلفاً.. حتى تخرج قرورة من خارطة الأحداث.. فوقعت المعارضة السودانية في ذلك الفخ.. وأعلنت يومئذ عبر وسائل الإعلام العالمية.. أنها هي التي احتلت قرورة.. لكنها في واقع الأمر.. كانت مجرد مغفل نافع.. (حتى لم تطلق طلقة واحدة) تم استغلالها في أبشع مهمة في تاريخها.. وهذا أمر معلوم بالضرورة لعناصر المعارضة نفسها فضلا عن أهالي قرورة الذين جرت الأحداث أمام أعينهم..

الغزو كان مفاجئاً ومباغتاً حدث قبيل طلوع الخيوط الأولى لفجر يوم الأربعاء 26 مارس 1997.. بدأ الهجوم الغادر بمركز الشرطة والأمن ثم حامية قرورة التي لم تبد مقاومة تذكر.. وتم القضاء عليها في وقت مبكر.. فلم يكن أمام أهالي قرورة من الشيوخ وأساتذة المدارس الابتدائية والتجار والشباب من حمل السلاح لمواجهة الغزو الذي استهدف ديارهم.. فقاتلوا جميعاً واستبسلوا.. وهم الذين عرفوا الجبهة الشعبية وعانوا الأمرين من ممارساتها الإجرامية.. قاتلوا قتال الأبطال حتى نفذ السلاح وسكتت البنادق في أيديهم.. لم يولوا هاربين.. فحاصرتهم جنود الغدر وتم أسرهم.. واقتادوهم إلى جهة غير معلومة.. وفي اليوم التالي رموا جثثهم في ساحة مسجد قرورة العتيق وأجسادهم مضرجة بالدماء.. بعد أن قتلوهم مقيدين.. تخيلوا هذا المنظر.. كأننا في البوسنة والهرسك أو في بورما.

القيادات التي تمت تصفيتها في ذلك اليوم كانوا يمثلون النخب التي كانت تقوم عليها مدينة قرورة وعمادها الذي طالما استندت إليه.. كان بينهم المعلمين والكوادر الطبية ووجهاء المجتمع وشيوخه.. حتى المسنين الذين لم يكن بمقدورهم حمل السلاح.. لم تشفع لهم ظهورهم التي احدودبت بفعل السنين.. لأن جباههم العالية كانت بعبعاً أخاف أمثال "ودي شقع" الضابط الذي كان ينفذ الاغتيالات بيديه أمام الكلاب التي كانت تسير خلفه وتدله على بيوت الأبطال.. من سخرية القدر أن هذه الجريمة تم تنفيذ بعض أجزائها بعملاء من داخل المجتمع.. وقيادات من أبناء المنطقة كانوا في صفوف الجبهة الشعبية.. تم استخدامهم للمشاركة في تلك المجزرة.. "ودي شقع" كان يقتل المسنين الذين لم تسعفهم ظروفهم الصحية.. وأحرق ديار الأبطال الذين حاربوه حتى نفذت ذخيرتهم..

أحداث هذه المجزرة نهايتها مفتوحة.. ولا تزال ما ثلة أمام الأجيال حتى هذه الساعة.. فالأطفال الذين فقدوا آباءهم في ذلك اليوم أصبحوا اليوم شباباً ولا يزالون يتساءلون.. لماذا حدث ما حدث.. ومن الذي سيعيد لهم الحق.. من سيثأر.. كنا نتوارى ونتهرب عن الكتابة حتى لا تقع أعينهم على ما نكتب.. فيتأثرون.. لأننا ببساطة لم نكن على قدر المسؤولة.. لأننا لم نثأر..

غير أنني اليوم قلت أكتب ما تيسر لي عن ذلك اليوم الأسود.. لعله يخفف عني ما أجده كلما وقفت أمام هذا التاريخ..

لم أجد نهاية مناسبة للموضوع.. لأنه يأبي أن يصل إلى نهايتيه..

Top
X

Right Click

No Right Click