الخلاوي القرآنية في مدينة كرن - الحلقة الخامسة والأخيرة

بقلم الدكتور: جلال الدين محمد صالح

المصاحف في القرآن: اللوح الخشبي كما أسلفت هو وسيلة التعليم الأولى في القرآن، عليه يكتب الطالب مقطعه،

الخلاوي القرآنية

ومنه يحفظه، أما المصحف فهو بيد الشيخ، يرمي منه، ويراجع فيه، ولا يكلف الشيخ الطالب بشرائه، لغلاء ثمنه، وندرة وجوده، وبعض من المشايخ يحتفظ بمصحف مخطوط، بخط يدوي، ربما ورثه عن قريب له، أو منح له من شيخه، أو اشتراه من خطاط، أو خطه بنفسه، تراه يعتني به غاية الاعتناء، ولا يدع أحدا من صغار الطلاب يقترب منه، ويلمسه، يحفظه في حافظة من القماش، مفصلة على مقاس المصحف، لها حبل تعلق به، ورباط يلف عليها، عند إغلاقها، تعرف بـ(البورسة) ثم صار حصول طلاب القرآن على المصحف أمرا ميسورا، حين أحضر والدي الشيخ محمد صالح حامد رحمه الله، مؤسس مؤسسة أصحاب اليمين التعليمية من بلاد الحرمين الشريفين كمية من المصاحف القرآنية، وزعت على كافة خلاوي إرتريا، مقابل خمس وعشرين سنتا إثيوبيا، تغطية لتكاليف الشحن، وأجرة المخزن، وقد جرى توزيعها من دكان حجي صايغ، بسوق الصاغة، في مدينة كرن، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وكنت يومها صغير أرقب والدي وهو يقوم بتوزيعها، يفد إليه شيوخ القرآن في مدينتنا كرن، ليأخذ كل منهم حظه ونصيبه من هذه الهدية العظمي، المصاحف القرآنية.

القرآن والدراسة في المدارس الحكومية:

من شدة حرص بعض الأسر الكرنية على ارتباط أبنائها بالقرآن ظلت تسعى إلى التوفيق بين دراستهم في المدارس الحكومية، وقراءتهم في القرآن، فإذا كانت الدراسة صباحا من نصيب المدرسة، فإن الفترة المسائية تكون من نصيب القرآن، وإذا تعذر التوفيق بينهما لأمر ما كأن تكون الدراسة المدرسية صباحا ومساء، فإن الطالب يأتي إلى الشيخ مبكرا في الصباح، ويكتب مقطعه من القرآن ثم يذهب إلى المدرسة، وفي المساء بعد المغرب يحفظ مقطعه، ويعرضه على الشيخ، وهكذا، مثله في ذلك مثل الراعي، وعلى هذا المنوال ارتبط نفر من الطلاب بالقرآن، بالرغم من دراستهم في المدارس الحكومية، ونمت فيهم الثقافة القرآنية، وتكونت عندهم حصانة إسلامية، تذكرهم بماضيهم الإسلامي، كلما حاولت فئة ضالة إضلالهم، وحتى إن أخطأوا طريقهم لفترة من الزمن استيقظت فيهم ذاكرة القرآن لتعيدهم إلى رشدهم، إلا من حقت عليه الضلالة، ومشى مكبا على وجهه، لا يدري إلى أين هو سائر.

القرآن تراث لا بد من حمايته:

هذا التراث الكرني في العناية بالقرآن وتربية الأبناء على تلاوته، وقراءته هو بالتأكيد تراث كل مسلمي إرتريا، في مدنهم وقراهم، ولا بد من المحافظة عليه، وإحياء ما اندرس منه واختفى، ففي ذلك بناء الشخصية الإسلامية الإرترية على أسسها الحضارية، وربطها بثقافتها الإسلامية، وحمايتها من التلوث بالأفكار التحريفية، والتوجهات الانحرافية، ولا بد من تطوير الخلاوي القرآنية، بحيث تواكب تطور عصرها، ويجد فيها الطالب من المحفزات ما يدعوه إلى التوجه إليها، ويشجعه على القراءة فيها، وذلك بتكوين لجان مهتمة، وجمعيات متخصصة، في التعليم القرآني، توثق تاريخ الخلاوي القرآنية في إرتريا كلها، وتاريخ من قام عليها، من المشايخ الذين علموا فيها، والأسر التي أنشأتها، وتوفر المصحف، والمعلم المجود، و تهيئ المكان المناسب، وترصد الجوائز للحفظة من الطلاب، وتجري المسابقات بين حفاظ المدن أو الريف، على مستوى الوطن كله، ثم بين الفائزين منهم، لتختار منهم من يمثل مسلمي إرتريا في المسابقات الدولية لحفظ القرآن، التي تقام سنويا، هنا وهناك، من عالمنا الإسلامي، وتتصل بالمحسنين الإرتريين، وغيرهم من أجل بناء أوقاف خاص بالخلاوي القرآنية، ينتفع من دخله الشيخ المعلم، ويصرف من ريعه على داخليات تستقبل أبناء الريف الذين لا يجدون من يكفلهم من أسر المدينة، وتوفر لهم الزاد اليومي، ويتخرج من هذه الداخليات طالب القرآن وهو يتقن بجانب حفظه للقرآن صنعة يعيش منها، نجارة، كهرباء، أسس التجارة، وأسلوب تعاطيها، ترجمة شفهية، وتحريرية، من لغة إلى أخرى، فن التعامل مع الأجهزة الإلكترونية، التعامل مع الكمبيوتر، وذلك بإدخال المتفوقين، والمقتدرين، من هؤلاء الطلاب معاهد، ومدارس، وكليات متخصصة، على حساب، ونفقة هذه الأوقاف، وبهذا تساهم الخلاوي القرآنية بمؤسساتها الاقتصادية، في تخريج طلاب من أبناء المجتمع، ذوي كفاءات علمية متنوعة، ونماذج يحتذى بها ويقتدى في الحياة العلمية والعملية، وليس بالضرورة أن يتخصص كل طلاب القرآن في الدراسات الشرعية، بدخول المعاهد الإسلامية، والكليات الشرعية، كما كان من قبل، وإن كان من الضروري تطوير المعاهد الدينية الإرترية أيضا، من خلال التفكير في تطوير مناهجها، ومصادر تموينها وتزويدها، ولعل الحديث اللاحق يكون حول هذا، إذا ما مد الله في العمر، ووجد في الزمن فرصة وسانحة ...الخ.

وكم هو جميل أن تنشأ نقابة باسم اتحاد الخلاوي القرآنية الإرترية، تكون تحت إشراف دار الإفتاء الإرترية، وتكون لها أفرعها في كل المدن الإرترية، وتقوم ببعض المهام التي تندرج في مجال التكافل الاجتماعي، كتأسيس صندوق تأمين تعاوني، يقتطع له مقدار من دخل كل شيخ عضو في الجمعية، ويستقبل الهبات، والتبرعات من أهل الخير، والزكاة النقدية، وغير النقدية، ويوظف في استثمارات مناسبة، بأيد أمينة، وتبنى منه أوقاف، ثم يعود إلى الشيخ في سن التقاعد، أو عند إصابته بمكروه، من مرض يعجز معه عن أداء مهمته، أو يعود إلى ذرية له ضعاف عند الوفاة، وبهذا يحفظ للشيخ قدره، ويوفى له حقه، ولا يكون القرآن والقائمون عليه عالة على غيرهم، وهكذا نحيي تراث (القرآن)، وهكذا يشارك المجتمع في الحفاظ على الهوية الإسلامية في إرتريا، ويحمي ذاته بذاته كما حماها من قبل يوم أراد المستعمر الإثيوبي طمسها، وتذويبها في ثقافته الأمهراوية، لغة وعقيدة، وبهذا يكون القرآن جزءا لا يتجزء من التكوين الثقافي لمجتمعنا.

رحم الله جميع من رحل عن حياتنا هذه من حملة لواء القرآن، من الذين سبقونا بالإيمان، من مشايخنا الكرام، وتسببوا في تعليمنا، وبارك في الذين خلفوهم، واهتدوا بهداهم في تعليم القرآن، والسهر على حفظه وتحفيظه، خيركم من تعلم القرآن وعلمه، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ورد كيد المتآمرين على القرآن وخلاويه، من الذين حرضوا على إغلاقه، ويرون في إحيائه تخلفا ورجعية، من فلول الماركسيين وملحديهم، ويمكرون، ويمكر الله، والله خير الماكرين.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click