الفنان سعيد جعلي صديق النوارس والفنارات الحزينة

بقلم الإعلامي الأستاذ: محجوب حامد آدم - إعلامي، شاعر وقاص ارتري

لم يذهب بعيداً عن حرقيقو و مصوع، عندما هّم بالرحيل قسراََ كسائر الإرتريين، تحت ضغوط السياسات

الإستعمارية الطاردة؛ بل ذهب في محازاة الشاطيء نفسه إلى بورتسودان ومنها عبر للضفة الأخرى إلي جدة، ثم عاد مرة أخري بعد غياب طويل إلي مصوع.

هذه هي المدن والأماكن التي آ ثر سعيد جعلي العيش فيها، هائماً بين شاطئ البحر الأحمر مسحوراً بجنياته وحورياته وأصدافه الزرق، لذلك كان من الطبيعي جداً أن يصبح هذا الأنسان فنان مرهف الحس والمفردة، وأن يمتلك قاموس شعري جميل مغسول بمياه البحر ومضمخ بأنفاس أسماكه الملونة وفناراته الموحشة.

تعرفت الفنان (سعيد جعلي) من خلال إلبومه الغنائ (ظلميني) الذي (دوخني) من أول إستماع إليه، ووجدت من مفرداته وألحانه ذلك الأثر الجميل الذي يتركه عطر عتيق في مسام الروح.

لقد أحدث هذا الألبوم، ضجة هائلة بأغنياته الرائعة وأسلوبه المتفرد في عالم أغنية (التجراييت)، كما أثار جدل عدد كبير من النقاد حوله ، وتفاؤل مدهش بهذا الصوت القادم بقوة، الذي كان من الممكن أن يشكل لونية جديدة نسبة لمفرداته التي لا تشبه غيره أبداََ، بجانب إضافة جميلة أخري إلي الألحان المميزة والمسكوبة علي النصوص الشعرية بأسلوب حديث، مستفيداً من الإيقاعات المتعددة التى يزخر بها تراث وأغاني التجراييت.

إنتشر صيت الفنان (سعيد جعلي) بصورة واسعة بين أوساط المجتمعات الناطقة بالتجراييت في إرتريا والسودان، سيما - بين أوساط الشباب الذين أولعوا بفنه ورددوا أغنياته بحب صادق.

هذا الحب جاء نابعاً من كونه ينتمي إليهم بكل بساطة، ويحمل أحلامهم، همومهم، شجونهم، جنونهم وكل ما يمثل لهم في تلك المرحلة المهمة من العمر.

بالفعل، يعد الفنان (سعيد جعلي) من أكثر الاصوات الغنائية التي تستقطب الشباب، فنان من الطراز الأول، كامل القسمات والأدوات. تغني للحب والعاطفة في كل تجلياتها المفرحة والمحزنة، بما يمتلكه من صوت (رويان) تحاصره هالة حزن تشبه أغنياته العاطفية الموغلة في الحنين، تفيض وتنحسر بالجوى ولوعة الفراق ، مجسداً بذلك نموذجاً جديداً في عالم أغنية (التجراييت)، وهو يشبه إلى حد كبير الفنان السوداني/ الطيب عبدالله في مشروعه الفني.

(حزين أنا إب فتيكي
واسك مُدول إقل إكهلو
طرف بحر لمسكبكي
طبح مدر إزايرو
أنا و إنتي فناتينا
فناتينا
فناتينا)

عاش الفنان (سعيد جعلي) سنوات طويلة في مدينة جدة، عشق حواريها، أهلها، رمال شواطئها، وأجاد لهجة أهلها وتأثر بطقوسهم وعاداتهم ، ومنها - أى؛ مدينة جدة - كانت أحلامه وأطيافه تشرئب نحو مدينة مصوع.. فينكب على أوتاره يغني بلغة أهله في (حرقيقو) و (باضع) أروع الأغنيات.

أنجز هناك إلبومه الأول (ظلميني) الذى صنع شهرته، ولكن ما يحز في النفس شيئا أن هذا الألبوم ضل طريقه في البدايات ، فقد تسربت نسخة منه قبل أن تكتمل عملية طباعته وتوزيعه وإنتشر مجهولا، لا يحمل مقومات (النسخة الأصلية) ودخل (سعيد الجعلي) كل البيوت وأطربها دون أن يرى أحدا صورته، أو يشاهد له أغنية مصورة !

هذا الفضول راود الناس كثيراً في وقت لم يكن التطور التكنلوجي متاحاً كما الآن، وهذا ما جعل السؤال ممكنا لدى الكثيرين:

من هو سعيد جعلي ؟!!

عاد الفنان (سعيد جعلي) بعد عام (2000) تقريبا إلي الوطن يجتر أشواقه وحنينه وفي حقيبته إلبوم جديد غير مكتمل يحمل إسم (صابر) ومشروع فني كبير يحتاج إلي صبر ومثابرة وإمكانيات مادية ضخمة ليتحول إلي واقع ملموس.

تنقل بعدها الفنان (سعيد جعلي) بين أسمرا وجندع ومصوع، ثم جاء به أخيراً.. الأخ (عبدالقادر عبي) في زيارة خاطفة إلي كرن.

كان إنطباع لقائي الأول به، لتكتمل عندي الصورة بالصوت الذى أحببت.

إنسان بسيط، متواضع، ينظر إلى الحياة بعين راضية وأحياناً بعين ساخرة، يمزج الرضا بالسخرية فينتج عن ذلك نظرة جديدة تشبه الكثير من تصرفاته.

وكما يقال؛ بين الإبداع والجنون شعرة، فلقد رأيتُ تلك الشعرة، وكيف يلعب بها الريح في حى (عدحباب) حيث قضيا معي (جعلي وعبي) إسبوعاً في بيتي المتواضع.. كان إسبوعاً مترعاً بالأغنيات، تحول فيها داري الصغير إلي مغن جميل، ترتفع فيه عقيرة الفنان المرهف (سعيد جعلي) بأعذب الأغنيات، عندما يطل الليل بأنسامه الجميلة، وتحمّل جيراني بكل أدب وجلد الجنون الذي مارسناه عليهم طيلة إسبوع كامل، إستمتعنا فيه بعدد من الأعمال الجديدة واللافتة بألحانها ومفرداتها وصوت صاحبها الذى يزيد من رقعة الحب في دهاليز قلبي كل مساء.

في هذا الإسبوع زار داري أفواج من شباب الحى لرؤية الفنان (سعيد جعلي) وذاع خبر وجوده ضيفاً عندي.. في كل أرجاء المدينة. كنت أستقبل عدد من المكالمات من بعض الأصدقاء الأوفياء تحمل دعوات كريمة لحسن ضيافته.

وقد كانت لنا عدة محاولات مع الأخ/ عبدالقادرشيخ زايد (أبورامي) لإقامة حفل كبير في كرن بائت جميعها بالفشل نسبة لقصر الزمن الذى لا يمكّن العازفين من أداء أغنياته الجديدة في وقت وجيز، وتخوفه هو أيضا من خوض التجربة هكذا بهذه السرعة.

بهذه البساطة شاهد بعض أهل كرن لأول مرة الفنان/ سعيد جعلي ذلك الأسمر النحيل.

وفي كرن وعن طريق الأخ/حسن إسماعيل (ماستر) الذى يدير مركزا للإنتاج الفني بالمدينة تم طباعة إلبوم (ظلميني) مرة ثانية، لكن بطريقة لائقة تشمل كل حقوق الطبع والتوزيع.

أقبل الفنان (سعيد جعلي) الي أسمرا وإلتحق بواحدة من الفرق الفنية محاولاً من خلالها تقديم ما لديه من أغنيات لجمهوره كلما سنحت له الفرصة بذلك.

وظل إلبوم (صابر) صابراً حتي يجد له الدعم الكافي لإخراجه بالطريقة المناسبة، ورغم العديد من المحاولات التي كانت تجري على قدم وساق، من أجل صدوره، - إلآ انها لم تفلح في مساعيها.

ولعل أهم مما يجدر ذكره - من ذلك الدعم؛ ما قام به الأخ والصديق (خالد محمد طه) الذى تبنى المشروع بالكامل ودعمه مادياً حتي تتم عملية طباعته وتوزيعه، على أن يسترد المنصرفات من عوائد البيع، وبالفعل تم التعاقد مع مؤسسة إنتاج فني وتم تسجيل كل الأغنيات، وقد إستمعت لنموذج من التسجيل الأول مع الأخ (أبو رامي) وسعدت بذلك لأنني إستمعت لعمل متكامل من وجهة تقييمي كمستمع عادي.

إلاَّ أن هذه التجربة، قدر لها أيضا بالفشل لعدم قناعة الفنان (سعيد جعلي) بالتوزيع الموسيقى.

من يومها ضاع إلبوم (صابر) وإخوته الذى كان من الممكن أن يشكل إضافة حقيقية للمكتبة الموسيقية لأغنية (التجراييت).

إضافة إلى ذلك؛ زادت وطأة الواقع الإقتصادية في تلك الفترة، الأمر الذي إضطره للإلتحاق بالعمل في االشرطة الإرترية حيث تم توزيعه بالفرقة الفنية المركزية في العاصمة أسمرا.

إلتقيتُ والفنان (سعيد جعلي) مرة أخري وحكي لي عزوفه عن الغناء وتفرغه التام لكتابة النصوص الغنائية وتأليف الألحان لبعض الفنانين.

في غمرة هذه النوبة التي غشته متسربلة باليأس والجنون وزع أغلب أغنيات إلبوم (صابر) لعدد من الفنانين الشباب، وقد حظي الفنان الجميل (أخليلو مبرهتو) بأغنية (صابر)، أكثر الأغنيات التي أحببتها في هذه المجموعة الجديدة. لقد غناها بإسلوبه المميز بعد أن أضاف اليها شيئاََ من ذائقته الخاصة به، كما أنتج لها فيدو كليب جميل، الأمر الذي ساعد اكثر في إنتشارها ووصولها لعدد كبير من الناس.

من يعيد الفنان (سعيد جعلي) إلى رشده، ويقنعه بتلك الهبة الصوتية المتفردة، وأداءه الرائع الذى أحببناه بوهجه الساطع الفريد من نوعه !

وما الموسيقى؛ سوى غذاء الروح. وطرب يلامس دواخلنا، وكل ما يحمله الفن والإبداع من جماليات تسمو بنا وتخلق الإبداع !.

شكرا الفنان الجميل (سعيد جعلي)، ولكل الأيام الطروبة الموشحة بالجمال.

متعك الله بموفور الصحة والعافية، وفي إنتظار جديد الإغنيات مرة أخرى، وذلك الطرب الأصيل.

 

• الإ سم: محجوب حامد آدم

• اعلامي وكاتب ارتري،

• رئيس اتحاد الكتاب الاريتريين بالمهجر،

• المسئول الإعلامي لجائزة محمد سعيد ناود للقصة القصيرة،

• عضو اللجنة الاستشارية للاتحاد العربي الافريقي للتكامل الاقتصادي والتعاون المشترك،

• منتج ومقدم برامج سابق بالتلفزيون الاريتري،

• محرر سابق بالملحق الثقافي لصحيفة ارتريا الحديثة،

• شاعر وقاص ومهتم بثقافات منطقة القرن الأفريقي،

• صدر له ديوان شعر باسم "أندلسية العينين" عن دار النخبة للطباعة والنشر والتوزيع عام ٢٠٢٠،

• يعمل كصحفي مستقل.

Top
X

Right Click

No Right Click