هل ستخرج إريتريا من عزلتها شبه القسرية قريباً؟

بقلم الأستاذ: ياسين محمد عبد الله - ناشط سياسي وحقوقي إرتري

تعاني إريتريا من نوعين من العزلة، واحدة اختيارية والأخرى شبه قسرية. الاختيارية هي تلك فرضها النظام على شعبه لأنها شرط

ضروري لنجاح مشروع بناء الأمة (بثقافة واحدة سائدة) وضمان استمرار نظام حكم الفرد المطلق. شبه القسرية هي تلك التي فرضها المجتمع الدولي على النظام بسبب سياساته وتعنته وهي التي يسعى النظام للخروج منها بمساعدة أصدقاء جدد وقدامى.

خلفية:

ترتبط بداية العزلة شبه القسرية بحدثين وقعا قبل أكثر من 15 سنة. الحدث الأول هو الحرب مع إثيوبيا (1998-2000) وما جرى خلالها وتبعها من أحداث ومواقف؛ خصوصاً قرار محكمة دولية في 2002 قضى بتبعية المنطقة التي انطلقت منها شرارة الحرب " بادمي" لإريتريا ورفض إثيوبيا الانسحاب من تلك المنطقة وعدم اتخاذ اللاعبين الدوليين والإقليميين؛ خصوصاً الولايات المتحدة مواقف حاسمة تجاهها. تمثلت ردود أفعال النظام الإريتري في الانسحاب من منظمة الإيقاد، تجميد عضويته في الاتحاد الإفريقي، طرد المنظمات الإنسانية الدولية ومراسلي الصحافة الأجنبية، التدخل في الصومال وكان الأسوأ، استخدامه عدم الانسحاب الإثيوبي كمبرر للاستمرار في انتهاكات حقوق الإنسان التي ظل يرتكبها ضد شعبه.

الحدث الثاني، داخلي، وهو اعتقال سلطات الأمن الإريترية في 18 سبتمبر 2001 مجموعة من قيادات الدولة والحزب الحاكم كانت قد وجهت انتقادات لرئيس الدولة أسياس أفورقي وطالبته بتطبيق الدستور المجمد منذ تاريخ إقراره في مايو 1997 وتفعيل مؤسسات الدولة، وإغلاق هذه السلطات الصحف المستقلة واعتقال 10 من الصحفيين العاملين فيها وإرتريين اثنين كانا يعملان في السفارة الأمريكية في أسمرا بتهمة التجسس. أدى الحدث الثاني مباشرة إلى توتر علاقات إريتريا مع الاتحاد الأوربي. احتج السفير الإيطالي والذي كان في الوقت نفسه سفيراً للاتحاد الأوربي على الاعتقالات، فاتهمته إريتريا بالتدخل في شؤونها الداخلية وطردته من أراضيها. سحبت بقية دول الاتحاد الأوربي سفراءها احتجاجاً على طرد السفير الإيطالي. تدهورت أيضاً العلاقة مع الولايات المتحدة بسبب الانتقادات التي وجهتها لاعتقال مجموعة القيادات التي عًرفت لاحقاً باسم مجموعة الإصلاحيين وإغلاق الصحف المستقلة واعتقال صحافييها وبسبب مطالبة الولايات المتحدة المتكررة بإطلاق سراح العاملين الإرتريين في سفارتها في أسمرا. لاحقاً صار عدم ضغط الولايات المتحدة للانسحاب من الأرض التي حكم بها لصالح إريتريا، زيادة تعاونها مع إثيوبيا، وتصاعد واستمرار انتقادها لسجل حقوق الإنسان سبباً إضافياً لتوتر علاقات النظام معها.

انتهاكات حقوق الإنسان تفاقم متاعب النظام:

وجهت الدول الغربية، والأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الوطنية والدولية اتهامات للحكومة الإريترية بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان منذ اعتقالات 2001. وقد عين مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في 2012 مقررة خاصة لحقوق الإنسان لإريتريا كتعبير عن قلق المجتمع الدولي إزاء تلك الانتهاكات. قدمت المقررة أول تقرير لها إلى المجلس في2013 وقد اتهمت فيه الحكومة الإريترية بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان بما في ذلك، ممارسة القتل خارج إطار القانون، احتجازها الآلاف من مواطنيها في سجون سرية دون تقديمهم للمحاكم وتمديد فترة خدمة مجندي الخدمة العسكرية لفترات أطول من تلك التي يحددها القانون وانعدام الحريات المدنية، السياسية والدينية. وفي 2014، عين مجلس حقوق الإنسان لجنة تحقيق حول أوضاع حقوق الإنسان في إريتريا. في تقريرها الأول الصادر في 2015، قالت اللجنة أنها تعتقد أن بعض انتهاكات حقوق الإنسان في إريتريا قد ترقى لجرائم ضد الإنسانية فمدد لها المجلس لعام آخر ووسع تفويضها لتبحث فيما إذا كانت جرائماً ضد الإنسانية قد ارتكبت في إريتريا. في تقريرها الثاني في يونيو 2016 ذكرت اللجنة أن هناك أسباباً معقولة للاعتقاد بأن جرائماً ضد الإنسانية قد ارتكبت في إريتريا وتقدمت بتوصيات من ضمنها أن يقدم مجلس الأمن ملف إريتريا إلى محكمة الجنايات الدولية.

محاولات النظام الخروج من العزلة:

في البداية تعامل النظام مع العزلة المفروضة عليه بعدم اكتراث أو على الأقل تظاهر إنه غير مكترث بها. تجاهل كل النداءات الدولية بتحسين أوضاع حقوق الإنسان في البلاد. لم يفرج عن أي من المعتقلين السياسيين كما لم يفصح عن أماكن احتجازهم. واستمر في تطبيق برنامج الخدمة العسكرية دون الالتزام بالفترة الزمنية التي يحددها القانون. لم يسمح النظام أيضاً للمقررة الخاصة لحقوق الإنسان منذ تعيينها في 2012، ولا للجنة تقصي الحقائق حول أوضاع حقوق الإنسان خلال فترة عملها التي امتدت لعامين (2014- 2016) بزيارة البلاد.

اكتفت الحكومة الإريترية بالسماح لوفد من مفوضية السامية حقوق الإنسان بدخول البلاد لكن دون تمكينه من زيارة السجون السرية؛ حيث يحتجز الآف السجناء السياسيين. وفيما يتعلق بالمطالبات بتطبيق الدستور المجمد، اكتفى النظام بوعد مبهم من رئيسه، أسياس أفورقي في 2014 بأن مسودة دستور جديدة سُتعد وأضاف في لقاء أجراه معه تلفزيون الدولة في مطلع هذا العام أن العمل في مسودة الدستور جارٍ، لكنه لم يفصح عن أسماء الأشخاص أو الجهة التي كلفت بإعداد هذه المسودة ولا عن جدول زمني لإكمال عملها ولا عن آليات إقرار هذه المسودة. أما الخدمة العسكرية التي وجهت لها أكثر الانتقادات بسبب قسوتها وتسببها المباشر في لجوء الأعداد الكبيرة من الشباب، فقد اكتفى النظام بوعد آخر أطلقه في 2015 يماني قبرآب مستشار الرئيس بأن حكومته ستلتزم بالأجل الذي يحدده القانون للخدمة الوطنية لكن الممارسة القديمة غير القانونية لا تزال مستمرة.

تغيرات إقليمية ودولية تصب في صالح النظام:

نجحت قطر في 2010 في إقناع إريتريا وجيبوتي بالتوقيع على اتفاق وافقا بموجبه على وساطتها لحل نزاعهما الحدودي مما خفف من التوتر في منطقة حيوية جداً للتجارة الدولية. وفي 2016 أطلقت إريتريا، في إطار نفس الوساطة، سراح الأسرى الجيبوتيين لديها، بذا يكون العامل الجيبوتي في أسباب عقوبات مجلس الدولي قد انتهى تقريباً وتبقى الجزء الخاص بالاتهام بدعم حركة الشباب الصومالية وحتى هذا لم تجد لجنة المراقبة الدولية الخاصة بالصومال وإريتريا دليلاً يذكر عليه منذ 2011. لكن مجلس الأمن الدولي جدد العقوبات على إريتريا في نهاية 2016 غالباً لأن حكومتها لم تسمح لهذه اللجنة منذ تشكيلها بزيارة البلاد.

في 2014 وقع الاتحاد الأوربي مع دول القرن الأفريقي اتفاقية لمنع تدفق اللاجئين من هذه الدول. عرفت الاتفاقية باسم الاتحاد الأوربي - القرن الإفريقي، مبادرة طريق الهجرة (عملية الخرطوم). كان لا بد أن تكون إريتريا طرفاً في هذه الاتفاقية فهي المساهم الأكبر في مشكلة الهجرة (في 2014 بلغ عدد طالبي اللجوء الإرتريين الذين وصلوا إلى أوربا 36.000). زار وفد من إدارة الهجرة في الدنمارك في النصف الثاني من 2014 إريتريا وأصدرت الإدارة تقريراً حاولت أن تخفف فيه من حجم انتهاكات حقوق الإنسان وعلى وجه الخصوص، ما يقال عن امتداد الخدمة العسكرية لفترات غير محددة والانتهاكات التي ترتكب في إطارها ومن أن إعادة طالبي اللجوء الإرتريين إلى بلادهم تشكل خطراً عليهم. أثار التقرير الدنماركي الكثير من اللغط فهو يتعارض مع تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية وتقارير المقررة الخاصة لحقوق الإنسان في إريتريا. ومع ذلك أخذت به بعض الدول لتبرير سياساتها الجديدة تجاه اللاجئين، على الرغم من أن الباحثين اللذين كتبا البحث المستخدم في كتابة التقرير تقدما باستقالتيهما من إدارة الهجرة بسبب إصدار التقرير قبل أن يجريا المقابلات الضرورية وقالا إنهما أصيبا بالفزع من النتائج التي توصل إليها التقرير.

كان واضحاً تراجع حماس الدول الأوربية لإدانة انتهاكات حقوق الإنسان في إريتريا من تعاملها مع تقرير لجنة تقصي الحقائق حول انتهاكات حقوق الإنسان وعدم موافقتها على النتائج التي توصلت إليها اللجنة وتوصياتها في 2016 وفي التعليقات حول تقرير المقررة الخاصة في الدورة الأخيرة لمجلس حقوق الإنسان في مارس 2017.

التطور الإقليمي الآخر الذي صب في صالح النظام هو حرب اليمن التي بدأت في مارس 2015. انحاز النظام الإريتري إلى التحالف العربي وقام بتأجير قاعدة عسكرية لدولة الإمارات في عصب. هنا اُعتبر أن النظام فك ارتباطاته مع بإيران واقترب مع حلفاء الغرب في المنطقة.

تطبيع العلاقة أمريكا: شرط للخروج من العزلة:

بذل النظام جهوداً كبيراً لتحسين صورته الدولية. استعان بجهات إعلامية وأكاديمية لإقناع الإدارة الأمريكية السابقة والحالية برفع العقوبات عنه. أحد أشهر المدافعين عن النظام في الولايات المتحدة، هانك كوهين الذي كان مساعداً لوزير الخارجية للشؤون الإفريقية في مطلع التسعينات، كتب مراراً يطالب بإخراج إريتريا من عزلتها وحاول إقناع الإثيوبيين بالمصالحة معها أحياناً بحاجتهم لاستخدام مينائي إريتريا، عصب ومصوع وأحياناً أخرى من خلال تخوفيهم بأن البحر الأحمر في طريقه إلى يكون تحت السيطرة العربية التامة وذلك بعد انحياز إريتريا إلى التحالف العربي في حرب اليمن. واستضاف مركز أفريقيا في المجلس الأطلسي في واشنطن في ديسمبر الماضي حلقة نقاش بعنوان: إعادة التفكير في إريتريا.

قام باحثان من المركز بزيارة إريتريا وكتبا تقريرين الأول حول الاقتصاد الإريتري بعنوان: الاقتصاد الإريتري: الأيدولوجية والفرص، كتبه الدكتور سيث كابلان وهو خبير في أوضاع الدول الفاشلة، والتقرير الثاني عن علاقات إريتريا والولايات المتحدة بعنوان: إخراج إريتريا من عزلتها، كتبته الدكتورة برونين بروتون وهي نائبة مدير مركز أفريقيا في المجلس الأطلسي. دعا التقرير الاقتصادي إلى الاستثمار في إريتريا واعتبر أن انتهاكات حقوق الإنسان في إريتريا ترتكب أيضاً في دول الإقليم الأخرى. أما التقرير الثاني الذي يدعو صراحة لإنهاء عزلة إريتريا فقد أورد العديد من الحجج لدعم دعوته تلك. بجانب الحجة التي وردت في التقرير الاقتصادي من أن وضع انتهاكات حقوق الإنسان في إريتريا ترتكب أيضاً في الدول المجاورة، اعتبرت كاتبة التقرير أن إريتريا أكثر استقراراً من جاراتها وأن تطبيع العلاقة معها يصب في مصلحة الولايات المتحدة.

حسابات والتزامات الولايات المتحدة الدولية والإقليمية أكثر تعقيداً وقد تدفعها لرفض رفع العقوبات الدولية عن النظام إذا لم يذعن للشرعية الدولية. وقد اتخذت الولايات المتحدة بالفعل موقفاً أكثر حزماً تجاه انتهاكات حقوق الإنسان في دورة مجلس حقوق الإنسان في مارس الماضي، ويتوقع أن تكون أيضاً أكثر تشدداً تجاه رفض النظام السماح للجنة مراقبة الصومال وإريتريا بزيارة البلاد. لكن سياسة الإدارة الجديدة تجاه الهجرة قد تصب في صالح النظام وإن كانت هجرة الإريتريين لا تهم الولايات المتحدة بشكل مباشر.
السياسة الأوربية الجديدة تجاه إريتريا تنم عن أنانية وقصر نظر وقد تمثل في بعض تطبيقاتها خرقاً للاتفاقيات الدولية والقرارات التي تحمي اللاجئين. فمن أجل إيقاف الهجرة تريد بعض الدول الأوربية التغطية على الانتهاكات الجسيمة التي ظل النظام يمارسها ضد شعبه لأكثر من 25 عاماً ولدرء مشكلة محدودة تغامر هذه الدول بتجاهل إرهاصات مشكلة أكبر يمكن أن تنفجر في أي وقت في ظل انسداد الأفق السياسي في البلاد وتزايد القهر والمظالم وغياب المؤسسات.

ما يهم الإرتريين العاديين، فيما إذا نجحت جهود النظام للخروج من عزلته شبه القسرية، هو المدى الذي يمكن أن ينعكس فيه هذا التطور المحتمل على العزلة التي يفرضها النظام نفسه على مواطنيه مما جعل من الصعب على من يعيشون داخل البلاد التواصل مع العالم الخارجي، ومن المستحيل على أغلب الذين يعيشون في الخارج ليس فقط العودة والاستقرار في بلادهم بل حتى مجرد زيارتها.

Top
X

Right Click

No Right Click