الفاتح من سبتمبر إحدى وستون عاماً من الثّباتِ على المبادئ والقِيَم

بقلم الأستاذ: محمد عمر عبدالقادر - كاتب وناشط سياسي ارتري

الفاتح من سبتمبر 1961م يوم إستثنائي في تأريخ الشعب الإرتري، إذ انطلقت فيه شرارة الثورة الإرترية

بقيادة الشهيد حامد إدريس عواتي وثلة من الأبطال لم يتوانوا في تلبية نداء الوطن وذلك بإعلانهم انطلاق الكفاح المسلح وبدء مرحلة جديدة في سفر النضال الإرتري، لقناعتهم التامة بأن طريق الإستقلال لا بد له من العبور عبر ساحات الوغى، وأنّ المطالب المُستحقّة لن تتحقق بطريقة سلمية في وقت كان يشهد فيه العالم تلبية مطالب الشعوب المُستعمَرة في التحرر والإنعتاق من الإستعمار، إلا أن الوضع كان مختلفا بالنسبة للشأن الإرتري، إذ صمّ المُستعمِر آذانه عن سماع دعوات الإستقلال الإرترية.

بالرغم من أنّ الشعب الإرتري كان سباقا في المطالبة بالحرية والإستقلال حين أوفد وفده إلى الأمم المتحدة لمقابلة القوى الكبرى وعرْض وجهة نظر الشعب الإرتري في المحفل الدولي، إلا أنّ الموقع الإستراتيجي لإرتريا جعل تلكم القوى تُقَدِّم قدماً وتُؤخِر أخرى من تحقيق المطالب المشروعة، وكان للغرف المغلقة دورها في الإنتداب البريطاني أولاً، ومن ثم إلحاق إرتريا بإثيوبيا فدراليا ثانياً، دون مراعاة لإمكانيات الشعب الإرتري في إدارة دولته.

مايو 1941م بسط المُستعمر البريطاني سيطرته على إرتريا، حيث لم يدّخِر جهدا خلال تلك الفترة لإظهار إرتريا في موقف الدولة غير القادرة على إدارة شؤونها والفقيرة اقتصاديا، وذلك بنقل بعض المصانع خارج البلاد وتفكيك المشاريع التي كانت تحت التنفيذ لخلق حالة من الركود الإقتصادي المخطط له، وكانت القيادات الوطنية مدركة لمخاطر ذلك ونشطت لإنهاء الإنتداب البريطاني سئ الصيت.

زيارة الوفد الإرتري للأمم المتحدة بقيادة القائد إبراهيم سلطان وضّحت بما لا يدع مجالا للشك عن رغبة الشعب الإرتري في إقامة دولته المستقلة، وشرَح الوفد الإرتري مدى خطورة عدم تلبية تلكم المطالب في استقرار منطقة شرق افريقيا، ولكن البريطانيين واصلوا تواطئهم مع هيلي سلاسي وتم إلحاق إرتريا بإثيوبيا، إذ تم ترتيب زيارة لإمبراطور إثيوبيا بتاريخ العاشر من أكتوبر 1952م وذلك بعبوره نهر مرب نحو الأراضي الإرترية، وأقيمت له مراسم إستقبال رسمية في الحدود، حيث أعلن في خطابه عودة إرتريا إلى حضن أمها إثيوبيا حسب زعمه، ومن ثم واصل طريقه نحو العاصمة أسمرا وتبعها بزيارة لميناء مصوع، كان ذاك اليوم من أطول الأيام وأسوءها لكل وطني غيور بإستثناء دعاة الوحدة مع إثيوبيا حيث كانوا الأكثر سعادة إذ قاموا بمضايقة الوطنيين وما علموا أن الوطنية جينات تورث ولا تندثر.

الثورة الإرترية بدأت فتية منذ بواكير اندلاعها، ودخلت في مواجهات ضد المستعمر الإثيوبي افتتحتها بمعركة أدال في يومها الأول والتي أُسِر فيها الشهيد بيرق محمد بيرق كأول أسير في الثورة والذي استشهد في عام 1969م بسجن سمبل تحت آلة التعذيب الإثيوبية، وتوالت المعارك فكانت أومال في 20 سبتمبر 1961م،حين نال فيها شرف الشهادة الشهيد عبده محمد فايد كأول شهيد في الثورة الإرترية، ولم يتوقف سجل المعارك ما بين معركة خاطفة وأخرى مخطط لها بِتأنِ في كل شبر من أرجاء الوطن،مثل تقوروبا وحلحل ومعارك شمال الساحل ومعركة تحرير مدينة نقفة التي احتضنت الثورة منذ مارس 1977م، ومعارك تحرير المدن، وقاو إز، نادو إز، فنقل وكذلك المعارك التي سبقت فجر التحرير في كل من قندع وسقنيتي ودقمحري، وكافة الحملات الإثيوبية التي فشلت فشلا ذريعا للقضاء على نضال الشعب الإرتري حتى تم تحرير بوادي ومدن الوطن بفضل تضحيات الثورة ومعينها الذي لا ينضب ممثلا في القاعدة الشعبية داخل الوطن وخارجه.

لم تتوقف تضحيات الشعب الإرتري بعد التحرير، وذلك حين أراد زيناوي اخضاع إرتريا عبر جيشه الجرار ولكن كان مصيره الفشل كمصير أجداده، فالشباب الإرتري كان سدا منيعا على طول الشريط الحدودي مع إثيوبيا بدءاً من بوري شرقا وامتداداً ببدا ومروراً بزالمبسا وظرونا وعدي بقيعو وبادمي وعلي تنا وحتى أم حجر غربا، جبهات أُعيد فيها بطولات الآباء عبر الأبناء، وهو ما يؤكد أنّ جينات البسالة وُرِثَت جيلا إثر آخر.

التأريخ يعيد نفسه مجددا مع تغيير بعض المسميات، إن كان بالأمس نضال الأجداد والآباء من أجل استقلال إرتريا وهم يقاتلون العدو الإثيوبي الغازي، فاليوم يتجدد مع طغمة من بعض متحدثي التقرنية لإقامة دولة الأحلام دولة ألولا أبانقا، بالتأكيد سوف تطول مدة إنتظار تحقيق مثل هذه الأحلام إلى ما لا نهاية في ظل وجود مجتمع إرتري متماسك، سعى من أجل بناء هوية موحدة منذ القدم ونجح في ذلك بالإندماج والتعايش في كافة ربوع الوطن في أجواء من الإحترام الديني والإثني يندر وجوده في مناطق أخرى من العالم.

إن التعايش السلمي بين مكونات المجتمع الإرتري لم يكن وليد اليوم بل هو نتاج عمل دؤوب قام به الآباء المؤسسين منذ تأسيس جمعية حب الوطن ثم تلتها كتلة الإستقلال ومن ثم فترة الكفاح المسلح وإكتمل القمر بدراً بتحرير تراب الوطن حيث إنصهرت القوميات الإرترية في بوتقة واحدة، إذ كانت نظرتهم للوطن نظرة متساوية وإن تعددت القوميات وتباينت الديانات، فالدين لله والوطن للجميع، فالنبت الطيب هو نتيجة لطيب البذرة لذا فالحفاظ على هذا النبت هو مسؤولية الأجيال الحالية وذلك بإصلاح الإعوجاج بالجلوس على طاولة الحوار والإستماع إلى الرأي الآخر حتى الوصول لنقطة اتفاق مشتركة يُجمِع عليها كل وطني غيور، فالخطر القادم من الجنوب مهدد للهوية الإرترية التي تشكلت منذ القدم لتحل محلها الهوية المصطنعة للأقعازيان وتقراي تقرنيا والحالمين بتقراي الكبرى هوية غير حقيقية تتغير وفقا للمتغيرات اللحظية، دولتهم حدودها غير معلومة (حدود أبوي طرراي) تتغير بين عشية وضحاها وكأنها لعبة بين يدي طفل ينهمك في تشكيلها كلما سنحت له فرصة لِلّهو، إلا أن لَهوهُم هذا يرتكز على الرقص فوق أشلاء الأبرياء، لذا لابد من العلم أنّ مكتسبات الشعب الإرتري لم تأتِ خبط عشواء بل نتيجة نضال مرير دفع فيه شعبنا بفلذات أكباده نحو ساحات القتال وهو على علم تام بحدوده الجغرافية، ومن يعتقد أنْ لا فكاك بينه وبين التقراي لأي سبب كان فليحزم حقائبه ويعبر الحدود جنوبا غير مأسوف عليه، تاركا إرتريا لكل من يؤمن بوحدة قومياتها، فإرتريا لم تكن جزءا من إثيوبيا فكيف بها أن تكون جزءا من التقراي، إرتريا للإرتريين ماضيا وحاضرا ومستقبلا.

إحدى وستون عاماً والشعب الإرتري ممسك على الجمر وهو يتلمس طريقه من النضال إلى الإستقلال نحو النمو والإستقرار، إحدى وستون عاماً ووحدة القوميات الإرترية أكثر ثباتا وتماسُكا، لذا فالفاتح من سبتمبر يوم تشرئب فيه الأعناق فخرا بعواتي وصحبه، ويوم تنادى فيه الجميع ليرفرف علم إرتريا عاليا خفاقا في المحافل الدولية، الفاتح من سبتمبر اندلعت فيه الثورة لتحفظ للوطن مكتسباته وللشعب كبرياءه، الفاتح من سبتمبر يوم تداعى فيه الجميع من أجل الوطن.

Top
X

Right Click

No Right Click