مجرد سؤال برئ

بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد محمد عمر (أبو تيسر) - كاتب وإعلامي سابق بإذاعة صوت الجماهير الارترية

تداولت مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية خبرا يفيد بان

مجرد سؤال برئ

رأس النظام الحاكم في اسمرا تعرض لجلطة دماغية حادة ويتلقى العلاج في مستشفى الملك فيصل التخصصي بجدة.

لم اعر هذا الخبر اهتماما كبيرا بحكم ان مثل هذه الاخبار يتم تناولها بين الحين والأخر ثم بعد مرور فترة زمنية يتناسى الجميع الخبر المتداول بعد أن يظهر افورقي في مناسبة ما ليؤكد انه ما زال ممسكا بقواعد اللعبة.

ولكن بعد ان شاهدت نص الكلمة التي تحدث فيها افورقي لأول مرة عن الكورونا وهنأ فيها المسيحين بعيد الفصح والمسلمين بقدوم شهر رمضان تأكدت تماما من صحة الخبر الذي تم تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ليت ان التلفزيون الارتري لم يقدم تلك الكلمة التي فضحت كل شيء بعد ان بُذل الكثير لإخفاء ما يمكن اخفاءه.

العبرة هنا ليس ان يمرض شخص ما او يلاقي حتفه فكلنا بشر معرضون للإصابة بالأمراض وملاقاة الأجل المحتوم سواء لأسباب ذاتية أو أسباب بيئية وكونية مثل جائحة الكورونا، ولكن العبرة في محاولة تفسير النوبات المرضية بأبعاد سياسية.

فافورقي نفسه لا يحب ان يعرف الناس أنه مريض بل يعتبر ذلك انتقاصا من قدراته في إدارة الحكم وربما يشجع البعض على التمرد او ما شابه ذلك لذا يحرص في كل مرة ان يتلقى العلاج سرا ودون ان يعلم أحد بذلك. وفي هذه النقطة استحضر حادثة مرضه عام 1993 حيث ظل الرجل طريح الفراش لعدة أيام دون ان يعلم أحد بذلك والجميع كان مشغولا بالاستفتاء ونتائجه المرتقبة.

كنت حينها اعمل في غرفة الأخبار بإذاعة صوت الجماهير الارترية. في صباح ذلك اليوم طلبت مديرة غرفة الأخبار حينها الزميلة ابنت اسياس وهي مناضلة قديمة ولها خبرة صحفية عميقة بحكم عملها في التلفزيون الاثيوبي ابان عهد الامبراطور، من أحد زملاءنا في غرفة الأخبار الذهاب الى المطار لتغطية مراسيم استقبال الأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي.

عندما عاد هذا الزميل من المطار وسلم الخبر الذي صاغه الى ابنت اسياس، لاحظت ان مستقبلي الأمين العام للأمم المتحدة هم الوزراء وعلى رأسهم محمود شريفو وليس من بينهم رئيس الدولة فاستغربت للأمر وقالت بصوت عال: هذا لا يجوز، يجب أن يستقبله اسياس بنفسه والا فان هذا الخبر لا يمكن نشره ولا قيمة له على الإطلاق.

رد عليها الزميل الصحفي: معك حق هو أيضا - أي بطرس غالي - استغرب وتساءل عن اسياس فقالوا له أن اسياس مريض وهو طريح الفراش فأصر غالي على الذهاب الى منزله وزيارته هناك.

نهضت ابنت اسياس من مقعدها ووقفت تخاطب المراسل الصحفي قائلة: اذن هذا هو الجزء الأهم من الخبر الذي بترته لانه يزيل حرج البروتوكول المتعارف عليه ويكتمل الخبر، لا بد ان نقول ان افورقي لم يستقبل غالي نتيجة اصابته بوعكة صحية.

رد عليها المراسل قائلا: نعم لقد استفسرت عن إمكانية قول ذلك من يماني قبراب فقال لي: لا داعي لذلك.. لا نريد ان نشغل الناس بهذا الامر، ولذا لم اضمن هذه المعلومات في الخبر.

لكن ابنت اسياس لم يهدأ لها بال فاستشارت مدير وكالة الانباء وكان حينها السفير احمد على برهان فاتصل من جانبه بيماني قبراب ليستفسر منه الامر فكان الرد حسب ما قيل للمراسل الصحفي.

ومع ذلك أصرت ابنت اسياس على نشر هذه المعلومات لأنها في غاية الأهمية ولكن مدير الإذاعة حذرها من مغبة ذلك لأنه يعتبر مخالفة صريحة للتوجيهات، فاضطرت الى التنازل عن موقفها وظلت مكتئبة طوال النهار الى ان حانت الخامسة مساء عندما جاء يماني قبراب شخصيا الى غرفة الاخبار وصاغ خبرا بنفسه وسلمه الى ابنت اسياس لتنشره.

مفاد الخبر ان اسياس تم نقله على وجه السرعة بطائرة خاصة الى أحدى المستشفيات الإسرائيلية للعلاج من حمى دماغية وذلك بعد ان قام بطرس غالي بزيارته في منزله. عندما قرات ابنت اسياس الخبر ابتسمت بخبث وقال موجهة كلامها الى يماني قبراب: لو كنا قد نشرنا الخبر الاول كما هو في نشرة الظهيرة او في وقت اسبق من ذلك لكان لهذا الخبر معنى الأن ولكنكم لا تفهمون.

المغزى من هذه القصة وما قالته الصحفية ابنت اسياس هو انه لا جدوى من إخفاء معلومات مثل هذه لأنها ستكشف عاجلا ام آجلا. صحيح ان الأقدار بيد الله ولكن الأمراض هي ايذان لاقتراب لحظة الأجل ولا بد من ترتيبات نفسية وسياسية وإدارية عندما يتعلق الامر بشخصية عامة تتحكم في مفاصل الدولة.

اعود الى الاسباب التي دفعتني لكتابة هذا المنشور والمتعلقة بالكلمة التي القاها افورقي وبثت على الفضائية الارترية. فالرجل بدا منهكا في طريقة القراءة ولم يكن مرتاحا على الأطلاق وبدت آثار المرض بادية بشكل ملحوظ ولم ينفع المكياج ولا القبعة ولا النظارة التي استخدمت لإخفاء الآثار.

وغاب عليهم ان افورقي لا يضع هذه القبعة وهو في المكتب او المنزل وانما يستخدمها في العادة مع النظارة السوداء اثناء تحركاته الميدانية خلال النهار خارج اسمرا.

وفيما يتعلق بمحتوى الكلمة معلوم للجميع ان افورقي لا يقرأ من ورق بل يحبذ دائما التحدث شفهيا دون ورق ويمكن مراجعة كلماته في العديد من المناسبات. فهو يقرأ من ورق فقط في المناسبات الكبيرة مثل عيد الاستقلال وعيد الشهداء وذلك لدواعي الترجمة المصاحبة للكلمة. فالكلمة كانت قصيرة ورغم ذلك كان يرجع اليها بعينيه اثناء القراءة بشكل متكرر مما يدل على انه لم يكتب تلك الكلمة كما هي العادة بل كُتبت له هذه المرة.

ورغم اجتهاد الكاتب في استخدام نفس الكلمات والعبارات التي يفضلها افورقي الا ان الكاتب فات عليه ان أسلوب الكتابة يختلف من شخص لآخر مهما حاول احدهم ان يقلد الأخر. فالجمل القصيرة على سبيل المثال ليست موجودة في قاموس افورقي اللغوي بينما كانت هي الطابع الغالب في هذه الكلمة.

ثمة تساؤل آخر وهو: ما هي مناسبة هذه الكلمة؟ لقد تطرق الى ثلاثة أشياء وهي الكورونا وبرامج التنمية والتهنئة بمناسبة عيد الفصح وقدوم شهر رمضان. لا يمكن القول بان هذه الكلمة جاءت بمناسبة جائحة الكورونا لأنه مضت أكثر من ثلاثة أشهر على هذه الجائحة وخاطب زعماء العالم شعوبهم قبل أكثر من شهرين او شهر ونصف للمتأخرين منهم.

ولا يمكن القول أيضا بان مناسبة الكلمة هي الحديث عن برامج التنمية لأنه ليس من عادته الحديث عن مثل هذه البرامج في كلمة قصيرة وهو الذي أسهب فيها على مدى ثلاث ساعات في مقابلته خلال شهر يناير الماضي. ولا يمكن القول أيضا انها للتهنئة بمناسبة عيد الفصح وقدوم شهر رمضان لأنه لم يحدث قط ان القى كلمة رسمية مكتوبة في مثل هذه المناسبات الدينية، وحتى المناسبات الدينية التي القى فيها كلمة كانت شفهية واثناء حفل دُعي اليه. اذن الغرض من الكلمة كان واضحا وهو التأكيد بأن افورقي موجود بصحة وعافية.

مشكلة فنية أخرى تتعلق بالتصوير والموقع الذي سجلت فيه الكلمة. فالمصور حاول إخفاء الموقع من خلال تضييق دائرة التصوير (zoom in) حتى لا يبدو المكان معروفا. والإطار الذي وضع على الخلفية وبدا وكأنها سبورة ليس لها أي تفسير سوى انها تخفي من ورائها شيئا غير مرغوب في ظهوره. كما أن الحائط الحجري الذي عادة ما يكون الجانب الخارجي للغرف او سور المنزل والمنضدة الكبيرة والعلم المعلق على سارية خضراء والمقعد الرمادي بدت كلها أشياء غير متجانسة على الأطلاق وتم ترتيبها على عجل ودون خبرة او دراية بفنيات مسرح التصوير (ٍsetting).

مؤكدا وبنسبة 100% أن التلفزيون الارتري لم يقم بتصوير هذه الكلمة. أولا لأن اسوء مصور من المصورين الجدد كان سيصور أفضل من هذا الذي شاهدناه كما ان استخدام ميكرفون المنضدة أصبح تكنولوجيا قديمة جدا حتى بالنسبة ل ERTV، ولا يتم استخدامه الا فيما ندر أي في المناطق البعيدة ما بالك عندما يتعلق الامر برئيس الدولة.

خلاصة القول ان محاولة التستر على مرض شخصية عامة مثل رئيس الدولة يعتبر غباءً وهو أسلوب يفتقر الى بعد نظر وعدم الايمان بان المرض يصيب كل مخلوق. ماذا لو تم التعامل مع هذه القضية بكل اريحية ونقل الينا التلفزيون الارتري اخبارا عن صحة الرئيس والفحوصات التي يجريها بين الحين والأخر هل سيقلص ذلك من قبضتهم على مفاصل الدولة؟

Top
X

Right Click

No Right Click