الخلاوي القرآنية في إريتريا

بقلم الدكتور: جلال الدين محمد صالح

أقدم تعليم عرفته إريتريا هو التعليم في «الخلاوي القرآنية»، وتُعد «الخلاوي القرآنية» مَعْـلَماً

من معالم التراث الإسلامي في كل المدن الإريترية ذات الوجود الإسلامي المؤثر، فهي إرث ثقافي عريق، ونمط تعليمي تليد، ما زال المسلمون الإريتريون يتوارثونه أباً عن جد، وخلفاً عن سلف، ويلتزمونه أينما حلّوا واستقروا، تعبيراً عن اهتمامهم بالقرآن الكريم، وتعميقاً لانتمائهم الثقافي، وتثبيتاً لهويتهم الإسلامية؛ لذا لا غرابة أن تجعل كل المدن الإريترية من «الخلاوي القرآنية» أول محاضن التنشئة الإسلامية، وأولى خطوات التربية الصحيحة في الاهتمام بالأبناء وتربيتهم على القيم النبيلة, فقد عرفت - صانها الله - عديداً من «الخلاوي القرآنية» التي أشرف عليها وجهاؤها من أهل الفضل والإحسان، وقام بالتعليم فيها مشايخ كرام، مَـنَّ الله عليهم بحفظ كتابه، والسهر على تعليمه وتلقينه، فحازوا بذلك رضوان الله، ثم تقدير المجتمع، وتكريمه إياهم، وذكرهم بخير في حياتهم وبعد مماتهم «خيركم من تعلم القرآن وعلمه».

ما من شاب مسلم وُلد في إريتريا ونشأ فيها وإلا وكانت الخلوة أول مكان جلس فيه بين يدي الشيخ، يكتب بأصبعه السبابة على الأرض الحروف الهجائية (أ ب ت ث...)، ثم على اللوح بقلم مَـبْـرِيٍّ من القصب، يغمسه في مداد أسود، يُعرف بالدواة.

 يُصنع من نفاية دخان الأثافي العالق بـظهر قدور الطبخ، أو بمسحوق أسود يُستخرج من داخل حجر المذياع (بطارية الراديو)، يُخلط معه مقدار من الصمغ العربي، وقطع صغيرة من القماش المهترئ، في وعاء معدني صغير الحجم، أو قنينة حبر، أو ما شاكل ذلك وشابهه.

 وأجود أنواع (المداد) وأحسنه ما أبرز الحروف، وحَـسَّـنَ الخطوط،، وجمّل السطور، يخط  به القارئ ما يمليه عليه الشيخ من آيات الذكر الحكيم على لوحه الخشبي ليحفظها صباحاً، ثم يعرضها على الشيخ من حفظه مساءً, ليأذن له بمحوها غسلاً, والانتقال منها إلى مقطع آخر, والا أعاده وألزمه بإتقان حفظها، وهكذا تمضي أيامه حتى يكمل سورة بعد سورة، وجزءاً بعد آخر، إلى أن يختم القرآن الكريم كلّه، ويقيم بذلك حفل ختام، تُسر به الأسرة وتفخر، ويُكرّم فيه الابن والشيخ معاً.

معنى الخلوة:

الخلوة في الأصل من الاختلاء، أي الانفراد في مكان لا مخالطة فيه، ثم صار مصطلحاً يُطلق على المكان الذي يختلي فيه معلم القرآن مع الصبيان بعيداً عن الضوضاء؛ ليعلمهم نطق القرآن وكيفية حفظه على رواية من الروايات المتداولة، في تلقينه وتعليمه، كما هو معروف في السودان، وبعض مناطق إريتريا، ولا سيما مناطق المنخفضات التي هي شديدة التأثر بالأجواء الثقافية في السودان؛ لكون كثير من المشايخ الذين تولوا تعليم القرآن فيها تلقوا تعليمهم القرآني في خلاوي السودان، في شماله وشرقه، من هذه الخلاوي التي قصدها الإريتريون في السودان على سبيل المثال خلوة «أم ضبان» سابقاً، التي حملت لاحقاً اسم «أم ضواً بان» ، وخلوة «أسوت» بشرق السودان، وغالب «الخلاوي القرآنية» في إريتريا عموماً إن لم يكن كلها تُعلّم القرآن على رواية حفص.

نشأة الخلاوي وتطورها:

دخل الإسلام إريتريا منذ هجرة الصحابة رضي الله عنهم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة في عام 614م، ثم أخذ الإسلام ينتشر في مختلف الأقاليم، وكانت إريتريا أول موضع تطأه أقدام الصحابة خارج الجزيرة العربية. أما بعد رجوع الصحابة فلم ينته النزوح من مكة والمدينة، فقد قدم إلى إريتريا بعض الدعاة المسلمين وتزاوجوا مع الإريتريين وتناسلوا وتكاثروا وساهموا في نشر الإسلام، وأقاموا «الخلاوي القرآنية»، وقاموا بدور في نشر اللغة العربية والفقه الإسلامي (1).

وبعد ذلك كان انتشار الإسلام بواسطة التجار ثم العلماء من أهل البلاد، خصوصاً في العهود التي ساد فيها الجهل وعمّت الأميّة, فكانوا يقيمون الخلاوي لتحفيظ القرآن وتدريس العلوم الدينية وتعليم الناس مبادئ الإسلام.

وبجانب القرآن الكريم كان يتم تعليم اللغة العربية والنحو (ألفية بن مالك) والفقه والحساب، وغير ذلك من العلوم في أمور الدين، في الخلاوي (الكتاتيب) في شرق إريتريا وغربها، وغيرها من المناطق التي يقطنها المسلمون، ثم يشدون الرحال إلى خلاوي شرق السودان مثل خلاوي (الشيخ القرشي), وشمال السودان والجزيرة في معاهد وخلاوي أم درمان وأم ضواً بان وبربر.. إلخ، وبعد ذلك يسافرون إلى مصر للاستزادة من التعليم في الأزهر الشريف وغيره من مراكز اللغة العربية والدين الإسلامي (2).

المصطلح الشائع استعماله في إريتريا:

مع أن مصطلح «الخلوة» هو الاسم الغالب إطلاقه على مكان تعليم القرآن في السودان، كما أشرت، إلا أن كلمة «قرآن» هي الكلمة الشائع استعمالها بين أهالي إريتريا في الإشارة إلى الخلاوي القرآنية، وتسمية الإريتريين الخلوة بهذا الاسم «قرآن»؛ لكونها مكاناً لتعلّم قراءة القرآن وحفظه.

وينادي الإريتريون شيخ الخلوة بـ «سيدنا» أو «شيخنا» أو «أبو شيخنا» إذا ما كان طلاب الخلوة من أبناء الجبرتة، و «أبو» هنا للتعظيم، وإذا كان من تًُعلّم الطلاب امرأة دعوها «شيخايت»، وهو عُرف درج عليه الآباء والأبناء في مخاطبة شيخ الخلوة احتراماً وتقديراً له؛ لكونه حاملاً لكتاب الله ومعلماً إياه، فهو سيد بتسويد القرآن له، أما الطلبة فيسمونهم «درسة» أي الدارسون.

الأب عندما يصطحب ابنه إلى القرآن:

يصطحب الأب ابنه إلى القرآن (الخلاوي) وهو يحمل هموم تربيته على القيم الإسلامية، فـ«القرآن» في حـس الآباء ليس هو محل لتعلُّم القراءة والكتابة فحسب، وإنما هو فوق ذلك بيئة مناسبة لتشكيل سلوك الأبناء وتوجيههم وجهة حسنة، تحفظ حياتهم من الانزلاق في الانحرافات الأخلاقية.

من هنا يطلب الأب أول ما يطلب من الابن حين يأتي به إلى «القرآن» تقبيل يد الشيخ دليلاً على الاحترام والتوقير لمكانة الشيخ، ثم يأخذ الابن مكانه ليبدأ كتابة الحروف الهجائية بأصبعه السبابة على الأرض الرملية، تحت إشراف الشيخ، أو من يوكله الشيخ من كبار طلابه، إن كان هذا الطالب لا علم له بالحروف الهجائية، أو يمسك بلوحه الخشبي ليجلس أمام الشيخ على هيئة جلسة التشهد في الصلاة، وقدّامه دواته، وبيده قلمه، ليكتب ما يُمليه عليه الشيخ من حفظه أو من المصحف.

وليس لحضور «القرآن» لباس رسمي يرتديه طلابه، ولكن المعتاد أن يخيط الأب لابنه قميصاً يُدعى «عراقي» و «سروال» من قماش يُسمى «أبو جديد» لرخصه أولاً، ثم لتحمله تبعات الجلوس على الأرض، وما يتناثر عليه من قطرات الدواة.

وربما قليل من يعرف أن تعلم القرآن قبل الستينيات كان حكراً على الذكور، ثم أصبح بعد الستينيات حقاً مشاعاً للذكور والإناث معاً، وهكذا بدأت الفتاة الإريترية تأخذ مكانها في الخلوة القرآنية أسوة  بشقيقها، لكن مع الفصل التام بين الذكور والإناث.

نظام الخلاوي التعليمي:

الخلوة تتبع نظام التعليم الفردي، والذي يمثِّل فيه كل طالب وحدة أو فصلاً قائماً بذاته غير مرتبط بالآخرين في مقدار ما يتحصل عليه من حفظ للقرآن الكريم، أي لا توجد فوارق زمنية (فصل أولى، ثانية، ثالثة)، بل كل طالب يسير قدر طاقته في الاستيعاب والحفظ.

كما تأخذ بالاقتصار على تعليم مادة واحدة في الوقت الواحد، وبعد الانتهاء من المادة يتم الانتقال إلى الأخرى.

كما أنَّ الخلوة لا تضع حدّاً لعدد الملتحقين بها, كما لا تحدد عدداً من السنوات للبقاء بها.

وتعتمد الخلوة على نظام المعلم الواحد، فالشيخ يمكن أنْ يشرف على عدد من الطلاب قد يصلون إلى المائة بمعاونة المتقدمين من الطلبة في القراءة له في التدريس، حيث يتم توزيع الطلبة الجدد على الطلبة المتقدمين في الدّراسة ليقوموا بتدريس إخوانهم, كما يُشرف الشيخ على هؤلاء المتقدمين في الدراسة مع مراقبة قراءة إخوانهم, وهذه الطريقة قد أثبتت نجاحها وأعطت ثماراً طيبة في معرفة المسلمين لحفظ القرآن الكريم طوال القرون السابقة.

كذلك فإن اللوح والدواة والقلم القصبي وأصبع الطفل والمصحف (الختمة) كما يسمّونه، والأرض الرملية، كلها أدوات تعلُّم ضرورية وأساسية.

وأول ما يقرأ الطالب في (القرآن) هو الحروف الهجائية (أ، ب، ت، ث...ألخ) حتى يـتـقـن نطقها ورسمها وحفظها على الترتيب الذي وضعت عليه، ويخرجها من مخارجها.

ثم ينتقل بعد ذلك إلى التدرّب على نطق الحركات (النصبة، الكسرة، الضمة، السكون) وكتابتها على الحروف الهجائية نفسها، فيقول: (أَ) نصبة، (إِ) كسرة، (أُ)  ضمة، (بَ) نصبة، (بِ) كسرة، (بُ) ضمة، كما يتدرّب أيضاً على تركيب كلمات منها، فيقول: آن، إين، أون، بان، بين، بون، وهكذا يرتقي حتى يتمكن من القراءة والكتابة، ويكون مؤهلاً لالتقاط ما سيُمليه عليه الشيخ من السور القرآنية وكتابته.

الرمي والعرض:

«الـرمي» و «العـرض» مصطلحان من مصطلحات الثقافة الإسلامية، ذات الصلة الوثيقة بأصول التراث الإسلامي، في عهود توثيق الحديث النبوي وتدوينه، اعتدنا على تداوله وسماعه ونحن طلاب في «القرآن»، الشيخ «يرمي» والطالب «يعرض».

والمقصود بالرمي هو إملاء الشيخ من حفظه، أو من المصحف، المقطع المقرر حفظه على الطالب ليكتبه على لوحه الخشبي، وذلك صباح كل يوم من أيام القرآن.

أما العرض فالمراد منه عرض الطالب من حفظه على الشيخ ذلك المقطع المقرر عليه حفظه مساء كل يوم من أيام القراءة، ليجيزه الشيخ، ويسمح له بمحوه غسلاً.

وعند الرمي يأخذ الشيخ مكانه ساعة الشروق، ويتحلق الطلاب حوله على شكل حرف (ن), الشيخ مثل النقطة في الحرف، والطلاب نصفه الدائري، جلوساً على هيئة جلوس التشهد في الصلاة.

والشيخ يرمي من حفظه إن كان حافظاً، أو من المصحف إن لم يكن حافظاً، في لحظات متقاربة من ساعة الرمي، على أكثر من طالب، في أكثر من سورة قرآنية، وغالباً ما يكون هؤلاء الطلاب من خيرة وأكفأ من عنده، ثم بعد ذلك يوكل إليهم الرمي على من هم دونهم في السنّ والحفظ.

عند الساعة التاسعة، أو الثامنة والنصف صباحاً تقريباً, يكون الرمي قد انتهى، وفي بعض الخلاوي يعود الطلاب إلى منازلهم للإفطار، ويأخذ الشيخ قسطاً من الراحة من بعد تناول إفطاره، وشرب القهوة، ثم يعودون من بعد ساعة تقريباً، أو نصفها، ويقرؤون حتى الثانية عشرة والنصف ظهراً، وبعد أداء صلاة الظهر ينفضون ليعودوا عند الساعة الثانية ظهراً، ويقرؤون إلى صلاة العصر، وقبل العصر يبدأ الطلاب في عرض ما حفظوه مما رمي عليهم صباح هذا اليوم على الشيخ؛ ليجيز منهم من يجيز، ويعاقب منهم من يعاقب، ويسمون هذا الفعل منهم «العرض».

والطالب المجاز يغسل مقطعه من لوحه الخشبي في خانة مخصصة لغسل الألواح، في ركن من أركان الخلوة، عليها أحجار متوسطة الأحجام، يغسل عليها الطالب لوحه، ويمسحه بمادة تسمي «الجير», وهو نوع من (الحجر) لكنه سهل التفتيت.

وفي بعض الخلاوي (القرآن) يتلقّى الطالب بجانب قراءة القرآن شيئاً من مبادئ الفقه، والعقيدة، ونصوصاً أدبية مختارة من محفوظات اللغة العربية، والأناشيد الإسلامية، من ذلك حسبما أذكر منظومة في العقيدة كان الطلاب ملزمين بحفظها.

وكذلك أنشودة الآباء التي كثيراً ما كنا نرددها عند نهاية اليوم القرآني، أو أيام الاحتفالات، ويقوم بتدريبنا على أدائها بلحن موحّد الأستاذ رمضان رحمه الله، الذي تُوفي بجدة في الثمانينيات، تقبل الله منه، ونفعه بما علم وعمل وعلّم.

خلاوي القرآن والرعاة:

إذا كان في القرآن طلاب يشتغلون بالرعي ولا يمكنهم الحضور على النحو الذي يلتزم به من سواهم؛ حملوا معهم ألواحهم إلى البر من بعد أن يرمي عليهم الشيخ المقطع الذي يتوجب عليهم حفظه، وهنالك في الخلاء وتحت ظل الأشجار وعلى التلال وبطون الأودية ينفرد الراعي بلوحه فيحفظ مقطعه، وفي المساء بعد عودته يعرض على الشيخ ما حفظه فيجيزه، وفي الصباح قبل الانطلاق إلى الرعي يرمي عليه الشيخ مقطعاً جديداً وهكذا.  

وقليل من الخلاوي القرآنية (القرآن) يقيم شيوخها حلقات القرآن الليلية بعد صلاة المغرب إلى العشاء، وقد اختفت هذه الظاهرة تماماً عندما سلط المستعمر الإثيوبي على المجتمع قانون حظر التجول، وممن كان يسير على هذا المنوال (القرآن) الذي أسسه والدي الشيخ محمد صالح حاج حامد، مؤسس مؤسسة أصحاب اليمين التعليمية في الستينيات باسم مدرسة الإرشاد الإسلامي، عندما استقدم بعضاً من أبناء الكوناما والبازا، وأجلس لهم شيخاً يعلمهم القرآن، وذلك في المسجد المجاور لمنزلنا، مسجد الخليفة جعفر، كذلك كان الشيخ طاهر بن شقيق الشيخ قاضي عمار يقيم ليالي قرآنية.

وقراءة (القرآن) ليلاً هي جزء من تراث الثقافة الإسلامية، عرفه مسلمو منخفضات إريتريا، في القرى والحضر، إذ يتحلق الطلاب على نار موقدة، تتعالى ألسنتها لتضيء الساحة، وتبعث على الأنفس روح الهمة، وتطرد عنها النعاس، إذ يأت كل طالب بعود من الحطب، ثم تُشعل النار، وعلى ضوئها يقرؤون، خلال الفترة المخصصة من الليل؛ إذ لم تكن ثمة كهرباء.

العقوبة في الخلاوي القرآنية:

يُعطي الأب لشيخ القرآن كامل الصلاحية في تهذيب ابنه وتأديبه من أول يوم يسلمه فيه، حتى لو اقتضى الأمر ضربه، قائلاً له: «لنا العظم، ولك اللحم»، وبقدر ما تُعطي هذه المقولة الشيخ صلاحية ضرب الابن؛ تضع حداً لهذا الضرب وتقيده، بحيث لا يبلغ ضرره إلى القدر الذي يكسر العظم, وبهذا يدرك الشيخ حدود سوطه أو عصاه فلا يتعداها، فهي مثل عقد تربوي بينه وبين الأب في معاقبة الابن إذا ما عصى.

لا يوقع الشيخ عقوبة الضرب إلا عند عبث الطلاب ساعة الحفظ، وانشغالهم بالمحادثة الجانبية بعضهم مع بعض، أو عند غياب الطالب من غير عذر مقبول أو استئذان مسبق، أو عند إخفاقه في حفظ مقطعه.

دور الخلاوي التربوي:

هناك جملة من الآداب التي يتعلمها طلاب الخلاوي، وتشمل تقديراً خاصاً للشيخ وللكبير واحترامهما، والتعاون فيما بينهم في تقسيم رائع للعمل، فمنهم من يُحضر ماء الشراب، ومنهم من يتكفل بمياه الوضوء، وآخرون يقومون بتنظيف الخلوة من التراب، وهم يستمعون لتعاليم شيوخهم، كما يرتدون الأبيض من الثياب، وكذلك يحاولون تمثّل صفات حامل القرآن: أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون... ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً ولا غافلاً.

وكذلك عندما ينتهي طلاب الخلاوي من عرض ألواحهم يقومون بمسحها في مكان لا تدوسه الأقدام، وتوضع الألواح في مكان مرتفع تكريماً لمكانتها, وهذا من باب احترام القرآن والأدب معه (3).

دور الخلاوي الاجتماعي وتفاعلها مع المجتمع وتأثيرها فيه:

يكتسب الشيخ هالة واحتراماً خاصاً أصبغها عليه تفرغه وانقطاعه للقرآن وهجرانه الدنيا لتعليمه وتحفيظه، فإذا طلب الإبريق جاءه مملوءاً بالماء، وإذا طلب السراج جاءه مضاء، وهو ذو حيثية كبيرة بين أهل القرى المحيطة الذين يتوسمون فيه الصلاح والخير والعدل، وكان في الماضي يقوم بدور القاضي الذي يقضي في النزاعات، والمجير الذي يستجير به المظلوم، والأمن الذي يستظل به الخائف، ويساعد الطلاب شيخهم في مزرعته التي هي وقف للخلوة, وربما تمتد مساعدتهم لأهالي القرى المحيطة في روح تعاون نادر.

التكافل الاجتماعي في تعليم القرآن:

ومن قرى الريف ما ليس فيه (قرآن) وشيخ متفرغ لتعليم القرآن، إما لأن أهل القرية رحّل، تسوقهم المواشي إلى حيث الكلأ ومنابت العشب، وليس لهم استقرار، وإما لأنهم لا يستطيعون تحمل تكاليف القرآن، وإما لأنهم لم يجدوا شيخاً مناسباً، أو لسبب آخر من الأسباب، وفي هذه الحالة يأتي الحريصون منهم على تعليم أبنائهم القرآن أقرب مدينة إلى ريفهم، ويبحثون عمن يتكفل بتعليم ابنهم القرآن من الأسر الميسورة، وقد عرفت كثير من المدن الإريترية هذا النوع من التكافل في تعليم القرآن، وتبنت بعض أسرها أطفالاً من أبناء القرى، يأتي بهم آباؤهم، ويسندون أمر تعليمهم القرآن إلى أسرة من الأسر، إما لقرابة تربطهم، وإما لمعرفة سابقة تصلهم، وإما من باب الإحسان والتعاون على البر والتقوى، ومن جانبهم لا يقصر هؤلاء الطلاب الوافدون في خدمة الأسرة المضيفة، والمشاركة في تقديم الخدمات المنزلية، مثلهم في ذلك مثل أبنائها.

دور الخلاوي الثقافي:

الخلاوي تعلم بها الكثيرون من الإريتريين، وهي مراكز إشعاع ثقافي، فهي مصدر تعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن ومبادئ الدين الإسلامي، ثم يشق الطالب بعد ذلك طريقه إلى الأزهر أو غيره من معاهد العلوم سواء الدينية أو الدنيوية.

الإجازات في القرآن، وأجرة نهاية الأسبوع:

القرآن أو الخلاوي القرآنية بصفتها حقل من حقول التربية والتعليم لا بد أن تكون لها أيام ومناسبات للإجازة (العطلة) ترويحاً عن الطلاب وتنشيطاً لهم، والإجازات في الخلاوي القرآنية أو (القرآن) - كما تعودنا على تسميته - منها ما هو أسبوعي، ومنها ما هو سنوي، فالإجازة الأسبوعية في يومي الخميس والجمعة، لكن جرى العرف على أن يسدد كل طالب الذي عليه من أجرة نهاية الأسبوع، تعطى للشيخ مساء يوم الأربعاء،  بجانب ما يُعطى له آخر الشهر وهو ريال واحد، أما الإجازات السنوية فتكون في عيدي الفطر والأضحى، ورأس السنة الهجرية، ويوم المولد النبوي.

الشّرّافة والختمة:

«الشّرّافة» و«الختمة» و «العودة المرة» مصطلحات طالما تداولتها الخلاوي القرآنية في المدن الإريترية، «الشُّرَّافة» بضم الشين المشددة، وفتح الراء المشدد، على وزن (فُعّالة) وهي صيغة المبالغة في اللغة العربية، مأخوذة من «شرف الشيء إذا علا قدره، وعظم شأنه»، والمراد بها هنا السورة القرآنية التي نال الطالب بوصوله إليها مرتبة من مراتب الشرف القرآني، وعلا بها قدره، وعظم شأنه، وعليه أن يظهر ذلك بإقامة حفل في اليوم الذي يبدأ فيه الشيخ رمي هذه السورة عليه، وبهذه المناسبة يلزمه تزيين لوحه برسم جامع بمنارة وقبة، يقوم برسمه واحد من ذوي الموهبة الفنية من طلاب الخلوة.

وعمل الشّرّافة يُشعر الطالب بأنه أنجز شيئاً مهماً في تعلمه للقرآن، ويرفع من معدلات حماسه لإكمال المشوار القرآني، والمضي في ارتقاء درجاته العليا، ويجد من الأسرة تشجيعاً، ودفعاً معنوياً، عندما تخبز له الأم خبزة سواء في مخبز المنزل أم بإرسالها إلى المخبز الآلي، وكل أسرة تحرص على حسن سمعتها، وتتجنب قدر الإمكان إحراج ابنها، فتبذل أقصى ما تستطيع في الاهتمام بجودة ما تعده من الخبز والشاي، لتصل الشّرّافة إلى القرآن وهي في أحلى طعم وأجمل منظر.

ثم تقطع تحت إشراف الشيخ إلى قطع بعدد طلاب القرآن، ثم توزع على الجميع.

وفي يوم الشّرّافة يطرق بعض الطلاب ومعهم ألواحهم المزينة برسم الجامع أبواب بعض المتاجر في السوق، يعرضون ألواحهم، ويترنمون ببعض الأناشيد التي منها (عندنا شرافة، شرافة نبينا محمد), ويحظون ببعض الجوائز والهبات المشجعة.

وأما «الختمة» فهي التي تكون عند ختم القرآن بإكمال سورة البقرة، رمياً من الشيخ، وعرضاً من الطالب.

و«العودة المرة» تُطلق على العودة الأولى بعد الختمة في بعض «القرآن»، لكونها أصعب من العودة التي تليها, فربما أعاد الطالب القرآن مرتين أو ثلاثاً ليتقن حفظه.

و«المصحف» يُسمى في عرف مسلمي إريتريا «ختمة»؛ لكونه يحوي القرآن من أول ما نزل منه إلى آخر ما خُتم به، أو لأنه خاتم الكتب السماوية، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل عليهم السلام جميعاً.

سور الشّرّافة:

وسور الشّرّافة في (القرآن) محددة، فقد تعارفت الخلاوي القرآنية عندنا على أن تكون الشّرّافة في السور التالية:

سورة النبأ, الملك, المجادلة, الرحمن  يقدم الطالب خبزاً وشاهياً.

سورة يس ويذبح القادر من الطلاب شاة، وإلا قدم خبزاً وشاهياً.

أما «الختمة» فهي أعلى درجات الاحتفال، ولا تكون إلا بعد ختم القرآن بإكمال سورة البقرة، والطالب الميسور يذبح بقرة، وما رأيت أحداً فعل هذا في مدينتي «كرن».

المصاحف في القرآن:

اللوح الخشبي كما أسلفت هو وسيلة التعليم الأولى في «القرآن»، عليه يكتب الطالب مقطعه، ومنه يحفظه، أما المصحف فهو بيد الشيخ، يرمي منه ويراجع فيه، وكان الشيخ لا يكلف الطالب بشرائه لغلاء ثمنه وندرة وجوده، وبعض من المشايخ يحتفظ بمصحف مخطوط بخط يدوي، ثم صار حصول طلاب القرآن على المصحف أمراً ميسوراً، وذلك حين أحضر والدي الشيخ محمد صالح حاج حامد رحمه الله، مؤسس «مؤسسة أصحاب اليمين التعليمية», من بلاد الحرمين الشريفين كمية من المصاحف القرآنية المطبوعة، وُزعت على خلاوي إريتريا كافة مقابل خمسة وعشرين سنتاً إثيوبياً تغطية لتكاليف الشحن.

القرآن والدراسة في المدارس الحكومية:

من شدة حرص كثير من الأسر الإريترية على ارتباط أبنائها بالقرآن؛ ظلت تسعى إلى التوفيق بين دراستهم في المدارس الحكومية وقراءتهم في «القرآن»، فإذا كانت الدراسة صباحاً من نصيب المدرسة فإن الفترة المسائية تكون من نصيب «القرآن»، وإذا تعذر التوفيق بينهما لأمر ما كأن تكون الدراسة المدرسية صباحاً ومساءً؛ فإن الطالب يأتي إلى الشيخ مبكراً في الصباح، ويكتب مقطعه من القرآن ثم يذهب إلى المدرسة، وفي المساء بعد المغرب يحفظ مقطعه، ويعرضه على الشيخ وهكذا، مثله في ذلك مثل الراعي، وعلى هذا المنوال ارتبط نفر من الطلاب بالقرآن بالرغم من دراستهم في المدارس الحكومية، ونمت فيهم الثقافة القرآنية، وتكونت عندهم حصانة إسلامية، تذكرهم بماضيهم الإسلامي كلما حاولت فئة ضالة إضلالهم.

واقع الخلاوي اليوم:

بعد تحرير إريتريا من الاحتلال الإثيوبي بواسطة جميع الإريتريين دون استثناء في أبريل 1991م، وتكوين الحكومة الإريترية برئاسة إسياس أفورقي، استبشر الإريتريون خيراً بهذا النصر العظيم, وعقدوا آمالاً عراضاً في الحكومة الجديدة لإعادة الحقوق الطبيعية للشعب الإريتري السياسية منها والثقافية، ولكن بعد فترة قصيرة من التحرير كشف نظام إسياس عن وجهه الحقيقي الكنسي والطائفي الكالح، وقام بتجاهل الحقوق السياسية والثقافية للمسلمين، فقد تفتقت في أذهانهم الحاقدة فكرة تفتيت وتشتيت المسلمين ثقافياً، وفرض الجهل عليهم بحرمانهم من لغتهم العربية بالتدريج وفرض اللهجات المحلية عليهم.

لقد فقد الشعب الإريتري في عهد النظام الطائفي الحالي أكثر مما فقده في عهد إثيوبيا، وأُغلقت معاهد وخلاوي لم تغلق من قبل في عهد الاستعمار، وكذلك أغلقت المساجد, ومنع الشباب من تأدية العبادة.

«القرآن» (الخلاوي) تراث إريتري لا بد من حمايته:

هذا التراث الإريتري في العناية بالقرآن وتربية الأبناء على تلاوته وحفظه هو بالتأكيد تراث كل مسلمي إريتريا، في مدنهم وقراهم، ولا بد من المحافظة عليه، وإحياء ما اندرس منه واختفى، ففي ذلك بناء الشخصية الإسلامية الإريترية على أسسها الحضارية، وربطها بثقافتها الإسلامية، وحمايتها من التلوث بالأفكار التحريفية، والتوجهات الانحرافية.

ولا بد من تطوير الخلاوي القرآنية بحيث تواكب تطور عصرها، ويجد فيها الطالب من المحفزات ما يدعوه إلى التوجه إليها، ويشجعه على القراءة فيها، وذلك بتكوين لجان مهتمة، وجمعيات متخصصة في التعليم القرآني، توثّق تاريخ الخلاوي القرآنية في إريتريا كلها، وتاريخ من قام عليها من المشايخ الذين علموا فيها، والأسر التي أنشأتها.

وتقوم أيضاً بتوفير المصحف، والمعلم المجود، وتهيئ المكان المناسب، وترصد الجوائز للحفظة من الطلاب، وتجري المسابقات بين حفاظ المدن أو الريف على مستوى الوطن كله، ثم بين الفائزين منهم، لتختار منهم من يمثل مسلمي إريتريا في المسابقات الدولية لحفظ القرآن التي تقام سنوياً هنا وهناك في عالمنا الإسلامي، وتتصل بالمحسنين الإريتريين وغيرهم من أجل بناء أوقاف خاصة بالخلاوي القرآنية، ينتفع من دخلها الشيخ المعلم، ويصرف من ريعها على «داخليات» تستقبل أبناء الريف الذين لا يجدون من يكفلهم من أسر المدينة، وتوفر لهم الزاد اليومي، ويتخرج من هذه «الداخليات» طالب القرآن وهو يتقن بجانب حفظه للقرآن صنعة يعيش منها، من نجارة، وكهرباء، وأسس التجارة وأسلوب تعاطيها، وترجمة شفهية وتحريرية من لغة إلى أخرى، وفن التعامل مع الأجهزة الإلكترونية، والتعامل مع الكمبيوتر، وذلك بإدخال المتفوقين، والمقتدرين من هؤلاء الطلاب معاهد ومدارس وكليات متخصصة على حساب هذه الأوقاف ونفقتها.

وبهذا تساهم الخلاوي القرآنية بمؤسساتها الاقتصادية في تخريج طلاب من أبناء المجتمع ذوي كفاءات علمية متنوعة، ونماذج يُحتذى بها في الحياة العلمية والعملية، وليس بالضرورة أن يتخصص كل طلاب القرآن في الدراسات الشرعية بدخول المعاهد الإسلامية والكليات الشرعية، كما كان من قبل، وإن كان من الضروري تطوير المعاهد الدينية الإريترية أيضاً من خلال التفكير في تطوير مناهجها ومصادر تمويلها.

وكم هو جميل أن تنشأ نقابة باسم اتحاد الخلاوي القرآنية الإريترية، تكون تحت إشراف دار الإفتاء الإريترية، وتكون لها فروعها في كل المدن الإريترية، وتقوم ببعض المهام التي تندرج في مجال التكافل الاجتماعي، كتأسيس صندوق تأمين تعاوني، يُقتطع له مقدار من دخل كل شيخ عضو في الجمعية، ويستقبل الهبات والتبرعات من أهل الخير، والزكاة النقدية وغير النقدية، ويوظف في استثمارات مناسبة بأيد أمينة، وتُبنى منه أوقاف، ثم يعود إلى الشيخ في سن التقاعد، أو عند إصابته بمكروه، من مرض يعجز معه عن أداء مهمته، أو يعود إلى ذرية له ضعاف عند الوفاة، وبهذا يُحفظ للشيخ قدره، ويُوفى له حقه، ولا يكون القرآن والقائمون عليه عالة على غيرهم، وهكذا نحيي تراث (القرآن)، ويشارك المجتمع في الحفاظ على الهوية الإسلامية في إريتريا، ويحمي ذاته كما حماها من قبل يوم أراد المستعمر الإثيوبي طمسها وتذويبها في ثقافته الأمهرية، لغة وعقيدة، وبذلك  يكون القرآن جزءاً لا يتجزأ من التكوين الثقافي لمجتمعنا.

رحم الله جميع من رحل عن حياتنا هذه من حملة لواء القرآن، من الذين سبقونا بالإيمان؛ من مشايخنا الكرام، وتسببوا في تعليمنا، وبارك في الذين خلفوهم، واهتدوا بهداهم في تعليم القرآن، والسهر على حفظه وتحفيظه، «خيركم من تعلّم القرآن وعلمه»، «والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه»، ورد كيد المتآمرين على القرآن وخلاويه؛ من الذين حرضوا على إغلاقها، ويرون في إحيائها تخلفاً ورجعية، من فلول الماركسيين والملحدين، ﴿... وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال : 30].

الإحالات والهوامش:

(*) أستاذ مشارك في جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية .

(1) إريتريا طريق الهجرات والديانات ومدخل الإسلام إلى إفريقيا، محمد سعيد ناود، الناشر: شركة دار الكويت للصحافة (الأنباء).

(2) تاريخ ومكانة اللغة العربية في إريتريا، آدم محمد صالح فكاك، انظر: http://www.sudaneseonline.com/ar/printer_21759.shtml

(3)انظر:http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1180421311460&pagename=Zone-Arabic-ArtCulture/ACALayout

Top
X

Right Click

No Right Click