ما وراء السلام بين ارتريا واثيوبيا؟ القسم الأول

بقلم الأستاذ: أبوبكر فريتاي - كاتب ومفكر سياسي

حكم الجغرافيا على إرتريا إنطوى على قدر من المعاناة على شعبها إذ تتكئ على شاطئ مترامي على امتداد البحر الاحمر

السلام بين ارتريا واثيوبيا

ومساحة ضيقه لا تزيد على 124 كلم مربع، وشعب لم تمهله الأيام المتداولة عليه حروباً وصراعات ليرسم معالم طريقه بسلام، وفي الجوار (المزعج) إثيوبيا المترامية الأطراف أرضاً والأوسع شعباً ولا تقوم على سم2 من الماء الذي تتنفس عبره نحو الخارج. ومن تلك المفارقة بدأت الحرب قبل سبعة وخمسين عاماً وإليها ينتهي الآن (التسونامي) الجاري الان بين مسرحي أسمرا وأديس ابابا ليفتح ملفات صراع عنيف ودموي بين الطرفين ينتهي في لمح البصر الى موائد التقبيل والضحك والرقص ومنح الألقاب والنياشين، والحاصل أن قراءة ذلك الحدث والتعامل معه كان وما يزال يتطلب الفطنة والروية والعمق ويحتاج الى ان نبتعد بقدر مناسب عن اللوحة لنستجمع اطراف المشهد كضرورة ملحة لفهم المآلات. ونساعد أنفسنا للخروج من دائرة التلاطم والإرتباك والشد والجذب الجاري الآن بين مختلف الأطراف الإرترية حتى لا نكون فرائس في هذه المرحلة أيضاً، بعد أن أضعنا فرصة السبعة وعشرين عاماً الماضية ونحن ندور في فلك مربع واحد (التوافق على مشروع مقاومة مشترك) وما زلنا حتى الآن نركض خلف هذا المطلب، والحال ان الظروف تتغيير والمعطيات ايضاً تغيرت الى درجة نفكر فيها الأن لتأسيس مشروع و و إلخ.

ليس من الحصافة السياسية أن تعمد في كل مرحلة جديدة أو حدث يقف أمامك الى تصفير العداد، لتبدأ من جديد، والمعيب أن تطرح على نفسك نفس السؤال الذي سبق وان اجبت عليه في مراحل سابقة دون أن تكون لذلك ضرورات موضوعية. وهكذا أجد في قراءة ما يجري الأن مطبات تحتاج فعلاً الى معالجة فكرية وسياسية وتحتاج الى فهم ابعاد كل ما يجري.

على المستوى الإثيوبي:

نبدأ بهذه النقطة لنتلمس هل أن ما يقوده الآن أبي أحمد هو مشهد سلام بين البلدين ؟ أم استحداث مخطط اثيوبي قديم على ارتريا ؟ والحال ان الرجل ليس بعقلية حكام اثيوبيا السابقين، وهو ايضاً ليس على نمط من حكموا اثيوبيا بعد 1991 وتعطلت خطواتهم وعلاقاتهم في عام 2000م ليقفوا اليوم ازاء المشهد الجاري تارة بحاجب مرفوع تعجباً واخرى بعين حمراء للشاب الارومياوي الذي يتجاوز حواجز العقبات الكأداء بين اثيوبيا وجيرانها بسرعة ملفته ومبهرة للبعض بقدر كبير.

والحال أن الوضع الإثيوبي سياسياً واقتصادياً وأمنياً وايضاً جغرافياً (داخلياً)، دخل في عنق زجاجة وزادت الاحمال ثقلاً على الإئتلاف الحاكم EPRDF، الذي انبثق بمبادرة الجبهة الشعبية لتحرير تقراي TPLF، وتعقدت بعد رحيل ملس زيناوي ليواجه خليفته هيلي ماريام دسآلنج صعوبة ملموسة في ادارة الملفات الداخلية في المقاوم الأول:-

• عجزه عن ملئ الفراغ الذي خلفه زيناوي أمام الإئتلاف الحاكم من جهة وتمنع الـ TPLF ليكونوا جزء من أدوات الحكم واصرارهم على التغول والإستئساد بملفات كبيرة ابرزها الإقتصادية والعسكرية والأمنية فضلاً عن توسع وجودهم الملحوظ في كل زوايا البلاد وكأنهم اهل السلطة الوحيدون وتلك الحلقة الرئيسية التي صعدت حالات سخط وغضب ومسيرات ومظاهرات وتمرد أدي لإعتقالات سياسية واسعة.

• عجزه في التصدي لملف الآراضي للأرومو خاصة حول نطاق العاصمة الإييوبية وتصاعد القضية حتى وصلت الى طرق ابواب البرلمان الذي لم يستطع ان يحرك فيها ساكن.

• تبرم المنضوين من الآرومو والأمهرة في الإئتلاف من سطوة TPLF وأطلالة بوادر التصدع في تلك الجبهة التي تحولت الى حزب مهيمن على أروقة الحكم كافة.

• توسع هوة الخلاف بين اثيوبيا وجيرانها كافة. وتحول سد النهضة الى سدٍ منيع وضع علاقاتها مع مصر على حافة حرب أو قل توتر يمكن ان تمتد تداعياته الى علاقات اثيوبيا مع اطراف عربية اخرى.

• وأما الملف الإرتري فكانت قصته هي الكبرى اذ عجز دسآلنج عن تحريكه تماماً.

هذه المعطيات مجتمعة شكلت أرضية ممهدة لمجيئ ابي أحمد وبمساعدة اطراف خارجية أولها أمريكا التي قال مسؤل فيها ان ادارته ساهمت في مجيئ أبي أحمد، وهذا الدور بالذات هو الذي جسر علاقات الرجل خاصة مع السعودية والامارات ومصر وبالتالي فتحت أمامه الأبواب ليدلف عبرها واحدة إثر اخرى ويغلقها بسلام، ملف مصر والصومال وارتريا و و الخ. في غضون ستة أشهر من تاريخ حكم الرجل ؟؟؟

وتحول أبيي أحمد الى رمز ملفت في المنطقة وتشكلت حوله هالة شعبية غير مسبوقة داخل اثيوبيا، وانتقل اثر ذلك الى ارتريا التي استقبلته ببذخ ملفت (حتماً صنعه وفرضه اسياس).

من هنا اقول: ان الرجل بدأ تحركه في مضامير مرسومة ومتفق عليها. وما اقدم عليه على مستوى مؤسسة الحكم هو أمر متفق عليه، ومن أعتقد ان التقراي تم تقزيمهم في الحكم ربما قرأ الأمر بنصف عين، لأن ما قام به ابي احمد أنقذ التقراي من مطب عميق كانوا سيواجهونه في استمرار قبضتهم على الحكم، ومن ذلك:-

• عدم قدرتهم على محاكمة الجيش المعتقل من السياسيين.

• عدم قدرتهم على تنفيذ الأحكام الصادرة على بعض المعتقلين ومنها الإعدام.

• عدم قدرتهم الى حل ملف اراضي الأقاليم

• كيف سيخرجون دهاليز الدولة التي عم وجودهم في كل مفاصلها واصبح يشكل عليهم عبئ يصعب تحمل تبعاته.

• كيف يواجهون تصاعد المقاومة والاحزاب وقنوات الاعلام المعارضة (راديو وتلفزيون) التي تكاثرت على نحو خطير ضدهم في الخارج وباتت تشكل عليهم عبئ وحرج بالغ أمام العالم الغربي خاصة.

كل ذلك العبئ، رفعه أبيي احمد بضربة واحدة. وبسرعة واضحة لاقت استحساناً من الشعب في الداخل ومن الاصدقاء والرعاة الجدد لمسيرة أبي احمد في اثيوبيا. إذن الجبهة الشعبية لتحرير تقراي خرجت من ازمة فعلية وإن الذي تباكت عليه من فقدان ملفات معينة في الحكم بالأساس لم يكن حقها الدستوري وهي تعلم ذلك وعليها أن تذعن لهذه التغييرات إذا ارادت الإستمرار في إثيوبيا، ولا اعتقد ان لها خيار آخر، وأما التصريحات التي لوحت بها اكثر من مرة بأن اقليم التقراي ربما سيفكر في تقرير مصيره فهذا أمر يكفله لهم الدستور الإثيوبي كما يكفله للآخرين، ولا يحتاج الى أعلان كأنه قرار حصري لهم.

وما سيواجهه الإئتلاف الحاكم في المرحلة القادمة سيكون هو الأهم والأخطر أيضاً، وستكون الـ TPLF الأكثر تضرراً مما يسحدث، حيث رأينا تدفق أحزاب المعارضة المسلحة وغير المسلحة كلها لبت نداء أبي احمد ودخلت البلاد. وهذا يعني توسع رقعة الاحزاب السياسية في البلاد ومن الطبيعي ان تشارك جميعها في الإنتخابات القادمة وتنافس على الحكم كغيرها. ولهذا بدأت مبكراً عمليات سحب كراسي التحالف داخل الـ EPRDF ليتم تشكيل العلاقات على قواعد جديدة، ستدفع الأمهرة والأرومو والتقراي لتقديم اطروحات جذب لتحالفات جديدة تمكنهم من الظهور في المشهد الإثيوبي الجديد بقيادة أبي أحمد، والحاصل أن هذا التحول سيفرض على الــ EPRDF إما التحول الى حزب سياسي واحد يجمع من يأتلف فيه. وإما أن يتصدع رغماً عنه تجاوباً مع الخارطة الجديدة التي سيفرضها دخول كافة احزاب المعارضة أو قل جلها.

ولو تسائلنا: هل كان لإسياس افورقي علاقة بهذا التغيير الواسع والجوهري في اثيوبيا ؟ الإجابة المباشرة هي نعم. ولا نحتاج الى تفصيل كثير الأن. فقط أقول ان واحد من معطيات ما وصف بالسلام مع ارتريا هو هذا التحول الذي شهدته إثيوبيا وهو بالطبع أمر يهم اثيوبيا أكثر والشاهد أن أسمرا ما زالت تلعب دور المصلح بين حكومة أديس أبابا ومعارضها وكان آخرها موافقة (الحركة الديمقراطية لتحرير تقراي (دمهيت) على الأنخراط في العمل السياسي السلمي برعاية أسمرا.

وخلاصة هذه الفقرة: أن ما يجري يصعب عليّ أن اصفه بعمليات سلام بين إرتريا وإثيوبيا ولكنه عملية سياسية واسعة تتم برعاية دولية وإقليمية الملفت فيها أن إثيوبيا تحقق مصالح هي في الواقع حقها المشروع ولكنها تحث الخطى نحو سيطرة تامة على ميناء عصب الذي استلمت ادارته وهيأت له بمعاونة دولة الإمارات كل المطلوبات لتمخر بعد فترة سفنها عباب البحر وترسوا على سواحلنا بلا حول منا ولا قوة، القادم هو الأسوء.

غداً ان شاء الله نناقش الفقرة الثانية: على المستوى الإرتري: النظام والمعارضة ؟

Top
X

Right Click

No Right Click