هل هو سلام أم مجرد تطبيع علاقات؟ الجزء الاول

بقلم الأستاذ: فتحي عثمان - كاتب وديبلوماسي سابق

في الأسبوع الماضي استضافني مشكورا برنامج سيناريوهات في قناة الجزيرة، وطبيعة البرنامج لا تفرد حيزا واسعا لتناول كافة

جوانب موضوع العلاقات الارترية الاثيوبية ومستجداتها.

أسياس أفورقي و أبي أحمد علي

رغم ذلك فتحت لي المشاركة استفادة واسعة من آراء اخوة واخوات تابعوا الحلقة وأسهموا في تشكيل نقاط لم يتم التطرق اليها. والكتابة التالية تجئ امتدادا لهذه المداخلات النافعة وتوسيعا لما كان يجب طرحه لولا ضيق المساحة كما ذكرنا. واحب دخول هذه الكتابة بالإشارة إلى ملاحظة فات على البعض التقاطها وهي إشارة مقدم البرنامج الأستاذ محمد كريشان بأن أبي احمد حضر رسالة الدكتوراه في مجال السلام، لذلك هو يمارس حاليا ما تعلمه اكاديميا. الحقيقة أن هذه الإشارة يمكن أن يبنى عليها افتراضات مهمة.

أود أولا إحالة القارئ إلى السؤال الوارد في صدر المقال، واكرره للتذكير:-

• هل ما يجري بين ارتريا واثيوبيا عملية سلام أم أنه مجرد تطبيع لعلاقات بين دولتين ؟
• وماهي أسس التفرقة بين العملية السلمية وتطبيع العلاقات ؟

في الدبلوماسية التقليدية اعتبر السلام دوما هو سكوت دوي المدافع؛ وأن السلام هو هدنة بين حربين. بالفعل السلام الذي كان يتم في الماضي كان يتم حشوه بالالغام التي تؤدي إلى انفجاره، سواء كان ذلك عن قصد أو غير قصد، وتبتدئ بموته حلقة جديدة من النزاع والحروب؛ لأن الدول الأوروبية كانت دوما تستغل فترة السلام، أو الهدنة لبناء الاحلاف السياسية والعسكرية استعدادا لجولة أخرى - عادة أشد - من الحرب.

مثال ذلك اتفاقية فرساي الشهيرة سنة 1919 والتي كسرت شوكة المانيا المهزومة في الحرب وأذلتها وبذرت بذور الحرب العالمية الثانية. وبالرجوع إلى الإشارة حول تخصص أبي احمد الاكاديمي، فلقد ظهرت حديثا دراسات متخصصة في حل النزاعات وتخصص آخر حديث ومتشعب هو تخصص دبلوماسية السلام والتنمية. هذا التخصص يبنى على عدة حقول هي: القانون الدولي والدبلوماسية، والاقتصاد وعلوم الاجتماع والنفس والعلوم السياسية والإدارة.

شهد هذا التخصص تبلور معالمه الأساسية بعد الحروب والنزاعات؛ بشكل خاص النزاعات الاهلية داخل الدول في آسيا وافريقيا.

يهدف التخصص في جانبه العملي إلى غاية كبيرة وهي تحديد السلام في مفهوم "نشر ثقافة السلام" وأعادة التأهيل في مرحلة ما بعد الحرب، ويرتكز على في تقييم أدائه على فكرة "بناء السلام"، "بيس بيلدنغ كلتشر".

تبنى ثقافة السلام أو السلام المستدام على عدة محاور هي: بناء الثقة بين شركاء السلام، إرساء بنية السلام المستدام بنزع الكراهية وإزالة جذور النزاع عبر ترسيخ مبادئ العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسة وإعادة توزيع الموارد المشار اليها وأخيرا التمكين والتمليك: وهي فكرة أعطاء المستفيدين من السلام الحق في الدفاع عنه باعتبار أنه الخيار الأفضل من الحرب والنزاع، ويشمل ذلك توزيع عوائد وفوائد السلام على الشركاء.

فلو طبقنا مثلا هذه الأفكار على الحرب الاهلية في جنوب السودان نجد أن المظالم التاريخية بين الفرقاء أو الشركاء هي التي دفعت إلى الحرب، ففي هذه الحالة يجب إزالة المظالم والعمل على إسكات المدافع والتوطين ونشر ثقافة السلام عبر تأهيل المتضررين وإرساء بنية تحتية اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية قائمة على فكرة السلام وإشعار المستفدين منها بأنها أكثر نجاعة من الاحتراب للحصول على الموارد وإلغاء مفاهيم المعادلات الصفرية التي تقوم على فكرة أن خسائر طرف ما هي مكاسب لطرف آخر، وهذا ما يسمي بسلام الفائزين؛ القائم على العدالة ومساواة القسمة. على مستوى الدول تقوم فكرة بناء السلام على أساس أن الطرفين مستفيدين وأنه لا جدوى من إذلال الخصم ونبذ الكراهية وإزالة الأسباب العميقة للنزاع مع تمكين المستفيدين من الدفاع عن السلام المتحقق.

وضمن نشر ثقافة السلام بين الدول من المهم إلى التوصل إلى تطبيع العلاقات بين الدولتين وذلك بغرض فتح القنوات الدبلوماسية لتدعيم بنية السلام عبر الوسطاء، والدبلوماسيين. وبالنظر إلى اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل والمعروفة باتفاقية سلام كامب دايفيد لسنة 1977 نجد أنها كانت تطبيعا لعلاقات بين دولتين متحاربتين وإسكات لصوت المدافع ولكن الاتفاقية لم تؤدي أو تنجح في نشر ثقافة السلام لعدة اعتبارات؛ مما يعني أن تطبيع العلاقات يختلف عن مفهوم السلام.

ومن أجل تحديد عما إذا كانت ما يتم بين ارتريا واثيوبيا حاليا سلام أو مجرد تطبيع علاقات فسوف نحلل قوائم العملية السياسية التي تتم الآن بناء على معلومات من مصادر دبلوماسية وإعلامية موثوقة والتوقف عند مؤشرات تغيب في غمرة الهياج وحالة الهستيرية التي رافقت زيارات زعيمي البلدين "التاريخية" والتسويق الذي يتم على أن العملية هي عملية سلمية تمحي تاريخا من العداء غير المطلوب. هنا تنبغي الإشارة إلى الخروج عن ذهنية القطيع والهياج دوما ما تدفع الجماعة إلى تخوين المارق: وهذا يتم دوما عند يسبح الفرد أو مجموعة ضد التيار؛ لكن هذا يجب أن لا يمنع شجاعة الضمير من القول والبيان لأمانة تاريخية قد تدرك لاحقا.
المرتكزات التي يمكن أن تساعد على فهم ما يجري هي: أولا البيئة السياسية التي يتم فيها صناعة هذا "السلام" ثانيا: الشركاء القائمين على صنع السلام، وأخيرا المصالح أو العوائد المتصورة للمشاركين من الدخول في هذه العملية.

وحتى لا تطول الكتابة وتفقد القارئ القدرة على المتابعة فسوف اكتفي هنا بالمرتكز الأول هو البيئة السياسية.

السلام تحت ظل الحرب:

التقارب بين ارتريا واثيوبيا وتطبيع العلاقات بينهما يتم أساسا في أجواء حرب باردة لا ينتبه لها الإ من قبل المتخصصين والمراقبين الدبلوماسيين والخبراء الاستراتيجيين: الحرب المقصودة هي الامريكية الصينية والتي تدور رحاها بين البلدين على المستوى التجارة؛ اما بالنسبة للصراع على النفوذ فإن ميدانها هو افريقيا ونخص ولغرض هذه الكتابة منطقة القرن الافريقي والعالم العربي وشرق افريقيا بالتناول. الصراع الصيني تزداد حدته في ظل إدارة أمريكية تدير السياسة الخارجية كإدارة الشركات، وهي تقوم عند رجل الأعمال الأمريكي على تحقيق الأرباح الملموسة (خاصة المالية) فإذا كان هناك حلفاء جديرون بالحماية فعليهم دفع "ثمن" الخدمة الامريكية قياسا؛ على مثل هذا النوع من المكاسب ومحاربة الخصوم بشراسة فتحت السياسة الخارجية الامريكية جبهة الحرب التجارية مع الصين والاتحاد الأوروبي وبالأمس القريب وفي لندن نصح ترامب تريزا ماي بمقاضاة الاتحاد الأوروبي بدلا من التفاوض معه وهي بدورها اعتبرت هذه النصحية قاسية ولا يمكن تقبلها.

دوائر صنع القرار الأمريكي ترى الصين تتحرك في افريقيا وتكسب مواطئ قدم لم تستطع الولايات المتحدة الفوز فيها. دوافع الصين في التوجه نحو افريقيا مبنية على الحاجة المتزايدة للاقتصاد الصيني النامي لكل الموارد المتاحة في افريقيا خاصة موارد الطاقة والتعدين. وقامت الصين بمبادرة دبلوماسية غير مسبوقة وهي مبادرة طريق الحرير وهي المبادرة التي أعلنتها الصين في عام 2013 وهي تشمل الدول التي يمر بها طريق الحرير القديم وتشمل شرق افريقيا ودول القرن الافريقي وبحسب هذه الرؤية قامت الصين بمبادرة دبلوماسية غير مسبوقة وهي مبادرة طريق الحرير وهي المبادرة التي أعلنتها الصين في عام 2013 وبحسب الصين فإن الهدف الاستثماري هو تطوير البنية في "الدول الشريكة" ويشمل ذلك تطوير الموانئ وخطوط السكة حديد والمطارات واستفادت من هذه الرؤية كل من جيبوتي واثيوبيا، التي تعتبر فيها الصين المستثمر الأول خاصة في قطاع الصناعة وتنزانيا والسودان وارتريا التي سمحت لشركات صينية بالعمل في مجال التنقيب عن المعادن وموارد الطاقة. المبادرة الصينية متاحة في المواقع والدوريات المتخصصة. في بداية المبادرة خصصت لها الصين 60 مليار دولار وسوف تصل مخصصات المبادرة إلى 800 مليار دولار.

فلماذا يفضل الافارقة الاستثمارات الصينية على الاستثمارات الغربية عامة والأمريكية خاصة ؟ الإجابة تكمن في أن الصين لا تتدخل في القرارات السياسية للحكام الافارقة وتوجيه سياساتهم: وهو الأمر الذي يبعث على الارتياح عند المقارنة بالدول الغربية. ثانيا: الصين تساهم في الاستثمارات وتنمية البنية التحتية: فهي تبني الجسور والموانئ والطرق، لذلك يعتبرها الافارقة شريك موثوق ويمكن الاعتماد عليه. فنحن لا نسمع بطريق بناه الامريكان أو جسر بناه الفرنسيون او مطار بناه الطليان.

لهذه الاعتبارات أصبحت الصين الشريك الاستثماري الأول للدول الافريقية. أخيرا تقدم الصين نموذجا تنمويا مشابها ويمكن الاحتذاء به في التطور الممركز وهي ليست بعيدة في تطورها عن مسارات الدول الافريقية النامية والتي تباعدت الشقة بينها وبين الدول الغربية في كافة المجالات.

بالنظر إلى هذه الاعتبارات نجد ان الصين حظيت بوضع خاص في اثيوبيا، الحليف القديم للولايات المتحدة الأمر الذي اثار مخاوف الولايات المتحدة ودفعها لاعلان الحرب على الصين في اثيوبيا خاصة وأن العراب السياسي الذي احتضن الصين في اثيوبيا كان هو الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، وهي الجبهة التي لم تنكر في الثمانينات توجهها الماوي المتشدد، والذي كان احد خلافاتها الأيديولوجية مع الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا.

بعد سيطرتها على الائتلاف الحاكم في اثيوبيا وامساكها بمفاصل السلطة في البلاد وجدت الجبهة في النموذج التنموي الصيني والشراكة مع الصين أساسا لخطها التنموي الذي تبناه وعمل عليه رئيس الوزراء الأسبق ملس زيناوي. الصين وضعت عينها على قطاعات التعدين والطاقة في اثيوبيا وقامت الحكومة الاثيوبية بتعيين وزير الخارجية السابق سيوم مسفن سفيرا لها لدى الصين، هذا التعيين جعل الرجل وعلاقاته بحلفائه في اديس ابابا يمسك بملف التعاون الصيني الاثيوبي. هذا الأمر لم يريح الإدارة الامريكية خاصة في بلد يعتبر حليف استراتييجي تاريخي، يضاف إلى ذلك الوجود العسكري الصيني في جيبوتي.

وجاء رئيس الوزراء الجديد واعلن أولا حملة على الفساد واتجاه لخصخصة المؤسسات العامة للدولة وسار في الاتجاه الأمريكي من الناحية الاقتصادية، وبنى سياسة مكافحة الفساد على الحملة التي قامت بها الجبهة الشعبية لتحرير في مؤتمرها وقامت باقصاء العديد من رموزها بما في ذلك السيدة الأولي السابقة حرم ملس زيناوي من الجبهة بتهم فساد الذمم.

الشراكة الامريكية الاثيوبية التي تتم في ظلها عملية " السلام" تجاه ارتريا تتم في ظل هذه الحرب هذه الحرب بين العملاقين الأمريكي والصيني.

في الجزء الثاني سوف ندرس الشركاء في العملية وسوف يقودنا ذلك إلى التوسع في ما طرحنا المقدم أعلاه.

Top
X

Right Click

No Right Click