محمود حسب المناضل القائد الفنان

بقلم الأستاذة: امال مينا - الصحفية السودانية

تبدو الكلمات مسيرة الميلاد، فأنا أتحدث هنا عن المناضل محمود حسب، وهو غائب فقد كان يرفض

محمود حسب محمد 3

أن نتحدث عنه أو أن يتحدث هو عن نفسه. والحديث عنه ليس سهلاً.

فهل صديق حميم - قريب إلى النفس - تربطني به روابط كثيرة كتلك التي تعيش في جوانحه، فهو فنان، يرسم، من تذوق راق للشعر والأدب والعلوم خاصة العسكرية منها، مرهف الحس من لا يعرف أنه عسكري، يقول أنه فنان مبدع، حنون حناناً متدفقاً يترجمه في نظرة أو كلمة.

صفات جعلتني ارتبط به منذ التقينا في أوائل السبعينات صدفة مع أحد المناضلين الأصدقاء بعيداً عن الميدان في تلك الأيام حكي كثيراً عن ارتريا حكي عنها وشاهدتها عبر لوحات رسمها بالكلمات، وكان حديثه جانباً اضافياً لمعرفتي بارتريا النضال، الثورة، الوطن السليب والشعب المشرد، وزاد شوقي إلى هذه الأرض التي أحبها محمود حسب بعنف، وقدم لي الدعوة وقبلتها، ولكن موعدها تأجل، ومع كل رسالة من رسائله كانت الرغبة في الزيارة تزداد، ومرت الأيام والشهور وأنا أرى ارتريا بعيون محمود ويزداد حبي لها وهذا الحب المشترك زاد من ترابطنا وزادت الرغبة في زيارة الأرض.

توالت الأحداث سريعاً، على كل المستويات الشخصية والعامة بالنسبة لكلينا، كان فيها محمود حسب صاحب الصفات المثلى التي لم تصادفني في مشوار حياتي الصحفية منذ ثلاثين عاماً خلت مثالية الرجل، مثالية الوطني الثائر، مثالية المقاتل الجسور، مثالية في التضحية حتى بمشاعره، مثالياً في صداقته، مثالياً، نادرة، كانت موضع تقدير مني في كلى الأحوال، وجاءت حرب التحرير الجسورة في السبعينات، وبدأت أحداثها تطرب الأذان، والثوار يزحفون على ارض ارتريا يحررون أجزاؤها الطيبة يرونها بدماء الشهداء، شهيداً تلو الشهيد، وبدأت أجرى وراء الاخبار في كل الأتجاهات وجاءت أخبار محمود حسب عبر الاصدقاء في (كسلا) الأخبار تحوي اشتراكه في معارك ضارية على أرض ارتريا ومع سماع كل نبأ كنت أحبس انفاسي حتى أسمع عن تحرير المنطقة وعودته سالماً ولم يكن لي في تلك الفترة صداقة وطيدة بأي من المقاتلين في الميدان سوى محمود، لكن ربطتني صداقة مع عدد من السياسيين الذين كانوا يترددون على الخرطوم.

وذات يوم جاءني (همد كلو) مدير مكتب جبهة التحرير الارترية في الخرطوم آنذاك ودعاني إلى زيارة الأراضي المحررة، واستخرج لي الإذن بذلك كان ذلك في نهاية عام 1977م وسعادتي في تلك اللحظات لا توصف كنت متشوقة أن أري ما سمعت من محمود حسب عن ارتريا على الطبيعة ووصلت كسلا في الموعد المحدد واستقبلني صديقي العزيم (عم حسين) وهو مناضل من قدامي المجاهدين. قضينا أنا والعم حسين وقتاً طويلاً يحكي لي عن البطولات لاسماء متعددة من المقاتلين الذين قادوا فرق التحرير للمدن الصغيرة الهامة على الساحة الأرترية. سمعت عن معركة تحرير مدينة (تسني) وعلي قدر والتي قام فيها محمود حسب بأعمال بطولية مع عدد من رفاقه الأبطال في ملحمة بطولية رائعة تم فيها تحرير المدينتين، وسمعت عنه وهو يقوم أيضاً بتحرير مدينة أغردات، وسمعت أيضاً عن الشهيد تمساح وكيف قام هو وزملاؤه بتحرير مدينة (قلوج ام حجر) وسمعت حكايات المناضل حامد محمود ومعاركة لتحرير عيلا يرعد ودباروا، كما سمعت عن معركة مندفراً، والتي قام بها أربعون مناضلاً استشهدوا جميعاً من أجل تحرير هذه المدينة الاستراتيجية الهامة. سمعت كل شيء دونته في مذكراتي حفظته أحببت المقاتلين الأحياء منهم والشهداء، وصمت اذاني حكايات المؤامرات الداخلية التي قام بها (الفالول) لكن رغم هذا كان ايماني بالرجال الأقوياء المؤمنين بقضيتهم أيماناً كبيراً، وأن انتصارهم حتمي طالما أن هدفهم وطني خالص، وصادف دخولي الى ارتريا اجراء حوارات بين جبهة التحرر الارترية، والجبهة الشعبية وعندما كنت في معسكر التنفيذية في هواشيت) التقيت بعدد من المقاتلين ومنهم (أحمد ناصر الذي تولي رئاسة المجلس الثوري في تلك الأيام) وتعرفت أيضاً على (تسفاي دقيقة) وإبراهيم توتيل الذي كان رافضاً ذهابي إلى (حقات) مع المجلس إلا أن المناضلة آمنه ملكين رئيسة اتحاد المرأة في ذاك الوقت أصرت على ضرورة ذهابي.

في تلك الأثناء علم محمود حسب بوجودي في الميدان وكان لديه متسع من الوقت قرر ان يسير ليراني،بالفعل التقينا وواصلنا الذهاب إلى حقات، في الطريق تناولنا الشاي في الفجر في (حمرت كلبوي) واختار لي ثمارا ظازجة من مزارع تكرربت (وهي الضاحية الغربية لمدينة أغردات) كنت في قيمة السعادة وأنا اتذوق حلاوة الفاكهة، ثمار الأرض المحررة التي رأيت حلاوتها في عيون صديقي المناضل الاسطورة توالت الأحداث بعد ذلك وقضيت أجمل أيام حياتي في أغرودات وحقات وساوا وهواشيت وخرجت من رحلتي برصيد هايل من الأصدقاء من المقاتلين والمقاتلات.

لكن بين زحمة الحياة والعودة للخرطوم غاب محمودحسب مرة أخرى لنلتقي بعد سبعة أعوام كاملة في خور الدوم أثناء انعقاد مؤتمر وحدة الفصائل الثلاثة جبهة التحرير الارترية (الأم) واللجنة الثورية وقوات التحرير وجدت في الخور ثلاثة معسكرات كل تنظيم أقام له معسكراً منفصلاً وبحراسة منفصلة، وأصررت أن أبقي في معسكر الجبهة، وبقي معي كل الصحفيين المدعوين.

وبدأت اتحسس الأسماء التي عرفتها منذ سنوات خلت وخرجت من خيمتي أبحث عن محمود حسب و سألت المناضل عمر عليم عنه فأشار عليه بيده، وسعدت لوجوده وعندما رأيته في ذلك اليوم وجدته نحيلا متجهم الوجه، ولما رأني قفزت العبارات الى شفتيه بدون قصد، قال لي ظننتك ذهبت مع الذين انشقوا من التنظيم لعلاقتك الوطيدة بهم قلت له أنا مؤمنة بالأصل، مؤمنة بجبهة التحرير الارترية أصل نضال القائد الشهيد عواتي، ولا اؤمن بالفروع لكن لا أعاديهم لأنهم ارتريون أولاً وأخيراً.

ويومها صعدنا إلى تل مقارب لمكان المعسكر جلسنا إلى قمته وتحدثنا في كل الأمور العامة منها والخاصة حصيلة سبع سنوات افترقنا عبرها، تحدثنا ساعات وساعات ولم نلحظ أن الفجر قد انبثق وأن لابد أن ننزل إلى المسعكر ولم ينعقد أي اتفاق بين الجبهات الثلاث طوال أربعة أيام، وجاءت لحظة القرار أن يغادر الضيوف المكان، وغادروه إلى كسلا أما أنا فقد خرجت مع أعضاء الجبهة إلى الاراضي الواقعة تحت سيطرتها، دفعني محمود حسب إلى سيارة القائد عبدالله إدريس، واصر أن لا أعود خائبة إلى كسلا بل لابد ان اقف على بعض الأعمال واعداد الكوادر. ودخلنا معسكر مدرسة الكوادر وجهز لي محمود حسب بالاتفاق مع القائد المناضل / حاج إبراهيم برنامجاً رائعاً شاهدنا فيه المستجدين والأشبال وقضيت وقتاً رائعاً مع المقاتلين وكان محمود حسب في كل لحظة يحاول أن لا يشعرني بخيبة الأمل وبقينا في المعسكر يومين في محاولة إلى رأب الصدع بين الفصائل الثلاثة للوصول إلى كلمة موحدة ولكن بدون فائدة.

وعدت إلى كسلا هذه المرة و دامت اتصالاتنا، كان يحكي لي عن الميدان وكنت أحكي له عن المدينة وتمت الوحدة الروتينية بين الفصائل الثلاثة في الخرطوم في احتفال روتيني، لكن محمود حسب لم يحضر الاجتماع، كان مؤمناً أن هذه الوحدة لن تستمر وصدق حسه، لم تستمر الوحدة ولم تدم طويلاً.

حان الوقت الذي يعمل فيه الجميع على إعادة بناء الجبهة استعداداً للنضال، وجاءت الساعة التي تقرر فيها مغادرة الموقع والانسحاب إلى المعسكر في القاش، وسارت جماعة إلى القاش وأخرى إلى كسلا، وكنت مع المتجهين إلى كسلا، مضت الأيام كنت أسمع فيها حكايات الجبهة وهي تلم شملها من جديد بإصرار القيادات ودعم الجماهير خاصة قدامي المقاتلين، تستعيد قدرتها وتثابر من أجل ان تتواصل مسيرة النضال، وبالطبع حكايات محمود حسب في الميدان كانت تصلنا عبر الأصدقاء من كسلا، وعرفت مجهوداته الكبيرة في استعادة وجود وقوة الجبهة بأبسط الأمكانيات وكيف كان يثبت عزيمة الأبطال ويقوم بالعمليات العسكرية ويستولي على السلاح والعتاد والمؤن.

وذات يوم سمعت بقدومه للخرطوم يعاني بعض الآلام والتقيت به وتحدثنا ذات الحديث الحلو لكن عندما حانت لحظة الوداع قرأت في عينيه كلمات وداع صامته لم أتحسس معناها في تلك اللحظات فقد أمعن النظر في لحظات ثم قال إن شاء الله نلتقي قريباً.

ومضت الأيام مسرعة وأنا أغوص في هموم الحياة اليومية وذات يوم سمعت بالصدفة أن رصاصاً غادراً صوب إلى صدر محمود حسب وأستشهد أمام منزله في كسلا، ولم أصدق خرجت إلى الشارع أبحث عن وسيلة للذهاب إلى مكتب الجبهة بالخرطوم لتأكيد الخبر، وفي المكتب وجدت القائد عبدالله إدريس جاء لتوه من رحلة عمل ولما التقينا لم نجد كلمات عزاء لنقولها لبعضنا البعض، هو فقد رفيق درب وسلاح وأنا فقدت صديقاً عزيزاً، وهو فقد ركناً هاماً في تنظيمه وأنا فقدت ركناً هاماً في حياتي.

لكنها الحقيقة، أستشهد محمود حسب في غير موقعه مات غدرا حزني على موته غدرا أكثر من حزني عليه لو مات شهيداً في الميدان، ولكنه قدره مكتوب في السماء منذ يوم ميلاده أن يموت محمود حسب بيده غادرة في يوم 1989/9/3م وما تأمر به السماء تتلقاه الأرض.

أما أنا فالبرغم من كل هذه الحقيقة المرة أكاد لا أصدق أن فارس القاش قد اسشتهد، بدون وداع، بدون انذار، مات غدرا وماتت معه معاني الأحاسيس الجميلة في نفسي خسرته صديقاً وخسرته الثورة الأرترية بكل فصائلها، فقد قتلت مناضلاً وطنياً كان جديراً بها أن تحتفظ به لتقدمه لساحات النضال في رحلة البحث عن التحرير، ورغم أنني لا أتصور عودتي للميدان دون أن أرى محمود حسب بطل من قلب شجرة او من شق خندق أو من قمة تل، فإنني مؤمنة بكل رفيق من رفقاءه الصامدين وبكل كادر من كوادره التي دربها على حمل السلاح، مؤمنة بهم وهم يواصلون المسيرة وتحقيق الهدف مؤمنة بهم في صفوف جبهة التحرير الارترية مؤمنه بان عزاء قلبي وبسلم حزني في انتصار يقدمه هؤلاء الأبطال تحقيقاً لهدف ورغبة الشهيد محمود حسب من اجل تحرير الأرض.

Top
X

Right Click

No Right Click