قصص مروعة من استغلال اللاجئين في ليبيا

بقلم الأستاذة: هند عبد الحميد - محررة المصدر: ميدان

منذ عام 2001، وعلى مدار عقد الألفية الأول كاملًا، امتلك العقيد معمر القذافي يدًا عُليا على القارة الأوروبية (1)؛ مدركًا في تلك

السنوات بإحاطة كاملة ما يعنيه امتلاك سلاح فتاك، يمكنه التلويح باستخدامه فقط، لتسقط قارة بأكملها في محاولات البحث عن طريقة لتفادي الوصول للحظة استخدام فعلية. لقد عَرِف فلَزِم، ومن حينها لم تكتفِ أوروبا بإغراقه بملايين الدولارات سنويًا وحتى بدايات الثورة، بل ومنحته مساحة كافية لخلق فقاعة ضخمة، ستنفجر فيما بعد مقتله في وجه القارة العجوز بأكملها.

في الأيام الأولى لانتفاضة الشعب الليبي، المتحولة بعدها لما عرفه العالم بـ "الثورة الليبية"، قام القذافي باستدعاء وزراء الاتحاد الأوروبي لطرابلس على عجالة (2)، وهناك، وكما ذكرت "كيلي غرينهل" في مقالها بـ "نيويورك تايمز" في (أبريل /نيسان) لعام 2011، أصدر القذافي لأوروبا إنذارًا دقيقًا وواضحًا قائلًا: «توقفوا عن دعم المتظاهرين، أو سأوقف التعاون الليبي لضبط الحدود، وستواجه أوروبا طوفانًا من البشر القادمين من الشمال الأفريقي».

كانت احتمالات توقُّع تهديدات القذافي في الاجتماع العاجل مهمة يسيرة بشكل ما، فقد كانت علاقة طرابلس بالاتحاد الأوروبي، بخلاف استثمارات الغاز والنفط الليبيين (3)، تتمركز فيما مثَّل ولا يزال هاجس الاتحاد الأول منذ سنوات: الهجرة غير الشرعية والمهاجرين، فضلًا عن أن القذافي استخدم نفس التهديد الجدِّي على الأقل أربع مرات خلال عقد ما قبل الثورة فقط، لذا لم يكن تهديده حينها لوزراء القارة بإغراق بلدانهم بمئات الآلاف من المهاجرين الأفارقة مجرد تهديد عابر، بل كان إنذارا ينضم لسابقيه في جعل أوروبا لا تخاطر مطلقًا بإغضابه في أي وقت، وفي غضّها البصر طويلًا عن انتهاكات النظام الليبي قبل الثورة، مقابل دوره المحوري كحائط صدّ أمام طوفان المهاجرين المحتملين لأوروبا عبر بوابته الأفريقية (4).

لم تُمهل الثورة القذافي أو أوروبا كثيرًا، وبدأ العقيد على مدار الشهور الأولى من عام 2011 بفقد سيطرته على ليبيا تدريجيًا، وصولًا لإعدامه على أيدي بعض الفصائل الليبية المسلحة في (أكتوبر/تشرين الأول) من العام نفسه. وتفتت ليبيا بعد مقتله بين القبائل والجماعات المتنازعة، والتي لم تتوقف بعدها عن القتال فيما بينها، أو عن اشتراكهم جميعًا في لعبة اضطهاد الأجانب -الأفارقة تحديدًا- المقيمين على أراضيهم، وبينما دخل "تنظيم الدولة الإسلامية" المعروف بـ "داعش" للعبة في السنوات الثلاث الأخيرة تقريبًا، لم يعد أمام الأجانب في ليبيا إلا خيارين: إما العودة لبلدانهم، أو التوجه للبحر المتوسط في طريق لا يعرف سوى جشع تجار البشر، أو الموت غرقًا دون حساب، وفيما توقع بعضهم أن تلعب أوروبا دور المنقذ في هذه المعضلة الصعبة، كانت القارة أحد، إن لم يكن أهم، أسباب المعضلة (5).

الجحيم:

تقف امرأتان خلف نافذة حديدية تتخللها أسلاك معدنية متشابكة، الزمان التاسع من (مايو/أيار) لعام 2015، والمكان مركز سورمان للاحتجاز بالعاصمة الليبية طرابلس. يحكي أحد حراس المركز ويدعى "محمد" عن المرأتين، "آي جيرما" و"ماري"، قائلًا إنهما أتيا لليبيا من إثيوبيا، وكانا ضمن مجموعة من سبعة أشخاص، مواصلًا حديثه من خلف قناع طبي أخضر، يرتديه العاملون بـ "سورمان" لمنع احتمالية التقاط أية أمراض مُعدية قد يحملها المحتجَزون، مضيفًا: "كانتا تبحثان عن حياة أفضل بـ ليبيا، وبدلًا من ذلك وجدتا نفسيهما في السجن، وقادهما الأمر للجنون. لا تتذكر "آي جيرما" اسمها كاملًا ولا محل عيشها السابق، ولا تمتلك أية أوراق ثبوتية لذا لم يستطع أحد التواصل مع عائلتها، أما "ماري" فقد أخذت ترقص وتتصرف بجنون عندما وُضعت على متن طائرة ترحيلها لبلدها، ومن ثم أُعيدت للمركز. كانت بخير عندما أتت إلى هنا أول الأمر، لكنها أصبحت غريبة فيما بعد" (6).

لا يختلف كثيرًا الحال في مركز سورمان عن غيره في كافة أنحاء ليبيا، فقد كان الهدف الرئيس من إنشاء المراكز هو احتجاز المهاجرين غير القانونيين، الموجودين بأعداد هائلة في البلد العربي الشمال أفريقي، بشكل مؤقت حتى تتم إعادتهم إلى بلدانهم، لكن قيام الثورة حوّل ليبيا بأكملها لساحة حرب كبرى، لتتحول هذه المراكز بلا رقابة لمراكز للاضطهاد والتعذيب والاستغلال الجنسي والإتجار بالبشر، إلى جانب قائمة طويلة من اتهامات تكيلها المنظمات الحقوقية العالمية لشبكة المراكز (7)، وعلى رأسها المفوضية العليا للاجئين، وبالرغم من أن هذه المراكز تقبع في ليبيا، إلا أن الاتهامات كانت توجه أيضًا لأوروبا وعلى رأسها إيطاليا، صاحبة الفضل في تمويل القذافي بالأموال اللازمة لبناء الشبكة كجزء من خطة نُفذت للحد من تدفق المهاجرين للقارة، ما جعلهما شريكين في معاناة المحتجزين بها (8).

منذ تأسيسها، تخضع مراكز الاحتجاز، ليبية الموطن أوروبية التمويل، لسلطة وزارة الداخلية من خلال "جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية" (9)، والذي يتولى بشكل مباشر مسؤولية المراكز وكذا كل ما يخص المهاجرين، لكن قيام الثورة في ليبيا، وما تبعها من انهيار لكافة الأنظمة الحاكمة تحت وطأة الحرب الأهلية والنزاع بين حكومتين داخليتين، تسبب بالتبعية في فقد السيطرة على بعض مراكز الاحتجاز، إما بخضوعها لسلطة الجماعات المسلحة عليها، أو بتعاون مسؤولي المراكز بشكل مباشر مع شبكات التهريب لإمدادهم بالمهاجرين المتواجدين بها، وهو ما رصدته تقارير (10) الأمم المتحدة في زياراتها للمراكز، أو في لقاءات مع مهاجرين نجحوا في الوصول لإيطاليا أعوام ما بين 2011-2014.

يحكي فتى من غينيا يبلغ من العمر 17 عامًا أنه كان محتجزًا في مركز الفلاح التابع لمركز مكافحة الهجرة غير الشرعية بطرابلس، وأن المسؤولين عن المركز قاموا ببيعه لمجموعة من المهربين مقابل مبلغ مالي، وعندما أُعيد للفلاح لظروف غير واضحة، أعاد المسؤولون بيعه مرة أخرى لمجموعة مختلفة من المهربين، ولم يكن حظه كصديقه السنغالي معتقدًا أن مسؤولي المركز قد قتلوه، فقد كان ضعيف الجسد -كما يصفه الفتى الغيني- ولم يكن يستطيع العمل، وعندما طلب منه مسؤولي المركز الاتصال بأهله من أجل دفع فدية تكفل خروجه، وأخبرهم أن أهله لا يمتلكون المال الكافي، قاموا بضربه بشدة حتى فقد القدرة على التنفس، ثم أخذوه فيما بعد إلى مكان غير مجهول، ولم يره مرة أخرى.

تكررت القصة ذاتها باختلاف الأشخاص الذين التقتهم بعثة الأمم المتحدة، فيما أصبحت المعاملة السيئة والاستغلال بتعدد صورهما طابعًا مميزًا لمراكز الاحتجاز الليبية سواء الرسمية أو غير الرسمية، فيحكي مهاجر من الكاميرون أنه كان محتجزًا في مركز الزاوية، التابع لمركز مكافحة الهجرة غير الشرعية، وأن الأعداد في المركز كانت كثيرة دون وجود منافذ للتهوية، وأنه عندما كان الحراس يسمحون لهم بالخروج، فقد كانوا يبصقون عليهم ويضربونهم، أو يقومون بتوقيفهم في الشمس، ومن يتحرك يتعرض للعقاب. وعن مركز القطرون، يحكي فتى آخر من غينيا لم يتجاوز السابعة عشر من عمره أنه هرب بعدما أجبره المسؤولون على العمل في مزرعة.

يروى المهاجرون قصصًا عدة عن إجبارهم على العمل في مزارع أو في البيوت أو في جمع القمامة أو غيرها من الأعمال الشاقة و"المهينة" لكثير منهم دون أجر، وأحيانًا مقابل أجر يُدفع لمسؤولي المراكز التي يقيمون بها، وفي أفضل الأحوال مقابل حريتهم، فيروي فتى من السنغال (16 عامًا) أن مسؤولي مركز القربوللي في طرابلس قد تعاونوا مع جماعات التهريب من أجل ابتزازاهم للحصول على الأموال، وكذا لإجبارهم على العمل دون تقديم الغذاء أو الرعاية الصحية، بينما في مركز احتجاز تاجوراء التابع لإدارة مباحث الجوازات، أُجبر المهاجرين على العمل في جمع جثث المهاجرين الآخرين الذين لقوا حتفهم أثناء عبور المتوسط بينما ألقت الأمواج بهم إلى الشواطئ الليبية.

يحكي مهاجر من غامبيا قصة إجباره على العمل في مزرعة لثلاثة أسابيع، ويروي أن الحراس قد أطلقوا النار على أحد المهاجرين محاولًا الهرب نتيجة لظروف العمل القاسية، فيما وصف آخرون ألوانًا من التعذيب والعنف وسوء المعاملة والاحتجاز والعمل الإجباري في ظروف صعبة، كان الاستغلال الجنسي على رأس القائمة، وكانت النساء والفتيات هن الأكثر عرضة له بطبيعة الحال، خاصة الذين وقعوا تحت أيدي الجماعات المسلحة التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، فتروي "أمل" لمنظمة العفو الدولية (11) أنها كانت تتجه من إريتريا لأوروبا عبر ليبيا حينما وقعت في أسر تنظيم الدولة، وأجبرت هي والنساء اللاتي كن معها على اعتناق الإسلام، فيما اُتخذن إماءً لرجال التنظيم، حيث أعطيت كل امرأة لرجل فيه، وظلت لمدة أربعة أشهر مجبرة على ممارسة الجنس معه حتى استطاعت الهرب.

تروي النساء اللاتي يحاولن العبور لأوروبا عبر ليبيا كيف يتم إخبارهن بضرورة الحصول على وسيلة لمنع الحمل قبل السفر، تفاديًا لحصول حملٍ إذا ما اعتدى عليهن المهربون أو الرجال الليبيون أو أفراد الجماعات المسلحة، فتروي امرأة من الكاميرون (27 عامًا) أنها هربت من زواج بالإكراه في بلدها لليبيا حيث قضت عدة أشهر في "أماكن الإيواء المؤقتة"، وتحكي أن الرجال الليبيين كانوا يأتون في الليل ليختاروا عددًا من نساء يؤخذن إلى غرف أخرى يتعرضن فيها للاغتصاب، وتم اغتصابها حسب روايتها خمس مرات من أحد الرجال. وفي أحد مستودعات مدينة سبها، جنوبي ليبيا، يروي فتى (17 عامًا) أن الرجال الذين يرتدي بعضهم زيًا رسميًا وآخرون في ملابس مدنية كانوا يأتون في الليل ليأخذوا نساءً وفتياتٍ ثم تتم إعادتهن بعد ساعات أو في الصباح، ويعتقد الفتى أنه كان يتم اغتصابهن.

تذكر تقارير الأمم المتحدة وجود حوالي 24 مركزًا للاحتجاز في ليبيا، وإن كان بعضها غير فاعل، إلا أن العديد من المراكز العاملة، والتي تحوي في مجموعها ما بين 4000-7000 مهاجر، تقع بالفعل تحت سيطرة الجماعات المسلحة الليبية، وهي جماعات تولت مهمة إنفاذ القانون مع دخول الصراع في ليبيا مرحلة حرجة ما بعد 2014 كما تصف التقارير. وفي حين أنشأت هذه الجماعات لنفسها مراكز غير رسمية لاحتجاز المهاجرين الواقعين تحت يديها، فإنها تتنافس مع تجار البشر والمهربين والشبكات الإجرامية والعصابات وكذا بعض المسؤولين الحكوميين في السيطرة على طرق التهريب وعلى مجال الإتجار بالبشر في ليبيا، وظهرت آثار ذلك خلال العامين السابقين، عندما سجلت تقارير المنظمة الدولية للاجئين نشأة "أسواق الرق" في ليبيا (12)، حيث يُباع فيها المهاجرين لمن يدفع أكثر من الفئات السابق ذكرها.

اللاجئين في ليبيا

العودة إلى العبودية:

«كان المهاجرون من جنوب الصحراء يُباعون ويُشترون من قبل الرجال الليبيين، يُساعدهم الغانيون والنيجيريون الذين يعملون من أجلهم»، هكذا وصف أحد المهاجرين من السنغال "سوق العبيد" في مدينة "سبها" جنوبي ليبيا، واجدًا نفسه معروضًا للبيع فيه (13). بدأ الرجل رحلته من السنغال عبر النيجر، حيث دفع حوالي 320 دولار للمهربين من أجل اصطحابه إلى ليبيا، وهو ما تم بعد يوم من الانتظار في النيجر، ثم يومين في الطريق وصولًا لجنوبي ليبيا، حيث فوجئ ومرافقيه في الهجرة بالسائق يُخبرهم بعدم حصوله على مستحقاته كاملة من الوسيط، ونتيجة لذلك وجدوا أنفسهم في أحد أسواق تجارة البشر الليبية.

يقول المهاجر السنغالي، مشارًا إليه من قبل منظمة الهجرة الدولية بالأحرف (SC) لحمايته، أنه انتقل أول الأمر لأحد المنازل حيث وجد حوالي 100 من المهاجرين المحتجزين كرهائن لدى خاطفيهم، وهناك طُلب منه أن يدفع حوالي 480 دولار لأجل إطلاق سراحه، ولعدم استطاعته توفير المبلغ المطلوب فقد بيعه مرة أخرى لمنزل جديد، وكان عليه هذه المرة أن يقدم 970 دولار لشراء حريته، ومرة أخرى لم يكن باستطاعته أو باستطاعة عائلته توفير الأرقام الغريبة وغير المألوفة، مضيفًا أن بعض المهاجرين قتلوا لعدم تمكنهم من جمع أموال الفدية.

تجنبًا للتعرض لمزيد من الاعتداء، اضطر "إس" للعمل مترجمًا لدى خاطفيه، وبالتنسيق مع عائلته الذين وعدوا بتوفير بعض المال لهم، استطاع "إس" النجاة بنفسه بعد أشهر من احتجازه في ليبيا والعودة لمنزله في السنغال. ووثَّقت المنظمة الدولية شهادته خلال عملها في النيجر وليبيا، ومعه تعرضت لعشرات الحالات الأخرى.

تصف المنظمة الدولية للهجرة العصابات العاملة في ليبيا بأنها «عابرة للحدود»، فهي تضم أفارقة من دول جنوب الصحراء غالبًا إلى جانب الليبيين، وتعمل هذه العصابات على نقاط الالتقاء الحدودية ما بين ليبيا ودول الجوار، وكذا في نقاط التجمع الرئيسة وعلى رأسها مدينة "سبها" في الجنوب الليبي الغربي، ومدينة أجدابيا في شرقها، وهناك يحصلون على المهاجرين القادمين إما من خلال شرائهم من المهربين أو باختطافهم تحت تأثير السلاح، ويُطالَب المهاجرين حينها بدفع فدية تتراوح بين 200 لـ 8000 دولار أميركي مقابل حريتهم، أو مقابل سفر غير مضمون لأوروبا (14)، بينما يقضي غالبية المهاجرين فترات احتجازهم حتى دفع الفدية أو مقتل البعض منهم أو الإفراج عنهم لظروف الصراع المسلح الدائر في الدولة، ويقضي أغلبهم هذه الفترة في العمل الإجباري لدى خاطفيهم، فيما تقضي النساء غالبًا هذه الفترات كعاملات جنس أو إماء "خادمات وزوجات" إذا ما وقعوا تحت أيدي الجماعات التابعة لداعش.

بالرغم من توصيات المنظمات الحقوقية العالمية، والمطالبة اختصارًا بإلقاء الضوء على حجم معاناة المهاجرين المقيمين بليبيا أو العابرين خلالها لأوروبا، فإن شيئًا لم يتم حتى اللحظة لتخفيف هذه المعاناة سوى بعض محاولات تحسين ظروف الاحتجاز في المراكز الرسمية الخاضعة لمركز مكافحة الهجرة غير الشرعية أو مباحث الجوازات، وكذا بعض محاولات إنقاذ المهاجرين عبر الحدود، سواء المؤدية لليبيا من دول المصدر، أو تلك الذاهبة لأوروبا عبر المتوسط، أما غير هذا فتبقى أوضاع المهاجرين الليبية على حالها، ويزيدها الصراع الداخلي العاصف بالدولة سوءًا يومًا بعد يوم.

Top
X

Right Click

No Right Click