أرتريا في عيون ”أدى هَنّا“ المسيحية

بقلم الأستاذ: إسماعيل إبراهيم المختار - عضو لجنة الفقه في الهيئة الاسلامية في مانيتوبا

ولدت في مدينة أسمرة، ونشأت في ربوعها الجميلة، وأحيائها البهية. كانت أسمرة في تلك الأيام

مدينة زاخرة، متعددة في ثقافاتها، وأدبياتها، وأديانها. أصدقائي في الحَي، وزملائي في المدرسة، ورفقائي في فريق كرة القدم، وجيران الحَي كانوا من كل طيف، ولون، ووجهة. فكان منهم اليمنيون (الحضارم)، والإيطاليون، والمهجنون (الحنفس)، والأمهريون، واليونان، والهنود (المعروفون باسم البينان)؛ بالإضافة إلى المسلمين، والمسيحيين بطوائفهم المختلفة، واليهود، والهندوس، وشهود يهوا. حين أسير في شوارع الحَي كانت تعترضني معالم أسمرة بمسجدها الأثير - مسجد الخلفاء الراشدين، وكنيسة الأقباط العتيقة - إندا ماريم، وكاتدرائية الكاثوليك الفارهة، وكنيس اليهود الذي أغلق بعد هجرة اليهود إلى إسرائيل، ومدرسة بوتيغوا الإيطالية، ومدرسة الجالية العربية، والنادي اليوناني، والمكتبة الأمريكية وغيرها. حين أستيقظ في الصباح كانت أصوات أذان الجوامع، وأجراس الكنائس أول ما يطرق سمعي؛ ومشاهد أصحاب العمائم البيضاء من رواد صلاة الفجر، وأصحاب القبعات من رواد قداس الكنيسة أول ما تقع عليه عيني. منذ نعومة أظفاري نشأت في جو متعدد الثقافات، جو يعبق بنسيم التسامح، والتعايش السلمي، والإحترام المتبادل.

كان من بين سكان حَينا سيدة مسيحية، مُسِنّة، ومتدينة؛ تعد نموذجا للمسيحي المتدين، والمتسامح في آن واحد. كانت هذه السيدة تسكن في البيت المجاور لنا. حين أستيقظ في الصباح الباكر كنت أراها في وشاحها الأبيض، وهي تسير بخطا وئيدة، عائدة إلى منزلها بعد حضورها قداس الكنيسة الصباحي. كانت تخاطبني بصيغة الود وتقول لي ولدي "ودي"، وكنا نخاطبها بصيغة الإحترام ونقول أمنا "هنا" "أدى هنا". كانت أسرتي المسلمة أسرة علم ودين، تعتز بإسلامها وتلتزم بهديه، ومع هذا فإن إلتزامنا الديني المختلف لم يمنعنا من حسن التجاور، والعيش المشترك، والتقدير المتبادل. في أيام العيد، كان أول ما تحرص عليه أمي إرسال حلويات العيد إلى "أدى هنا" وأسرتها. وبالمقابل كانت ترسل "أدى هنا" لنا الحلويات في عيد الميلاد القبطي (ليدت). وفي المناسبات الإجتماعية كان هناك حرص متبادل على التقيد بالضوابط الغذائية للطرفين. في حين الأفراح والأتراح كانت "أدى هنا" أول من يطرق بابنا لعرض المساعدة، وتقديم العون. رأيت في هذه السيدة المسيحية نزاهة في التعامل، وتسامحا في التواصل، وأصالة في الخلق، وكنا بذلك في خير جوار، وأحسن تواصل.

ومن مظاهر الرقي الإجتماعي في أرتريا أن هذه العلاقة التي كانت بيننا لم تكن استثناءا، بل كانت قاعدة مطردة في كثير من أحياء أسمرة وخارجها في أرتريا. طلب مني ذات مرة زميلي في الحَي - ميكائيل المسيحي - أن أصحبه بالدراجة إلي قرية في ضواحي أسمرة - تعرف بعدي قواعداد - لزيارة كنيستها فصحبته، وانتظرته خارج الكنيسة، وفي طريق عودتنا حان وقت صلاة العصر فاتجهنا إلى مسجد عمر بن عبد العزيز - بحَي قزابندا - وبقي صاحبي خارج المسجد في انتظاري حتى عدنا سويا إلى حَينا. هذه هي أسمرة وإريتريا التي نشأت في ربوعها، وترعرت في جنباتها. بلد يعيش فيه المسيحيون، والمسلمون، والأقليات الأخرى، في سلام ووئام. ورغم الفوارق العقدية والثقافية، يعامل بعضهم البعض بالتقدير، والاحترام المتبادل. تعلمت في ربوع أرتريا الإعتزاز بإسلامي وعقيدتي، وتعلمت فيها أيضا إحترام الآخرين والتسامح معهم. الأريتريون - مسيحيهم ومسلمهم - حريصون على دينهم، وما زادهم هذا الحرص إلا تقديرا لجيرانهم، وتعزيزا لعيشهم المشترك. التنوع والتسامح في مجتمع إريتريا قيم أصيلة، وقواعد إنسانية متوارثة.

وعلى الرغم من أن نظم الحكم التي تعاقبت على أريتريا كانت في أغلب أحوالها تعتمد سياسة فرق تسد، وسياسة الإقصاء، والتمييز الطائفي؛ إلا أن رجل الشارع العامي - بجملته - ظل محافظا على قيم التسامح والعيش المشترك. ولقد كانت هناك أحايين - ولازالت - ظهر فيها إنفصام واضح بين شرائح من النخب الإريترية، وعامة الإريتريين الذين كانوا على بساطتهم أكثر فهما واستيعابا لقواعد الانسجام الاجتماعي الإريتري، وقيم العيش المشترك. ولقد أكدت لي دراساتي الشرعية - لاحقا - أن قيم التسامح والعيش المشترك المتعارف عليها في أرتريا، هي متناسقة مع المبادئ الشرعية المبنية على الآية الجامعة في قوله تعالى: "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ".

وعلى غرار الكثير من الإريتريين، اضطررت إلى مغادرة أرتريا، والعيش في أماكن أخرى تفتقر إلى التنوع وتعتبره مشكلة؛ أماكن يصعب للمختلفين التعايش فيما بينهم، أماكن فقدت فيها حريتي عن التعبيرالعفوي عن هويتي. وبعد ترحال طويل، استقر بي المقام أخيرا في بلد يرحب بالتعددية الثقافية - كندا، ويعتمده كمبدأ سياسي مقنن. إستقراري في هذا البلد أعاد لي حرية التعبير العفوي عن هويتي، التي تتوافق مع قيم التعدد التي كانت سائدة في مسقط رأسي. ورغم أن أريتريا لا تمتلك وثيقة رسمية للتعددية الثقافية - مثل كندا؛ إلا أن قيم التعدد الثقافي هو جزء من نسيجها الاجتماعي، وقيم تعايشها اليومي.

العديد من الإريتريين الذين نشأوا في الشتات، لم يعيشوا هذه التجربة الأرترية الفريدة، وبالتالي يحمل بعضهم تصورات أحادية ضيقة، تخالف شمولية القيم الأريترية، واتساع آفاقها. أثناء إقامتي في أوروبا، فوجئت فتاة أرترية مسيحية حين علمت بأنني لا أشرب الخمر، ولا أحضر مجالسها، فقالت لي على الفور "إنك بهذه الطريقة لن تستطيع العيش في إريتريا"! إن ردة فعل هذه الفتاة معبر عن إشكالية عدم معايشة الواقع الأرتري، المتسامح، والمتعدد الثقافات؛ لقد كانت جارتنا الكريمة "أدى هنا" تعلم تمام العلم أن أسرتي الممتدة، وأسلافي الذين لديهم جذور عميقة في إريتريا، لا يشربون الخمر، ولا يحضرون مجالسها، ولم يكن ذلك مفاجأة لها، ولم يخطر ببالها أننا متطرفون، أو غرباء على الواقع الأرتري. شخص آخر قضى معظم وقته في بلد عربي، ولم يعايش الواقع الأرتري، جلس ذات مرة يُسَفه مجموعة من شباب الجبرتة الناطقين باللغة التغرينية، ويقول لهم إن التغرينية لغة دخيلة على أريتريا، جاءت مع الغزاة من تيغرايي، وعليهم أن يتحدثوا باللغة العربية فقط. وهذا نموذج أخر على تصور قاصر نشأ من عدم معايشة الواقع الأرتري، والجهل بتاريخه ومكوناته.

وهنا أقول لكل دعاة الطائفية، والإقصائية الذين يرون إريتريا حكرا على المسلمين أو المسيحيين فقط؛ ولكل من يروج لتجربته القاصرة المستوحات من واقع الشتات المبتوت عن أصله؛ ولكل من يقرأ التاريخ بشكل انتقائي يتناسب مع مفاهيم طائفية مُسبقة؛ ولكل الذين يُحَملون طوائف بأكملها جريرة بعض عناصرها

المفسدة؛ ولكل من يسعى لتوسيع الفجوات وخلق الروح العدائية بترويج فِصَامية "هم" و"نحن"؛ ولكل أولئك الذين يربطون الإلتزام الديني بالتعصب ضد الأخر؛ ولكل من يعتبر التنوع والتعدد مشكلة، أقول لهم جميعا أن إريتريا التي تتحدثون عنها هي غير إريتريا العريقة بماضيها، وقيمها الأصيلة. هي بالتأكيد ليست إريتريا التي عاشت فيها "أدى هنا"، ولا أرتريا صديقي المسيحي "ميكائيل"، ولا أريتريا أسلافي وعشيرتي، ولا أريتريا عامة الإريتريين بمختلف مشاربهم.

إن شوارع أسمرة وأسواقها، وفقراءها المتسوولين فيها؛ والمزارعين في حقول "َِشعب"؛ والصيادين في شواطئ "دانكاليا"؛ والرعاة في سهول "زولا"؛ والشيوخ في أندية القرى؛ وربات البيوت في أكواخهن العتيقة في جبال "تسعازقا"؛ هؤلاء جميعا يحكون قصة تعايش وتآلف أصيلة، تغاير ما يروج له البعض في "اليوتيوب"، أو على صفحات "الفيس بوك"؛ أو ما يُنَظِر له البعض من النخب !!

في المؤتمر الخامس عشر للجمعية الإسلامية الأرترية في أمريكا، الذي انعقد في مدينة "لوس أنجلس" في شهر يوليو عام 2017، ألقى الباحث في التاريخ الأرتري الدكتور "جوزف فانوسا" كلمة قال فيها أن المجتمع الأرتري يمتلك قيم تعايش وتسامح تفتقر إليها كثير من المجتمعات، وحري بالأرتريين أن ينقلوا هذه القيم إلى غيرهم من المجتمعات والبيئات.

وهذه دعوة للعقلاء من أبناء المجتمع الأرتري - بكل أطيافه في الداخل والخارج - للمحافظة على هذه القيم، والأخذ بيد كل من يسعى لطمسها، وتقويضها، وتعكير الصف، وتأجيج الصراع!!

تنبيه: هذا مقال كتبته باللغة الإنجليزية ونشر في موقع عواتى http://awate.com/the-eritrea-of-adey-hana وهذه ترجمة لذلك المقال مع شئ من التعديل والإضافة؛ وهي مساهمة متواضعة هدفها إحياء فقه التعايش والتسامح.

Top
X

Right Click

No Right Click