تأملات بشأن إريتريا ونشوء دولة جديدة في القرن الأفريقي - الحلقة الرابعة

بقلم بروفيسور: إيرما تادِّيا المصدر: الأفريقية

إن اللُّب الأساسْ الذي تُعنى به دراستي هذه، هو اريتريا، وأود أن أقسم مهمتي إلى قسمين، أناقش في الأول نشوء القوميِّة والصِراع

السياسي في اريتريا، وأحاول أن أُحدد فيه الديناميات الأساسية لتشكُّل الدول تِبعًا لمنظورات بحثيِّة مُختلفة. في حين أعرض في الثاني كيف تُعاد مُناقشة الدولة الإريترية الجديدة اليوم؟، وكيف تُتنقد من الداخل، إذا جازت التسميِّة، أى من قبل أؤلئك الإريتريين الباحثين والمثقفين وعلماء السياسة الذين دعموا قيام الدولة الجديدة منذ أكثر من عشرين عامًا، وشجعوا على ذلك. وباعتقادي أن هذين الأمرين مرتبطان في التحليل السياسي: أي مناقشة الطبيعة الأيدولوجية للدولة الإريترية، وفي الوقت نفسه التطورات الأخيرة بما فيها أزمة الوضع السياسي الجديد، هذا من جهة، والنقد الحالي الواسع، من جهة ثانية. وسوف أعرض مقدِّمة للجدال القائم، لكن من الصعب اتخاذ موقفٍ دقيق، فضلًا عن عدم قدرتي على القيام بمثل هذا الأمر، فهذه محاولة لنقاش ما تم القيام به، باختيار بضعة مثقفين وباحثين ممن لهم صلة بالموضوع.

لا بُدّ، أولاً، من ملاحظة ضرورية: طالما كان التاريخ الإريتري هو ذلك التاريخ المُفرط في التسييس، تعمّدت ألاّ اتطرق إلى كثيرٍ من الكُتّاب وعلماء السياسة والباحثين وعلماء الاجتماع، حيثُ لم استشهد إلاّ ببضعة منهم، ممن يستحقون الاهتمام. كما لم أُناقش أيضًا تلك القضيِّة الحاسمة في السياسة الإريترية، قضية الوحدة والانفصال، فليس هذا ميدان بحثي على الرغم من الأهمية التاريخية البالغة لهذا الأمر.

والتأمل التاريخي لجدلية الوحدة والانفصال (مع / من أثيوبيا) يستحق نقاشًا مناسبًا، بدءًا من العمل التاريخي الذي اضطلع به (د. تكستي نقاش) منذ ثمانينات القرن الماضي فصاعدًا، إلى عمل (سوماس سيشاغني).

ما تُعنى بِهِ دراستي هو ذلك الجزء الشعب الإريتري الذي ساند الانفصال عن أثيوبيا بُغية تحقيق الاستقلال الكامل. وهنا ثمة أمر لا بُدّ من ايضاحه منذ البداية، وهو إنني حين أتناول القوميِّة والاستقلال لا أُشير إلاّ إلى جزء من المجتمع الاريتري، فهناك جزءًا آخر من الإرتريين يؤمنون بأيدولوجيات تدعو إلى الوحدة مع أثيوبيا والتماهي معها بصورة تامة، وهذه نقطة مهمة، ويمكنني أن أشير إلى الوثائق المُقدَّمة في عدد من كتابات وبحوث (تكستي نقاش) وهو واحد من المؤرخين القلائل الذين تناولوا مراحل مُختلفة في هذا الصدد، مثل الاستعمار الإيطالي، والمرحلة البريطانية علاوة على المرحلة الممتدة من ستينات إلى ثمانيات القرن العشرين. ولن أنظر إلى تلك الظاهرة كي أقْصُرَ خِطابيّ على أيدولوجيا القوميِّة.

أولًا: الطبيعة الأيدولوجية للدولة الإريترية:

من بين أعمال كثيرة تتعلق بإريتريا دعوني أبدأ بالإشارة إلى مذكرات (رُفاييل روا) التي جرت مناقشتها مؤخرًا في باريس والموسومة بـ " إريتريا، ولادة أمّة، إخفاق دولة". يقول روا: " على الرغم من الوضع المأساوي الذي تغرق فيه البلاد حاليًّا، تبقى إريتريا مُختبرًا استثنائيًا تُنْهل منه الأبحاث المُعاصرة التي تتناول العلوم الإنسانية". ففي مجال تاريخ الأمم، تُمثِّل إريتريا أعجوبةً حقيقة، بدءًا بتحليل الحوادث التي أدت إلى استقلالها، مرورًا بفهم عملية بناء الهُوِّية الوطنية ومراقبة المصير الذي تصوغه منذ العام 1991. إنها تمثّل في النواحي كلها كمًّا من الخصوصيات التي تفضي إلى أنه لا يزال هناك الكثير لانجازه قبل اكتساب معرفة شاملة بشأن مسارها التاريخي. وإذا كُنّا مُهتمين بالفعلِ وبصورةٍ خاصة، بماهِيَّة الأُمّة الإريترية، وبما تُمثله لصُنّاعها المسؤولين عن ولادتها والشعوب التي تماهت معها، لا بُدّ أن نتطرق إلى تاريخ إريتريا الشابّة، كونها كيانًا موجودًا على الخريطة السياسية لشرق أفريقيا.

أما السؤال عن فشل الأمة الإريترية أو نجاحها، فلا يؤدي أبدًا إلى بلورة أي حكم خارجي يتسم بالذاتيةِ حُكمًا، وإنما يُفضي إلى تحليل مُستقبلها وِفقًا للعوامل والاتجاهات والسياقات التي تضافرت وأّدّت لى نشوئها.
بالنسبة إلى هذه العناصر والبُنى الأيدولوجية التي يتبنّاها الفاعلون الأساسيون في عملية بناء الأمّة الإريترية، ناشطين كانوا، أم لا إراديين، نطرح السؤال التالي بشأن الأمة الإريترية: من الناحية المفاهيمية: هل إريتريا ظاهرة تاريخية تمتّعت بصدقيِّة أكبر خلال القرن الذي شهد ولادتها وسبق استقلالها؟. إنه سؤال فعلي: " إرتيريا ولادة أمة، إخفاق دولة؟). ضمن هذا السيناريو تقف إريتريا بوصفها مُفارقة واضحة من ناحيتين، أو بوصفها مفارقة مضاعفة من ناحية أخرى.

المفارقة الأولى: قضية الحدود وتصفية الاستعمار المُخفِقة:

كانت إريتريا دولة مستعمرة لم تحقق استقلالها في مرحلة تصفية الاستعمار، وهي حالة فريدة في أفريقيا (إذا ما صرفنا النظر عن الصحراء الغربية)، لذلك تذكرنا اريتريا بالأصل الغريب الذي تتسم به الدولة في أفريقيا، إنما بمعنى سلبي باعتبارها مستعمرة لك تندرج في عملية التصفية. وهذه مفارقة بالفعل، نظرًا إلى حقيقة أنه يُمكن النظر إلى الحدود الإريترية ياعتبارها حدودًا فعلية في خضم التزاحم على أفريقيا. وعلاوة على ذلك أُعِيدَ تثبيت هذه المستعمرة الإيطالية على الرغم من معركة (عدوة) وهزيمة الإيطاليين فيها. وفي عام 1963، قامت منظمة الوحدة الأفريقية بإقرارا الحدود الاستعمارية للدول الجديدة بإستثناء إريتريا. وتشير عبارة (المفارقة الأفريقية) إلى أن الأمم الوحيدة التي مُنحت الشرعية هي الأمم التي خلقتها أوروبا.

يمكن أن عزو عدم تصفية الإستعمار في إريتريا بعد الحرب العالمية الثانية غلى جملة أسباب مترابطة، منها: السياسية الدولية، الهيمنة الإقليمية الأثيوبية، ضعف الدبلوماسية الإيطالية نظرًا إلى انهيار الفاشية وخسارة الحرب، وأخيرًا وكما ذكرت في مقالة سابقة، ظهور توازن سيتسي جديد في القرن الأفريقي، ففي خمسينات القرن العشرين فشلت إريتريا في أن تصير دولة مستقلةك وبهذا المعنى يمكن النظر إليها بوصفها مثالًا على " تصفية الاستعمار غير المكتملة" ويمكن تفسير هذه الظاهر بالتاريخ السياسي الإيطالي، أكثر من العوامل السياسية الداخلية الإريترية. واعتقادي أنه يجب أن نؤكد البعد السياسي لهذا الفشل في تصفية الاستعمار: فهذه العملية لا ترتبط، بأى حالٍ من الأحوال، بضعف القوميِّة الإريترية كونها لم تبرز إلا في مرحلة لاحقةن فالإخفاق الإريتري نتاج السياسية الإيطالية وال‘خفاق الإيطالي في تعزيز تصفية مستدامة للاستعمار، نظرًا إلى دور إيطاليا غير المستقر في السياسية الدولية في أريعنات القرن العشرين وخمسيناته. وهذا يبدو لي أنه السمّة الممّيزة للكفاح الإريتري من أجل الاستقلال منذ البداية، إذا ما أردنا أن نركز على المسار السياسي المُفضي إلى إخفاق عملية تصفية الاستعمار.

المفارقة الثانية: جذور شرعية الدولة والهوية الاستعمارية:

يبدو تحليل هذا الامر معقّدًا جدًا ويشكل تحدِّيًا فعليًّا، ففي خضم أزمة الدول الأفريقية العميقة، فولادة دولة جديدة في العام (1993)، أعاد إبراز الحدود الاستعمارية! فيا لها من ظاهرة تاريخية تستحق الاهتمام. فهل كان تحرب التحرير الإريترية تهدف إلى إعادة ترسيخ الحدود الاستعماريةظ هذه هي النقطة المفصلية للجزء الأول من دراستي. وهذه القضية الخلافية المتعلقة ببقاء الحدود والهوية القومية/ الاستعمارية، هي محل جدال مفتوح بين الباحثين.
تربتبط إريتريا الراهنة بالماضي الاستعماري بحم الأمر الواقع، إذ كانت مستعمرة في القرنين التاسع والعشرين، وكانت نشأت كغيرها من المستعمرات الأفريقية في خضم التزاحم على أفريقيا. وحققت اريتريا في هذا السياق هوية مميزة واقتصادًا جديدًا وبنية إدارية – سياسية جديدة، وحدودًا إقليمية جديدة. وكما هو الحال، بالنسبة إلى كثير من المستعمرات الأفريقية الأخرى، يمكننا أن نتحدث هنا عن هوية مفروضة.

يقول سورِنسُنْ: "يشير القوميون الإريتريون إلى تغيّرات اقتصادية واجتماعية مهمة في ظل الاستعمار الإيطالي، الأمر الذي يدعم الحجج اتلتي تفيد بأن التجرية الإريترية تعكس تجارب المستعمرات الأفريقية الأخرى". ويمكن أن نحلل هذا الأمر في إطار الاستعمار بوصفة "صانعًا للدولة" كما يقول ( كالتشي نوفات).

أما (ماركاكيس) فيؤكد أن "القومية لم تكن يومًا ما ثمرة لمناهضة الإستعمار، بل برزت بعد انهيار الاستعمار الإيطالي 1941، وهي ليست مجرد ظاهرة أيدولوجية، بل على العكس بل كانت - أي القومية الإرترية - في المقام الأول كفاحًا من أجل سلطة الدولة".

وباعتقادي أن علينا أن نمضي أبعد ونضيف أمرين وثيقي الصلة بتحليل ماركاكيس:

الأول: كانت القومية في أربعينات القرن العشرين وخمسيناته، وكما أكد (تكستي نقاش) بوضوح، مسألة نشاط سرِّي ايطالي بالأساس، يدعمها الإيطاليون بغية استعادة الاقتصاد الاستعماري ومصالح المستوطنين، وهذا أمر واضح وأداتّي غلى حدٍّ بعيد في ظهور القومية الإريترية. وهنا لا أركز على هذا، فقط علىّ توضيح ما أسميه بالقومية الأداتية أو الدور الفاعل الذي أضطلعت به إيطاليا في تمويل إستراتيجيات مستقلة، أفعل ذلك بالإحالة إلى (تيكستي نقاش)، وبطبيعة الحال، ودونما شك أنه جرة في إريتريا إعلان أيدولوجيات مستقلة في اربعينات القرن المنصرم وخمسيناته، نجم عنها - بُعيد سقوط الاستعمار الإيطالي - أن أنشئت أحزاب سياسية جديدة وكثيرة جدًا عبرّت عن مطامح نضجت خلال سنوات الاستعمار.

-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

* بروف إيرما تادِّيا - أستاذة في قسم التاريخ والثقافة بجامعة بولونيا الإيطالية

* المقال منقول عن كتاب (العرب والقرن الأفريقي - لمجموعة من المؤلفين) وناشره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات بالدوحة - الطبعة الأولى أكتوبر (2013) - بيروت.

Top
X

Right Click

No Right Click