إريتريا إشكاليات بناء الدولة والتفاعل مع بيئة إقليمية مضطربة 2-2
بقلم الدكتور: أيمن السيد عبد الوهاب المصدر: المركز العربي للبحوث والدراسات
بحكم الموقع الجغرافي والإستراتيجي لإريتريا فقد شكلت نقطة التقاء ومساحة عبور لموجات متتالية من الهجرات البشرية، سامية -
حامية - زنجية، ومن ثم فإن سكان إريتريا هم مزيج من هذه التزاوجات التاريخية، لذلك تتسم إريتريا بالتنوع والتعدد الإثني والعرقي واللغوي.
كما فرضت مرحلة بناء الدولة أجندة من القضايا المتشابكة والمعقدة التي تفرضها متطلبات المحافظة على الاستقلال وتحقيق التنمية، وهو ما انعكس بوضوح في شبكة التفاعلات الدولية التي أحاطت بمسارات وتحالفات الدولة الناشئة، ومكانتها الإقليمية ومواقفها تجاه العديد من القضايا الدولية.
”إريتريا دولة غنية بالموارد الطبيعية، ولكنها لم تنجح حتى الآن في استغلال مواردها بالقدر الذي يحقق تنمية مستدامة وبشرية مرتفعة“
رابعا - القطــاعـــات الإنتــــاجيـة في إريتريا:
يعتبر القطاع الخدمي من أهم القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد الإريتري، حيث يمثل 54% من الناتج المحلي الإجمالي، ويليه القطاع الصناعي الذي يمثل 29% من الناتج المحلي الإجمالي، وأخيرًا القطاع الزراعي والذي يمثل 17% من الناتج المحلي الإجمالي، وفيما يلي عرض لأهم ملامح القطاعات الإنتاجية الإريترية(1):
1. قطـاع الخدمــــات:
تشهد الخدمات في إريتريا نموًا متدرجًا وملحـوظًا وذلك منذ توقف النـزاع مع إثيوبيا، ويعد قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات من أهم المكونات الخدمية في إريتريا، حيث كانت البداية الحقيقية في مارس 1998 عندما أصدرت وزارة النقل والاتصالات الإريترية البروتوكول المحدد لقواعد الاتصالات الخاصة بالاتصالات الهاتفية والإرسال الإذاعي والبريد، كما تم إنشاء محطة لربط غرب إريتريا بباقي أنحاء الدولة، ومع ذلك فإن خدمات الاتصالات لا تزال في حاجة للكثير من الاستثمارات والدعم.
وتعتبر خطوط النقل والمواصلات في إريتريا ضعيفة وهى لا تزال رهن عملية التطوير والانتشار، فقد تم إنشاء أول خط سكك حديدية في عام 2002، ويبلغ طوله 306 كم، وبالنسبة للنقل البحري، فيوجد ميناء أسيب وميناء ماسوا، كما يوجد بإريتريا أربعة مطارات رئيسية.
أما بالنسبة للقطاع المصرفي والمؤسسات المالية في إريتريا فلا يزال هناك حاجة لرفع كفاءة تلك المؤسسات وتطويرها، ويعتبر بنك إريتريا التجاري بنك الائتمان الرئيسي للقروض قصيرة الأجل ويستهدف توفير السيولة اللازمة للقروض، ورغم الجهود الحكومية التي تبذل في هذا الإطار فلا تزال المنشات الصغيرة تعانى من صعوبة الحصول على القروض، هذا بالإضافة إلى بعض المشكلات المالية والتسويقية على الرغم من مساهمتها الكبيرة في الاقتصاد الوطني. ويختص البنك العقاري الإريتري بالمشاريع العقارية، ومشاريع تطوير البنية الأساسية، بينما تقتصر خدمات بنك إريتريا للتطوير والاستثمار على قطاعات معينة مثل: الزراعة والصناعة.
2. قطــاع الصنـاعــة:
تقوم القاعدة الصناعية في إريتريا على صناعات السلع الاستهلاكية الصغيرة والمتوسطة مثل: السـلع الغذائية والمشـروبات، والجلود، والمنسـوجات، والملح، والملاحظ أن الصناعة في إريتريا تفتقر إلى التكنولوجيا، وذلك بسبب نقص الاستثمارات نتيجة للحروب الطويلة التي تورطت فيها، وبالنسبة للسلع الغذائية الاستهلاكية فقد كانت إريتريا حتى عام 1998 تفي بنصف احتياجاتها فقط من الغذاء، ولكن خلال الفترة من عام 1999–2002 حققت الاكتفاء في أكثر من 90% من احتياجاتها من السلع الغذائية الاستهلاكية.
وتنتج إريتريا بعض الصناعات المعدنية المتنوعة، والصخرية، وبعض الصناعات النصف مصنعة، مثل: البازلت، والإسمنت، والفحم، والذهب، والجرانيت، وحجر الجير، والرمل، والملح، كما أنشئت بعض الصناعات الأخرى مثل الكروم، والنحاس، والحديد، والماغنسيوم، والألومنيوم، والزنك، والنيكل، والفضة.
كذلك أعدت الحكومة الإريترية برنامجًا خاصًا بتنمية القطاع الصناعي يهدف إلى وضع إستراتيجية لتنمية وتشجيع الصناعات الصغيرة والمتوسطة، والعمل على النهوض بالاستثمارات والصادرات، ويهدف هذا البرنامج إلى:-
1. زيادة قدرة القطاع العام والخاص لاستيعاب السياسات الصناعية الخاصة بقطاع الصناعات الصغيرة والمتوسطة.
2. تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة والمتناهية الصغر، والعمل على النهوض بمهارات المرأة، والصناعات الريفية، وإدخال مهارات فنية جديدة لأصحاب هذه المشروعات، والعمل على الوصول للمناطق النائية بهدف تدعيم القطاع الخاص.
3. تشجيع وتنمية الاستثمارات والفرص التصديرية، من خلال إصلاح البنية الأساسية للدولة، وتحفيز المستثمرين الأجانب والمحليين على إقامة مشروعات تهدف إلى التصدير.
4. النهوض بثلاثة قطاعات فرعية وهي تحديدًا.
- قطاع الجلود وجميع الصناعات التابعة له.
- قطاع الصناعات الغذائية.
- قطاع الزراعة من خلال تنمية المهارات الزراعية، وإنتاج الماكينات المتطورة.
3. قطــاع الزراعــــة:
تحتل الزراعة المرتبة الثالثة من حيث الإسهام في الناتج المحلي الإجمالي، على الرغم من أن الاقتصاد الإريتري في الثمانينيات وبداية التسعينيات كان يعتمد في الأساس على الزراعة، فإنه مع انتهاء الحرب اتجهت الدولة إلى الصناعة وتوفير الخدمات، وعلى الرغم من ذلك فإن 80% من الأيدي العاملة تعمل في القطاع الزراعي، و20% موزعين بين الخدمات والصناعة، ويعتبر العدس، والخضراوات، والذرة، والقطن، والتبغ، والبن، والدواجن، والماشية، والأسماك، والسمسم والزبد من أهم صادرات إريتريا في هذا القطاع.
وتشكل الزراعة 54% من حجم تجارة إريتريا الخارجية، بينما يعد القمح، والشعير، والألبان، ودقيق القمح، والسكر، والطماطم، والزيوت والحمص من أهم واردات إريتريا من السلع الزراعية.
وتجدر الإشارة هنا، أن مساحة الأراضي الزراعية لا تزيد على مليون ونصف مليون فدان، يقع معظمها في الهضبة الإريترية الوسطى وفي منخفضات القاش - سيت - وبركة. وأن نسبة الأراضي الزراعية تمثل نحو 2.6% من جملة المساحة الإريترية، أما الأرض القابلة للزراعة فنسبة مساحتها 10% من إجمالي مساحة الدولة، فالأراضي الصحراوية وشبة الصحراوية لا تزال تمثل الجزء الأكبر من أراضي إريتريا.
4. قطاع التعدين:
يعتبر التعدين والنفط من أهم عناصر الاقتصاد في إريتريا، حيث يتوافر بها المعادن والنفط بقدر كبير، مثل: الذهب، البوتاس، الزنك، النحاس، الملح، الزيت، الغاز الطبيعي، ولكن يبقى استغلالهم محدود للغاية، ومن هذا المنطلق تعمل الحكومة على تطوير صناعة النفط لديها.
ويعد مضيق باب المندب من المنافذ المهمة لإريتريا حيث يقع بين إريتريا، وجيبوتي واليمن والذي يربط البحر الأحمر بخليج عدن وبحر العرب، ومن المعروف أن إريتريا تتأثر بقوة بأي اضطرابات في هذه المنطقة، وهو ما وضح بعد حرب 1967 وغلق قناة السويس، حيث اضطرت كل من إثيوبيا وإريتريا إلى غلق معمل أساب لتكرير البترول مما اضطرهم إلى استيراد البترول المكرر لتلبية احتياجاتهم المحلية من البترول.
وتجدر الإشارة، إلى أن تلبية احتياجات إريتريا في هذا المجال قد تأثرت بقوة بسبب التوترات الإقليمية، الأمر الذي يؤثر بالسلب على تلبية الاحتياجات التنموية، ففي أغسطس 2000 تقدمت الشركة الوطنية للبترول بالسودان بمد خطوط الأنابيب لمد كل من إثيوبيا وإريتريا بالمنتجات البترولية المكررة من الخرطوم، ولكن أدى التوتر في العلاقات الثنائية بين البلدين في 2003 إلى توقف السودان عن إمداد إريتريا بالبترول، وذلك بسبب اتهام السودان لإريتريا بمساندتها للثوار في شرق السودان.
”يؤكد الرئيس الإريتري أن كلا من مصر والسعودية مهيأة الآن للدفع باتجاه تعاون إقليمي مشترك لتشكيل آلية فاعلة لأمن البحر الأحمر“
خامسا - الدولة الإريترية ومحيطها الإقليمي والدولي:
بدت المشكلات والقضايا التي واجهت الدولة الناشئة مرتبطة إلى حد كبير ببيئة إقليمية يغلب عليها الطابع الصراعي والتنافسي، الأمر الذي ساهم في دخول إريتريا سريعًا في العديد من الصراعات مع جيرانها لتثبيت أركان دولتها من جانب، أو بحثًا عن دور إقليمي من جانب ثان أو الحرص على دور فاعل في التوازنات الإقليمية من جانب ثالث.
فهذه المنطقة التي شهدت العديد من أشكال الصراع بين دولها أو حتى داخل الدولة الواحدة، تركت بصماتها بشده على أجواء استقلال إريتريا، فمشكلات مثل: ضعف التكامل الوطني، وانتشار حركات التمرد والمعارضة المسلحة، والحروب الأهلية، ودعوات الانفصال، وتدخل القوى الكبرى والتنافس على ثروات وموارد منطقة القرن الأفريقي والبحيرات العظمى(2)، قضايا شكلت في مجموعها محددات لسياسة إريتريا الخارجية ولمسار تطور نظامها السياسي ومن ثم طبيعة الدولة وتحالفاتها.
وهنا يمكن الإشارة، لانحياز الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والعديد من القوى الأوربية لدور إثيوبي في منطقة القرن الأفريقي، وتأثير ذلك على تهميش إريتريا التي بدت في لحظة الاستقلال أنها مؤهلة وراغبة في لعب دور إقليمي كبير على حساب قوى إقليمية في مقدمتها إثيوبيا. ولكن من الواضح أن ثقل الدولة وحيوية النظام الإثيوبي وقدرته على إيجاد العديد من المساحات والمصالح مع القوى الدولية قد أسهم في محاصرة الدور الإريتري، فقد أصدر مجلس الأمن الدولي قراره رقم 1907 لعام 2009 بفرض عقوبات على إريتريا، بعد اتهام النظام الإريتري بتصدير أسلحة لجماعات المعارضة المسلحة في الصومال، كما شدد القرار على وجوب التزام إريتريا بالقرارات الدولية الصادرة خلال الفترة "1992ـ2008" بشأن حظر توريد السلاح إلى الصومال، ووقف جميع المساعي الرامية لزعزعة استقرار الحكومة الصومالية أو الإطاحة بها بشكل مباشر أو غير مباشر.
كما أصدر مجلس الأمن قرارًا في نهاية عام 2011، يعزز العقوبات التي اُتخذت سابقًا ضد إريتريا التي يتهمها جيرانها بدعم الأنشطة الإرهابية في منطقة القرن الأفريقي. ويسمح القرار للمجلس بزيادة عدد الأفراد والكيانات الإريترية التي يمكن أن يشملها حظر السفر في العالم وتجميد الأرصدة(3).
القرارات السابقة تشير إلى صعوبة قيام الدولة الوليدة في إريتريا في لعب دور إقليمي نشط في ظل تلك البيئة الصراعية في منطقة القرن الأفريقي من جانب، ووجود نزاعات بينها وبين دول الجوار الإقليمي لها من جانب ثان، ووقوعها في سياق حالة من التربص الدولي بها من جانب القوى الدولية المتحكمة في النظام الدولي وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وإذا ما أخذنا في الاعتبار الانحياز الغربي ودوره الداعم للموقف الإثيوبي لتضح حجم الضغوط التي يواجهها النظام الإريتري، وهو ما عبر عنه الرئيس الإريتري بمقارنته ما بين مرحلة النضال المسلح التي كانت أكثر اتساعًا في مجالها، وبين المرحلة التالية للاستقلال والتي تشهد محاولات لعزل إريتريا عن محيطها الإقليمي (القرن الأفريقي). وهنا يمكن الإشارة، إلى العلاقة الارتباطية الواضحة بين ارتباط الخطاب الرسمي بنمط القيادة السياسية المحسوب على الفترة الثورية والنضالية، وإدراكها وتشخيصها إلى جملة القيود والفرص التي يمكن أن تواجه دولتها داخل السياقات المتعددة الداخلية والإقليمية والدولية.
وتتضح تلك العلاقة بمتابعة محاور التحرك الخارجية ومحاولات كسر العزلة التي تشعر بها إريتريا، عبر طرحها لصيغ وأطر تعاونية مع دول منطقتي الشرق الأوسط والقرن الإفريقي، لا سيما من خلال المنظمات القارية والدولية مثل: الاتحاد الأفريقي، ومجموعة الـ 77، وحركة عدم الانحياز، والأمم المتحدة، ومجموعة دول إفريقيا والكاريبي والمحيط الهادي، كما حرصت على عضوية المنظمات الإقليمية في القارة الإفريقية مثل الإيجاد IGAD، وتجمع دول الساحل والصحراء، ومبادرة حوض النيل (كمراقب).
وكذلك بناء جسر للتواصل مع العالم العربي، والتعاون مع القارة الأوربية في مجالات التنمية الاقتصادية والبنية التحتية والخدمات الاجتماعية، وربط تلك التحركات بتصورات واضحة لعلاقاتها مع مجموعة من الدول (السودان وإثيوبيا وجيبوتي والصومال وكينيا وأوغندا واليمن والمملكة العربية السعودية ومصر(4)، كسبيل لدعم السلام والاستقرار بمنطقة القرن الأفريقي.
1. سياسة خارجية في بيئة غير مستقرة:
فرض توقيت استقلال إريتريا مع بداية تحولات كبرى على مستوى التفاعلات الدولية وانعكاساتها على التفاعلات الإقليمية، الكثير من القيود والفرص التي ارتبطت بمرحلة تثبيت أركان الدولة والتي انعكست بدورها على أنماط علاقات إريتريا بمحيطها الإقليمي، فمنذ أواخر عام 1994 بدأ توجه إريتريا نحو دول الجوار المباشر يتسم بالتوتر واستخدام القوة لحل المشكلات الأمنية والحدودية، ففي نوفمبر 1994 اتهمت إريتريا السودان بتدريب إرهابيين للعمل ضدها ومحاولة قلب نظام الحكم في أسمرا، ولذلك قامت بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع السودان في نفس العام. في المقابل اتهمت حكومة السودان حكومة إريتريا بتقديم الدعم لمتمردي الجنوب وللمعارضة السودانية، خاصةً بعد أن اتخذ التجمع الوطني الديمقراطي السوداني أسمرا مقرًا له، وقد استمرت حالة التوتر بين الدولتين بالقدر الذي انعكس على مجمل العلاقات الثنائية لفترة ليست بالقصيرة، وتجدر الإشارة هنا تأييد إريتريا اتفاقية سلام جنوب السودان في عام 2005.
هذا التوتر بدوره، بدا في تلك الفترة سمه تحيط بالدور والسلوك الإريتري مع محيطها الإقليمي، وهو ما يتضح في تفجر النزاع الحدودي مع إثيوبيا ثم اليمن والخلافات مع جيبوتي، كما يتضح في تغير توجهات وسياسات إريتريا الخارجية سواء باتجاه القوى الدولية المتنافسة في منطقة القرن الأفريقي والبحيرات العظمى أو في مواقفها تجاه العديد من الصراعات والخلافات الإقليمية وفي مقدمتها قضايا: الصومال والسودان والتدخلات الإثيوبية.
وهنا يمكن التأكيد على عدد من العوامل المؤثرة في السلوك الإريتري، نذكرها في التالي:-
1. لعب الموقع الجغرافي الإستراتيجي لإريتريا دورًا مهمًا في توتر علاقاتها محيطها الإقليمي.
2. تقلب وتغير موازين القوى بين دول حوض النيل، أسهم في محاصرة الدور الإريتري إقليميًا، لا سيما مع توافق وانحياز العديد من القوى الدولية والإقليمية لسياسات وطموح إثيوبيا إقليميا.
3. تحولات النظام الإريتري تشير إلى تأثير العوامل الخارجية على المراحل الأولى لنشأة الدولة، وارتباط تلك العوامل بالضغوط الداخلية وتحديات عملية التنمية وبناء الدولة.
العوامل السابقة، توضح إلى حد كبير منهاح السياسية الخارجية الإريترية، وطبيعة تفاعلاتها وتحالفاتها السياسية، وبالتحديد علاقتها مع الولايات المتحدة التي انتقلت من المرحلة الإيجابية خلال فترة التعاون الوثيق مع الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، والدخول إلى مرحلة الفتور التي يمكن تلمسها مع تراجع الدعم الاقتصادي والاستثماري الغربي الموجه لإريتريا، بل إن التقارير الرسمية الإريترية تشير إلى مسئولية الولايات المتحدة الأمريكية على وجود بيئة دبلوماسية عدائية ومساعي دولية معادية للمصالح الإريترية في المنطقة، الأمر الذي دعا وزارة الشئون الخارجية الإريترية، إلى إصدار بيان تدعو فيه حكومات دول العالم إلى ضمان احترام القانون الدولي وإلزام إثيوبيا بالانسحاب من الأقاليم الإريترية المحتلة، وضرورة احترام سيادة ووحدة الإقليم الإريتري، والوقوف ضد العقوبات المفروضة على إريتريا بشكل تعسفي بضغط أمريكي، مع الضغط على الدول الكبرى حتى لا يكون مجلس الأمن الدولي أداة في يد الولايات المتحدة الأمريكية، وتستند تلك الرؤية الإريترية إلى عدد من الشواهد، نذكر منها:-
• ميل مجلس حقوق الإنسان بجنيف إلى اتهام إريتريا بانتهاك حقوق الإنسان، والدفع نحو إيجاد بيئة دولية مؤيدة للقرارات والعقوبات الأممية ضد إريتريا، لا سيما مع اقتراب مراجعة هذه العقوبات من جانب الأمم المتحدة.
• إقدام لجنة المراقبة الإريترية الصومالية المشتركة على إصدار تقريرها للجنة العقوبات بالأمم المتحدة في 26 يونيو 2012، حيث تضمن مطالبة إريتريا بإعادة تشكيل لجنة العقوبات في الأمم المتحدة متهمة إياها بعدم توافر درجات من الحياد والموضوعية والمهنية والمصداقية لديها، وطالبت بمساواة خاصة بالأسلحة في المنطقة الحدودية بين البلدين، فضلًا عن تجاهل لجنة العقوبات لمسألة الملاحظة على الحدود بضغط من الولايات المتحدة الأمريكية.
• قامت وزارة الخارجية الأمريكية بلوم إريتريا في 16 يونيو من العام 2012، ووضعها في القائمة السوداء للدول التي تقوم بالاتجار بالبشر، واعتبرت إريتريا هذا الإجراء تدخلًا في شئونها الداخلية، وتستند الولايات المتحدة إلى توافد أكثر من عشرة آلاف شاب إريتري إليها من طالبي اللجوء السياسي، واتهامها لبعض العسكريين الإريتريين البارزين بالضلوع في أنشطة إرهابية.
• تحيز الولايات المتحدة لإثيوبيا وعدم اتخاذها أية إجراءات إزاء احتلال إثيوبيا جزء من المدن الإريترية حتى الآن مثل مدينة بادم Badme الإريترية.
هذه المؤشرات أو الشواهد يعبر عنها الرئيس الإريتري أفورقي، من خلال توصيفه للعلاقات مع أمريكا بأنها فاترة، وأن ذلك عائد إلى نتاج السياسات الخاطئة للولايات المتحدة، وقال أفورقي "واشنطن تسيطر على حكم البلدان من خلال تمكين قوى سياسية معينة على حساب الآخرين، فالسياسات الأمريكية تقوم على اختيار حكومات ضعيفة، أو حكومات مستعدة لخدمة أجندة واشنطن"(5).
وإلى جانب هذا التشخيص للعلاقات الإريترية الأمريكية، يذهب الرئيس أفورقي إلى التأكيد على عدد من المحددات التي تحكم السياسة الإريترية، ومنها: التأكيد على رفض التدخل الأجنبي، الذي يزيد من تعقيد المشكلات، والمطالبة بزيادة قدرات وفعالية المنظمات القارية والإقليمية على مواجهة هذه المشكلات وإيجاد الآليات الملائمة للحل. والتأكيد على أن الأزمات العربية الحالية هي نتيجة الاختلالات المحلية والإقليمية والدولية، وأن سيناريو انفصال جنوب السودان قابل للتكرار في العديد من الدول.
وترتبط هذه الرؤية إلى حد ما بالصراع الإريتري الإثيوبي، ومن ثم التحفظ الإريتري على الدور الإثيوبي في الصومال الذي يعطى لإثيوبيا دور فعال وكبير في منطقة القرن الأفريقي، ويساعد النظام الإثيوبي على استجلاب الدعم السياسي والمالي الغربي والأمريكي لضمان بقائه في السلطة من جانب، وضمان تحقيق مصالح الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية في منطقة القرن الأفريقي من جانب ثان، فضلًا عن توفير الدعم الداخلي للنظام السياسي الإثيوبي (باعتباره حكم الأقلية للأغلبية)، ومن ثم فقد تزايد تأثير القوى الأجنبية على النظام الإثيوبي(6).
وعلى مستوى العلاقات الإريترية العربية، يؤكد الرئيس الإريتري أن كلا من مصر والسعودية مهيأة الآن للدفع باتجاه تعاون إقليمي مشترك لتشكيل آلية فعالة لأمن البحر الأحمر، بما يمكن معه الاستغناء عن أية قوى خارجية، ويشير هذا التوجه الإريتري إلى تطور واضح في سياسة إريتريا الخارجية باتجاه تدعيم علاقاتها العربية، والتي عبر عنها الرئيس أفورقي بأن سياسات النظام السابق (مبارك) في مصر لم تكن واقعية تجاه إفريقيا، كما أكد على عمق العلاقة مع السودان ووصفها بأنها علاقات إستراتيجية، بغض النظر عن بعض الظروف الطارئة التي قد تحدث فيها مشادات بين الطرفين، والتي قد تكون نتيجة سوء إدارة الصراعات داخل الدولة حديثة الاستقلال في منطقة القرن الأفريقي(7).
وبالنسبة للعلاقات مع دول الخليج العربي فقد أظهرت إريتريا تفاعلًا ملحوظًا مع تلك الدول بعد الاستقلال وبخاصةً مع المملكة العربية السعودية، وقد أسفرت هذه العلاقات عن تنفيذ مشروعات بنية تحتية في إريتريا برأس مال عربي (كويتي - سعودي - إماراتي).
أما بالنسبة لمسألة انضمام إريتريا للجامعة العربية، فقد حرصت القيادة الإريترية على تحميل بعض القوى والحكومات العربية مسئولية عدم انضمامها للجامعة العربية، مع التأكيد على هامشية هذه المسألة مع الدعوة لأهمية تقوية هذه المنظمة في إطار رؤية إريترية لدعم المنظمات الإقليمية والقارية لدعم قضايا التنمية وتسوية المنازعات، وفى هذا الإطار، يصف الرئيس أفورقي الجامعة العربية بأنها "ناد غير فاعل"، مرجعًا ذلك إلى سياسة التجاذبات والمحاور، مشيرًا إلى أن علاقات بلاده بالعالم العربي تتطور"ببطء". ومن المعروف أن إريتريا اهتمت بتطوير علاقاتها مع الدول العربية بقدر أكبر من الحرص على الانضمام للجامعة العربية، واكتفت بالانضمام إلى منظمة الوحدة الأفريقية آنذاك، حيث بدت إريتريا في ذلك الوقت أحرص على تطوير علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية وتحديدًا فرنسا وإسرائيل، واجتذاب الاستثمارات الأجنبية والحصول على المساعدات من الدول المانحة، وكانت زيارة الرئيس أسياسي أفورقي لإسرائيل في يناير 1993، أحد المؤشرات الأولية العاكسة لهذا التوجه، فقد تم توقيع عدة اتفاقيات بينهما في مجالات الزراعة والتعاون العسكري(8). في المقابل فقد نظرت إسرائيل لعلاقاتها بإريتريا في إطار هدفها الخاص بفتح الجبهة الشرقية أمام نفوذها لتأمين الإستراتيجية الإسرائيلية في منطقة البحر الأحمر، والدور الإسرائيلي التابع للوجود الأمريكي في المحيط الهندي.
وقد نجحت إسرائيل بصفة عامة في إعادة بناء إستراتيجيتها تجاه الدول الأفريقية، خصوصًا القريبة من البحر الأحمر، وركزت على أهمية تكثيف علاقات التعاون الاقتصادي وتقديم المساعدات والمعدات والأجهزة الزراعية التي تحتاج إليها هذه الدول، بصرف النظر عن عدم وجود علاقات دبلوماسية معها. وتمكنت من خلال هذه الإستراتيجية من نسج شبكة كبيرة من علاقات المصالح المشتركة مع الدول الأفريقية أفضت في النهاية إلى استئناف العلاقات الدبلوماسية البينية مرة أخرى. كما نجحت إسرائيل من خلال إستراتيجيتها الجديدة في تدعيم العلاقات مع إثيوبيا، كما نجحت في بناء علاقات قوية مع إريتريا في أعقاب ظهور احتمالات استقلالها(9).
وهنا يمكن القول إن العلاقات الإسرائيلية الإريترية قد شكلت مساحات للتوتر والترقب على الجانب العربي، لا سيما عند الاستقلال، حيث بدت إريتريا أقرب للغرب وإسرائيل منها للعرب، وهو ما امتد بتداعياته إلى تزايد القلق العربي من سيطرة إسرائيل على البحر الأحمر، ورغم عدم قدرتنا على تحميل إريتريا فقط مسئولية فتور علاقاتها مع العرب وقت الاستقلال حيث يتحمل العرب الكثير من المسئولية، فإن الملاحظ أيضًا أن تراجع العلاقات الإسرائيلية الإريترية في فترة تالية لاستقلالها لم يترتب عليه أي تطور حقيقي أو كبير مع البلدان العربية.
”الرئيس أفورقي: أن المدخل الصحيح لمواجهة المشكلات في منطقة حوض النيل هو التعاون الاقتصادي، بمعنى أدق أن صياغة منظومة للتعاون بمحاوره المتعددة تؤدي إلى تحقيق التعاون المائي“
2. تثبيت الحدود:
شكلت قضية تأمين حدود الدولة والدخول في العديد من الصراعات والخلافات مع عدد من دول الجوار واحدًا من التحديات الكبرى التي فرضت نفسها على الدول الجديدة. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى نزاعين أساسيين، أولهما مع دولة إثيوبيا، وثانيهما مع اليمن.
أـ النزاع الحدودي بين إريتريا وإثيوبيا:
فرض الخلاف الحدودي نفسه على طبيعة ومستوى العلاقات بين إثيوبيا وإريتريا بل يمكن القول إن هذا الخلاف وتطور النزاع مسلح بين البلدين في 13 مايو 1998، قد امتد بتأثيراته على طبيعة تحالفات وأدوار كل البلدين في محيطها الإقليمي وتحالفاتها الدولية. فقد سعت إريتريا إلى تأكيد حقها وسيطرتها على مناطق زالامبيا، بادمي، إيروب، إليتينا كأراض إريترية استولت عليها إثيوبيا عام 1950، الأمر الذي قابلته إثيوبيا بخطوات تصعيديه وصلت عام 2000 إلى شن حرب مضادة لاستعادة هذه المناطق، ومع اندلاع الحرب بين البلدين برزت العديد من الجهود الدولية والإقليمية الهادفة لإنهاء الحرب ووقف الصراع وهو ما تمثل في توقيع اتفاق الجزائر، باعتبارها رئيسة منظمة الوحدة الأفريقية آنذاك في 18 يونيو 2000، والذي كان من أهم بنوده انسحاب قوات الجانبين إلى ما قبل حدود 6 مايو 1998، على أن يكون عمق الانسحاب على الجانب الإريتري 25 كم، وتشكيل بعثة دولية لمراقبة وقف إطلاق النار، مع تحويل النزاع إلى محكمة العدل الدولية(10).
الموقف الإريتري:
طرح مجلس الوزراء الإريتري مشروعًا لحل الأزمة، يحتوي على البنود الآتية:-
1. حل النزاع الحدودي عبر الوسائل السلمية والقانونية وليس بالقوة.
2. تقديم كل طرف للحجج والدلائل الرسمية بالطرق السلمية.
3. حضور طرف ثالث المباحثات والمفاوضات بين الجانبين.
4. أن تصبح المناطق المتنازع عليها منزوعة السلاح وخالية من أي وجود عسكري من جانب البلدين.
5. تعرض المسألة إلى التحكيم الدولي إذا تعذر الوصول إلى حل عبر الطرف الثالث.
الموقف الإثيوبي:
أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي السابق ميليس زيناوي في الخامس والعشرين من نوفمبر 2004، مبادرة، مكونة من أربع ركائز أساسية فيما يتعلق بأزمة الحدود مع إريتريا، حيث أعلن من حيث المبدأ الموافقة على قرار مفوضية ترسيم الحدود الدولية الصادر في أبريل 2002 بشأن أحقية إريتريا في المناطق الحدودية المتنازع عليها بين الجانبين، خاصة منطقة بادمي بعدما كان يرفض ذلك من قبل، وهي المبادرة التي أجازها البرلمان الإثيوبي الذي سبق أن أقر الحرب ضد إريتريا عام 2000 بالأغلبية الساحقة.
كما أقرت مبادرة زيناوي عدد من الأركان والمبادئ الرئيسية التي تهدف لإيجاد تسوية سياسية للأزمة الحدودية، أولها القبول المبدئي بقرار مفوضية الحدود، مع اعتباره قرار غير عادل وغير شرعي، وفق قول زيناوي، وثانيها تبني الأسلوب السلمي في التعامل مع الأزمة، وعدم اللجوء للقوة كوسيلة لتسوية الصراع، وثالثها ضرورة حل الخلاف عبر الحوار المباشر و المفاوضات، ورابعها تراجع إثيوبيا عن قرارها الرافض بدفع التزاماتها المالية لمفوضية الحدود، حيث قررت استئناف تعاملها مع المفوضية بدفع حصتها المالية وإرسال الضباط المعنيين إلى المفوضية.
مهمة الأمم المتحدة في إثيوبيا وإريتريا (UNMEE)
أصدر مجلس الأمن قراره رقم 1312 (2000) في 31 يونيو 2000، والذي يقضي بإنشاء قوة تابعة للأمم المتحدة في إثيوبيا وإريتريا (UNMEE) وتتألف من 100 مراقب عسكري لدعم المدنيين. على أن تقوم المهمة بالمهام التالية: تحديد ومواصلة الاتصال مع الطرفين، زيارة المقر العسكرى للطرفين؛ وإعمال آلية للتحقق من وقف عمليات القتال، والإعداد لإقامة لجنة التنسيق العسكرية التي نص عليها اتفاق وقف عمليات القتال؛ والمساعدة في التخطيط لعملية حفظ سلام في المستقبل.
تسوية الصراع:
تم توقيع اتفاق سلام شامل بين البلدين في الجزائر (12 ديسمبر 2000) تحت رعاية كل من منظمة الوحدة الأفريقية والأمم المتحدة والاتحاد الأوربي، وكان من أهم بنود الاتفاق إنشاء مفوضية لترسيم الحدود بين الجانبين ونصت الفقرة 2 من المادة 4 من الاتفاق، وكذلك الفقرة 15 من نفس المادة على أن قرار المفوضية نهائي وملزم للطرفين، وقد توصلت إلى إصدار قرارها في أبريل 2002 بشأن أحقية إريتريا في هذه الأراضي، وعلى الرغم من أن إثيوبيا أعلنت في البداية استعدادها لقبول القرار، إلا أنها اعترضت عليه رسميا في 19 سبتمبر 2003، حيث قام رئيس وزرائها ميليس زيناوي - في ذلك الوقت- بإرسال خطاب لكوفي أنان يؤكد فيه أن بلاده تعتبر قرار مفوضية ترسيم الحدود غير قانوني وغير عادل وغير مسئول، ولن يخلق مناخ استقرار بين البلدين، بل قد يؤدى لتفجير صراع جديد.
ولكن قام مجلس الأمن بالرد في أول أكتوبر 2003، حيث أكد على أن قرار المفوضية تم اتخاذه وفقًا للإطار القانوني الذي حددته اتفاقية الجزائر، ومن ثم فهو قرار نهائي وملزم وعلى الرغم من الرد القوي للمجلس، فإنه لم يستتبعه بأي تحركات عقابية ضد أديس أبابا، بل أن الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان أخذ يبحث عن بدائل أخرى لحل المشكلة، بدلًا من الإصرار على تنفيذ قرار المفوضية، مما يبرز ازدواجية المعايير و طغيان توازنات مصالح القوى المهيمنة على النظام الدولي.
ويمكن القول إن الدعم الأمريكي لإثيوبيا، حليفها الاستراتيجي والإقليمي، في منطقة القرن الأفريقي قد أثر بشدة على تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي، فكل ما فعلته الولايات المتحدة هو إصدار بيان هزيل في 21 يناير 2005 تحث فيه البلدين على تنفيذ القرار بصورة سلمية.
ب ـ النزاع الحدودي مع اليمن:
دخلت إريترية صراعًا مع اليمن بسبب احتلال القوات الإريترية أرخبيل حنيش الكبرى اليمنية في البحر الأحمر، ذات الأهمية الإستراتيجية لوقوع الجزر في طريق الملاحة البحرية بين مضيق باب المندب وقناة السويس. وعلى الرغم من الاتفاق على معالجة المسألة سلميًا في 1996/5/3 فقد استمر احتلال الجزر حتى حكمت محكمة العدل الدولية بتبعيتها لليمن في تشرين الأول عام 1998.
فقد نشب نزاع بين إريتريا واليمن في 15 ديسمبر 1995 حول جزر حنيش في البحر الأحمر وذلك بسبب قيام القوات الإريترية باحتلال جزيرة حنيش الكبرى، وبعد فترة من التوتر توافق الطرفان على عرض النزاع على التحكيم الدولي الذي فصل في النزاع في 9 أكتوبر 1998 والذي قضى بتسلم الحكومة اليمنية رسميًا جزيرة حنيش الكبرى في نوفمبر 1998 وتم بعد ذلك ترسيم الحدود البحرية بين البلدين في ديسمبر 1999.
سادسا - إريتريا وحوض النيل:
تستند رابطة إريتريا بدول حوض النيل، بنهر ستيت الذي يشكّل جزءٌ منه الفاصل الحدودي بين إثيوبيا وإريتريا، ويمتد أيضًا إلى السودان كأحد روافد نهر عطبرة الذي يعد أحد الروافد الرئيسية لنهر النيل.
هذا الارتباط البسيط بملف المياه وعدم اعتماد إريتريا عليه، انعكس بوضوح في خبرة العلاقات الإريترية مع ملف التعاون المائي كملف فرعي في تحديد علاقاتها ومستوى تفاعلاتها تجاه دول حوض النيل مقارنة بسياساتها الإقليمية تجاه ملفات أخرى تتعلق بحفظ الأمن والسلم ورؤيتها لدورها في منطقة حوض النيل والقرن الأفريقي. ولذا فقد حرصت على الوجود في التجمعات الخاصة بدول الحوض سواء التيكونيل أو مبادرة دول حوض النيل كمراقب، حتى تضمن الوجود في مسار الأحداث والتطورات بدون تكلفة. بمعنى أدق الحرص على عدم تحولها لطرف مباشر في الصراع والتوتر الدائر حول ملف المياه، وذلك على الرغم من ارتباطها بالكثير من التفاعلات والأحداث التي شكلت البيئة الصراعية في منطقة حوض النيل سواء من خلال انطلاق ثورتها المطالبة بالاستقلال عن إثيوبيا، أو لخوضها الحرب الحدودية مع إثيوبيا. فقد أسهمت هذه الأحداث وغيرها في تحديد مواقف العديد من الدول ومنها مصر الذي أضاف موقفها المساند لحركة التحرير الإريترية في زيادة تعقيد المواقف مع إثيوبيا، بالقدر الذي بدا معه ملف المياه مرآة عاكسة لمدى الاستقطاب والتوتر اللذين مرت به العلاقات الإثيوبية المصرية وفي القلب منها ملف المياه.
ويمكن تفهم الموقف الإريتري وركائزه من خلال تأكيد الرئيس أفورقي على عدد من المحددات الرئيسية، نذكرها في التالي (11):-
• أن المدخل الصحيح لمواجهة المشكلات في منطقة حوض النيل هو التعاون الاقتصادي، بمعنى أدق أن صياغة منظومة للتعاون بمحاوره المتعددة تؤدي إلى تحقيق التعاون المائي.
• أن سياسة المحاور والابتزاز التي تقوم بها بعض البلدان لن تفيد، لا سيما وأن المشكلة ليست في ندرة المياه فهناك كميات مياه كبيرة مفقودة، وهناك موارد مائية بديلة. كما أن كثيرًا من بلدان منابع النيل لها خيارات مطرية يمكن الاستفادة منها، على عكس الحال بالنسبة لمصر والسودان.
• أن الحوار والتفاوض هو السبيل للتوصل إلى اتفاق لإدارة وتنظيم التعاون المائي في الحوض، وأن يستند هذا الاتفاق على تحقيق المكاسب للجميع.
الموارد المائية:
تتمثل الموارد المائية في إريتريا في الموارد السطحية والجوفية بالإضافة إلى الأمطار، وتقوم الزراعة على المطر في المناطق المرتفعة والهضبة في الشمال الوسط وحيثما تقل الأمطار تقوم حرفة الرعي.
أما عن المياه السطحية، فإنه لا توجد في إريتريا أنهار دائمة الجريان سوى نهر ستيت، (الذي تمده بعض الروافد التي تنبع من شمال إثيوبيا بالمياه)، وهناك مشروع لإقامة سد عليه لري نحو نصف مليون فدان. أما عن خور القاش(12) فهو نهر موسمي الجريان، تجري به المياه لمدة أربعة شهور (يوليو حتى أكتوبر) في السنة وهى فترة سقوط المطر الصيفي ويدخل الأراضي السودانية غرب مدينة تسنى بقليل ويكون بها دلتا خصبة تقع في مدينة كسلا، ويساهم في بعض السنوات الغزيرة المطر في مياه نهر النيل. وهناك خور بركة وهو نهر موسمي الجريان، ينبع من المنطقة الواقعة شمال مدينة أسمرة، ويعد من المناطق الزراعية الخصبة في إريتريا وتمارس به زراعة بعض المحاصيل النقدية، ويكون قرب مصبه عند ساحل البحر الأحمر في السودان دلتا مروحية كبيرة تقع بها مدينة طوكر، وهي من أهم مناطق زراعة القطن في السودان. وكذلك خور بدا الذي يقع في جنوب إريتريا ولا يتوغل كثيرًا في أراضيها حيث يقع معظمه في إقليم تجراي الإثيوبي ويكون سهلًا دلتاويًا صغيرًا (13).
أما الأودية التي تصب نحو الشرق من الهضبة الإريترية، فأهميتها الاقتصادية أقل من تلك التي تصب نحو الغرب، بالنظر إلى ضيق المساحات التي ترويها، وأهم هذه الأودية: وادي علي قدي ويروي سهول زولا حيث أقيم سد صغير. وعلى مقربة منه وادي حداث وكميلي، كما يروي مزارع بدا في منطقة دنكاليا، ويمتد إلى هضبة التجراي. أما مزارع (إمبيرمي) و(سقب) فترويها أودية تصب من هضبة حماسين والهضبة الشمالية. وقد أقام (داندي)، وهو الإيطالى المتخصص في زراعة الموز والفواكه، سدًا في ينقوس بالقرب من قندع يروي المزارع في مرتفعات قندع وأسمرا، وقد أقامت شركة سداو للكهرباء بحيرات اصطناعية في (بلزا) بالقرب من أسمرا لتجميع مياه السيول، واستغلالها في توليد الكهرباء، ويعد مشروعًا ناجحًا يمد أسمرا بالكهرباء إلى جوانب فوائده الزراعية. وتؤكد الدراسات التي خلفها الإيطاليون وجود إمكانيات اقتصادية ضخمة لتوليد الكهرباء وتنظيم الري باستغلال مساقط المياه، وبإقامة بحيرات اصطناعية.
الخاتمة:
يشير هذا البحث إلى مجموعة من التحديات التي فرضت نفسها على إريتريا كدولة نامية لم تستغل كثير من مواردها من جانب، وتم استنفاذها الكثير من قدراتها ومواردها في صراعات داخلية وإقليمية من جانب ثان، بالإضافة لحاجتها للتنمية لتثبيت أركان الدولة وتحديد هويتها، الأمر الذي يبدو معه وفى إطار ما تشهده الكثير من مناطق العالم لا سيما منطقة القرن الأفريقي والبحيرات العظمى من عدم استقرار ضرورة أن تهتم القيادة الحاكمة في إريتريا ببذل المزيد من الجهد لتحقيق التنمية البشرية المستدامة وتحديد أولوية التحرك السياسي الهادف لتوسيع نطاق المشاركة السياسية والمجتمعية، وتقليل آثار وتداعيات سياسات التهميش التي تمارس أو تستشعرها أية فئة أو شريحة داخل المجتمع الإريتري، فإدراك مخاطر الانقسام الداخلي سواء من الناحية الدينية أو العرقية أو السياسية، يجب أن يدفع نحو إيجاد قاسم مشترك بين كل المواطنين الإريتريين(14). بالقدر الذي يساعد على بناء دول القانون والمؤسسات، وصولًا لترسيخ الدولة الحديثة.
* الدكتور: أيمن السيد عبد الوهاب - خبير الشئون الأفريقية والمياه بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية