إريتريا.. الدولة المجمّدة
بقلم الأستاذ: عبد القادر محمد علي - إسطنبول المصدر: الخليج أونلاين
مقاربة الحالة السياسية في إرتريا تفتح أمام الباحث أبواباً متعددة للدهشة والتساؤل، فالنظام الحاكم في هذه الدولة الشرق إفريقية، يكاد
يكون في بعض الأساليب التي يتبعها في إدارة البلاد متفرداً تماماً عمّا سواه من الأنظمة في عالم اليوم، أما الصمت الإعلامي التام عن حالة، أقل ما توصف به أنها مثيرة للانتباه، فهو مثار التساؤل.
ولنبدأ الحكاية من أولها، ففي شهر مايو/أيار من عام 1991 حررت دبابات "الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا" العاصمة الإرترية أسمرا، منهية بذلك 30 عاماً هي عمر أطول حرب تحرر في إفريقيا حتى حينه، ومن خلال تحالفها مع "الجبهة الشعبية لتحرير تقراي" الإثيوبية ساهمت بقوة في إسقاط النظام الحاكم في إثيوبيا، وقد اتفقت الجبهتان على عقد استفتاء في إريتريا بعد عامين، وعلى إقامة الإدارة المؤقتة في إريتريا بموجب المرسوم رقم 23/1992.
وبعد عامين تمَّ استفتاء بإشراف الأمم المتحدة حول الانفصال عن إثيوبيا، ونجح هذا الاقتراع بأغلبية ساحقة تجاوزت 99 بالمئة من المصوتين. ليعلن يوم 24 مايو/أيار استقلال إريتريا عن إثيوبيا وتبدأ حقبة الدولة الوطنية المستقلة في التاريخ الإرتري الحديث.
وبعد الاستفتاء صدر المرسوم 37/1993 الذي تشكلت على أساسه حكومة إريتريا المستقلة برئاسة إسياس أفورقي، رئيس الحزب الحاكم، وبتشكيلة كاملة من حزبه، ومنح المرسوم الحكومة صلاحيات تشريعية، جعلت منها مشرعاً ومنفذاً في آن واحد، يدير البلاد بمراسيم حكومية، في انتظار تشكيل لجنة صياغة الدستور والمجلس الوطني (البرلمان) ليعبر بالبلاد نحو مرحلة دولة المؤسسات.
دولة بلا مجلس نيابي وبلا دستور:
في 15 من مارس/آذار صدر المرسوم الحكومي رقم 55/1994 القاضي بتشكيل مفوضية الدستور التي أنيط بها مهمة صياغة الدستور للدولة الجديدة، وقد تم تشكيل هذه المفوضية من أعضاء الحزب الحاكم، كما الحكومة، وقامت بالعديد من الجولات داخل البلاد وخارجها، وبعد ثلاث سنوات أتمت المهمة الموكلة إليها، وقدمت الدستور الجديد إلى الرئيس الذي حوله إلى المجلس للمصادقة عليه.
والمجلس الوطني يتكون من 150 عضواً، كلهم، أيضاً، من منتسبي الحزب الحاكم، ويرأسه رئيس الدولة، وصادق على الدستور في 23 مايو/ أيار 1997.
وعلى المآخذ المتعددة على هذا الدستور، كمنحه الرئيس صلاحيات تنفيذية واسعة، وضبابية العلاقة بين الرئيس والهيئة التشريعية، فإن العمل به تم تجميده، وتم تجميد المجلس النيابي، نتيجة دخول الدولة في الحرب مع إثيوبيا عام 1998، بحسب تبريرات الرئيس إسياس.
ورغم أن هذه الحرب انتهت بالتحكيم الدولي الذي قبل به الطرفان عام 2002، فإن هذا التجميد ما يزال ساري المفعول إلى الآن.
دولة بلا أحزاب:
ونتيجة لانتقال البلاد من مرحلة التحرر الوطني إلى مرحلة الدولة فقد تغير اسم الجبهة الحاكمة في البلاد من "الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا" إلى "حزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة"، في المؤتمر التنظيمي الثالث 1994، غير أن ذلك لم يُسبق ولم يستتبع، كما هو متوقع، بالسماح بإنشاء الأحزاب السياسية، أو حتى دخول الأحزاب الإرترية الناشطة خارج إرتريا إلى الداخل، إذ سمح النظام الحاكم حينها بدخول القيادات السياسية الإرترية لكن كأفراد، دون دخول الهياكل السياسية والتنظيمية لهم، وفي يونيو/ حزيران 1991 قال إسياس في اجتماع عام: "من يريدوا أن يشاركوا في الحكم فعليهم أن يحلوا تنظيماتهم ويأتوا على مستوى الأفراد" فأغلق باب المشاركة السياسية بدعوى الحفاظ على الوحدة الوطنية الإرترية، مما شكل بداية غير مبشرة لشعب ذي تجربة سياسية عميقة، صنعتها مجموعة من التشكيلات المتنوعة الرؤى والتوجهات الفكرية والسياسية، كان الحزب الحاكم الآن يوماً ما أحدها.
ورغم أن الدستور أقر التعددية الحزبية، لكن تجميده منذ إقراره أدى إلى عدم قيام الحياة الحزبية في البلاد، وما لبث هذا التجميد أن طال الحزب الحاكم أيضاً، فقد أقر مؤتمره المعقود عام 1994 انعقاد المؤتمر التنظيمي الرابع بعد سنتين، وقد انقضت 20 سنة، مرت فيها البلاد بأحداث جسام كالحرب الطاحنة مع إثيوبيا 1998-2000، ولم يبد في الأفق بعد إمكانية انعقاده.
دولة بلا انتخابات:
ولعل استفتاء 1993 سالف الذكر كان الفرصة الأخيرة التي أتيحت للإرتريين، داخل إرتريا، للتعبير عن رأيهم في شأن سياسي عام يخص بلدهم، إذ لم تشهد البلاد بعد ذلك أي نوع من أنواع الانتخابات أو الاستفتاءات، سواء على المستوى الرئاسي أو النيابي، إلى يوم الناس هذا.
وبين الحين والآخر تعلن الحكومة عن انتخابات للمجالس المحلية في الأقاليم، غير أن هذه الانتخابات لا تزيد الباحث إلا حيرة؛ إذ لا تُعرف صلاحياتها بدقة، كما أن مدة هذه المجالس القانونية وعدد أعضائها يلفه الغموض ويفتقر إلى التحديد والوضوح.
دولة بلا إعلام مستقل:
بين 1997–2001 كانت تصدر في العاصمة أسمرا عدة صحف خاصة، وكانت الحكومة قد تركت لصحفييها هامشاً من الحرية ما داموا لم يتطرقوا إلى المواضيع المحرمة كالانتخابات والمشاركة السياسية والأحزاب.
لكن الحرب التي هزت البلاد ألقت بظلالها على الإعلام حيث برزت بعض المحاولات الجريئة من قبل سياسيين ومنابر إعلامية حاولت تجاوز الخطوط الحمراء الموضوعة من قبل النظام، فيما سمي بربيع أسمرا، لكن وفي غمرة انشغال العالم بأحداث 11 أيلول وما بعده، قامت الأجهزة الأمنية في 19 سبتمبر/ أيلول بإغلاق جميع الصحف الخاصة واعتقال كثير من الصحفيين، دخل جزء منهم في حالة اختفاء قسري منذ ذلك الحين، كما أكدت ذلك تقارير "مراسلون بلا حدود". وبتلك الإجراءات التي لحقت بالإعلام اكتملت حلقات تجميد الحياة السياسية في إرتريا.
المفارقة اللافتة أن القليل من البحث في التاريخ السياسي لإريتريا يؤكد أن ممنوعات الدولة الإرترية المستقلة، كانت جزءاً أساسياً من الحياة السياسية الإريترية في أربعينات القرن العشرين وخمسيناته، تحت الوصاية البريطانية ومطالع الحكم الإثيوبي، ممّا يضع الإرتريين أمام تساؤلات ليس أقلها عن معنى الدولة الوطنية وعن جوهر (الاستقلال)، وليس أقصاها التساؤل عن الفائدة الحقيقية منهما، ولا سيما مع اقتران هذه الممنوعات بممارسة التمييز الديني واللغوي بتعمد تهميش المسلمين (50 % من السكان) واللغة العربية، ومحاباة المسيحيين (50% من السكان) ولغتهم التجرينية.
وفي ظل حالة التجميد التي أُدخلت فيها الحياة السياسية في إرتريا، فإن أنشط الأجهزة العاملة في البلاد، هي الأجهزة الأمنية التابعة لمكتب الرئاسة، ولذا فلم يكن من المستغرب أن يرد اسم إريتريا في تقارير العديد من المؤسسات الدولية في مصاف أكثر الدول انتهاكاً لحقوق الإنسان الأساسية، وعلى مدى سنوات متتابعة كانت إريتريا وكوريا الشمالية كـ"فرسي رهان" في الوصول إلى ذيل هذه القوائم، هذه الانتهاكات التي جعلت من كوريا الشمالية وزعيمها ضيفاً دائماً في الوسائل الإعلامية، يعيد المتابعين إلى سؤال البدايات عن سر التجاهل الإعلامي الذي (ينعم) به النظام الإرتري ورئيسه !