كنتيباي محمود... السيرة والمسيرة - الجزء الثالث والأخيرة

بقلم الأستاذ: عثمان همد نور الدين (ود ابيب)

واخيراً تفضي سفينة التفاوض، لإنقسام الحباب الي حلفين سياسين... بكيان واحد هنا،

وهناك اسمه الحباب... و لكن يدار بزعامتين... وتنسيق كامل بذات العرف والقلد والسالف الإجتماعي العتيق... فالسيد كنتيباي محمود ومن معه جمع غالب من الشيوخ والأعيان انحازوا إلي النفوذ البريطاني المصري في إدارة سواكن.

أما الحلف الثاني فهو تيار العودة الي أراضي الحباب الخاضعة إلي النفوذ الإيطالي... وبالفعل عادوا إلي مدينة (نقفة)، ونصبوا رسمياً السيد كنتيباي عثمان بن كنتيباي هداد في 1895م، زعيماً وناظراُ للحباب علي الأرضي الواقعة تحت النفوذ الإيطالي هناك... وعلي أرضية هذه المعادلة الصعبة التي قسمت الحباب، رسمت الخريطة السياسية، و الحدود الجغرافية، والخطوط الفاصلة بين النفوذ البريطاني المصري، والإيطالي يومئذٍ... وحادثة تمرد الحباب علي ايطاليا أعطت زخماُ سياسياً، ومصوغاً قانونياً مقنعاً... مما شجع وعجل بدولتي الإحتلال للإسراع في مفاوضات ترسيم الحدود، وإنفاذ مخرجاته بينهما رسمياً وبشكل نهائي في 1898م... ورب ضارة نافعة في (انقسام الحباب)، حيث شاركوا بأنفسهم في لجان تقسيم الحدود، وسهلوا مهمة الترسيم المعقدة، ومنعوا ذريعة حدوث أي خلاف حدودي محتمل بين الدولتين مستقبلاً... وفي 1956م عندما استقل السودان، شكلت حكومة الأزهري الوطنية، لجنة فنية لتأكد من صحة ترسيم الحدود بين السودان، والجارة إثيوبيا التي كانت تحتل ارتريا وقتها... وفي هذه الجنة ايضاً مثل الحباب الدولتين، فجاء السيد عمر بن كنتيباي محمود بن كنتيباي حامد بك ممثلاُ للسودان، وكخبير من أبناء المنطقة... وفي المقابل جاء السفير محمد عثمان محمد اكد (هتنولاي) ممثلاً لدولة إثيوبيا، وبوصفه خبير عليم بشئون الحدود، وهو من ابناء المنطقة... وهما بالطبع أبناء عمومة، قطع بينهما خيط وهمي اسمه الحدود... وكل واحد منهما شهد ووقع بمحض إرادته علي المقررات السابقة... وكانت النتيجة الإيجابية، والثمرة العائدة من ذالك، ألا توجد مشكلة حدودية بين السودان وارتريا حالياً... والسبب في ذالك يعود، لأن أهل المنطقة هم الذين اشرفوا عليها بأنفسهم... وهم الحماية والضمان للدولتين علي طريفي الحدود... (وأهل مكة ادري بشعابها)... وهكذا عصفت الأحداث، ودارة الأيام، ومرة التقلبات، و سيرة الزعيم كنتيباي محمود، شاهدة علي أحداث جسام. وانقسام هز الكيان الحبابي، منذ نشأته علي ارض الساحل لأكثر من (600عام)، تمخضت عنه (زعامتان). والقاسم المشترك بينهما، نفس الاسم الحباب، وذات اللقب السيادي التاريخي الموروث (الكنتيباي)، وعانقت (نقفة، طوكر)، وتعززت صلة الرحم والنسب، والتواصل الطيب بين الأرض والإنسان... وكل هذا التراكم الوجودي بقي كشاهد عيان، وعنوان للحقيقة هنا وهناك.

وهكذا ظل القوم مؤثرين، وفاعلين، ومتفاعلين... حافظوا في طرفي الحدود علي حقوقهم، وتاريخهم، وأرثهم، وحضورهم المميز في البلدين... ورحل المستعمرون برغم تأثيراتهم الكارثية في المنطقة... وبقي الحباب، وغيرهم من قبائل البجا ثابتين علي أرضهم... وقد ساهم كنتيباي محمود كرجل إدارة أهلية حصيف، واحد الحكماء البارزين بشرق السودان، في استتباب قيم الأمن والاستقرار والسلام... وتقوية دعائم النهضة الاقتصادية والزراعية التي شهدها مشروع طوكر الزراعي، من خلال تسهيل العمل علي استقرار الرحل، وتقسيم الأرضي الزراعية بينهم، والمزاوجة بين القطاعين الزراعي والرعوي في الدورات الزراعية... و في كل المواقف والفواجع، كان الرجل يشكل منصة نصيرة للمظلومين... و صوتاُ للحق المساند للمواطن، في انتزاع الحقوق وتوفير الخدمات، وتسهيل الإجراءات في كافة الدوائر الحكومية المتعلقة بنشاطهم... لكن الإنجليز لم يغفروا له مواقفه المساندة (للدراويش)... ولم يتسامحوا معه في سجل (والده، وعمه) الداعمين للمهدية.

وكان ا دائما ينتابهم الخوف من أن يزحف كنتيباي محمود شمالاً بجنده وسلاحه، للإنضمام مرة أخري إلي صديق والده، الأمير عثمان دقنة في (أدارما). والإستخبارات البريطانية والمصرية، كانت ترصد حركته و تنقله بإهتمام كبير، عند ذهابه إلي المصيف في قرية (عيت)... أو عند عودته و نزوله في فصل الشتاء إلي طوكر وسواكن، وبورتسودان، و ترحاله المستمر حتي الحدود المصرية في (حلايب)... ومما يحكي عن مناقب كنتيباي محمود و(الحباب)، أنهم كانوا سنوياً ينزلون ويخيمون لإعدة أيام فيما يسمونها (بحولية)، في المنطقة الحالية (لميناء بورتسودان)، قبل إنشاءه في مطلع القرن العشرين. حيث يوجد في ذات المكان، ضريح الرجل الصالح (الشيخ احمد الولي... أو الشيخ برؤوت)، ويذبحون (الثيران)، ويصنعون الطعام، ويقدمونه كصدقات لسكان المنطقة... و ذات مرة تعرض موكب الحباب، إلي هجوم من مجموعة تابعة لقبائل (الأرفوياب) في بور تسودان، فأطلق عليهم جنود الحراسة التابعين لهم، طلق (ناري) من أسلحتهم...فاشتكي وجهاء (الأرفوياب) إلي الإنجليز... قائلين هل في سلطة جديدة في البلد تملك سلاح ناري غير الإنجليز... فرد عليهم الإنجليز، نعم هؤلاء هم الحباب، لا تعترضوا طريقهم... ومما يحكي عنه أيضا، انه كان رجلاً، كريماً متواضعاً... تقياً نقياً ورعاً، صواماً قواماً... شديداً في الحق، متسامحاً عند المقدرة... كان يرفض بشدة أن تلتقط له صورة، ولا ندري ما هو السبب في ذالك... هل لأنه كان يري ذالك حراماً، من ناحية دينية سلفية... أم لشدة الحس الأمني العالي عنده، في ظل الملاحقات الأمنية...؟ مما لم نجد له صورة اليوم، تخلد ذكراه، رغم انه عاصر كل أشكال الصورة الملونة والعادية... حتي البريطانين والإيطاليين، والمصريين، برغم ما كتبوه عنه في مذكراتهم، وأرشيفهم، إلا أنهم فشلوا في التوثيق الفتغرافي له... أو ربما كان هذا الملف موجودا وفقط...؟ ومن يملك منكم صورة يفيدنا علماُ... هكذا عاش كنتيباي محمود حياته من رهينة سياسية ضماناً لاستمرارية اتفاقية الحماية بين الحباب وايطاليا... إلي سجين سياسي بتهمة التورط بدعم وتمويل المهدية... ثم فجأة يجد نفسه يحمل لقب (الكنتيباي) في سدة حكم الحباب... ليقود حركة مقاومة وتمرد، مناهضة لسلطات الإحتلال الإيطالي... ليحسم قراره... ويحدد مصير الحباب بالإنحياز إلي الحلف البريطاني المصري... لكن صاحب القرار، تحمل مسؤولية قراره، بثبات وشرف، ودفع ثمن ذالك بكل سخاء... وما بين ميلاد كنتيباي محمود في منتصف القرن التاسع عشر، ورحيله عن الدنيا في (1932م) من القرن العشرين، ومراسم دفنه في منطقة (جنت)، جرت مياه كثيرة تحت الجسر...ولماذا اختار الرجل (مقدام)، لتكون مرقده الأبدي... هل لأنه أراد جوار أجداده (اسقدي، وبحايلاي) المدفونين بالقرب منه في (عدوبنا)... أم لأن (جنت) الواقعة بالقرب من الطريق الرئيسي الواصل ما بين (المشاتي) في (مقدام، وطوكر، وسواكن، وبورتسودان)... و(المصايف) في المرتفعات الماطرة في (رحيب، وودقان، ونقفة، ورورا حباب)، هي سر الإختيار الموفق.. طلباً للدعاء والرحمة علي قبره، من قبل جموع المسافرين شتاءً وصيفاً... والذين قطعاً سيمرون بمقبرة (جنت)، لأنها تقع في طريقهم ذهاباً، وإياباً... و ربما هذا كان الخيار الصحيح...في عبقرية كيف يخطط الإنسان لنفسه، لما بعد الموت، فكل المارة من هناك، كما شاهدت ذالك بنفسي، يدعون له بالرحمة والمغفرة عند المرور بمرقده في (جنت) حتي اليوم... ورحم الله ود بشير...كنتيباي محمود...بقدر ما أعطى وقدم... وعلي ذكر(جنت) جال بخاطري هذا المقطع الشعري، الذي يبكي ويتحسر علي بعد قبر الرجل...لا أدري من القائل.

حمود أبابو قبرو ليريم
جنت جفر فجر كدن...
افمحاد مسل شيخو
وود قان مسل حسن...

و اخيرا نختتم هذه السيرة والمسيرة المباركة، بمرثية الشاعر الكبير علي قطين محمد حامد شلع... والتي قالها في رثاء كنتيباي محمود يوم وفاته... وتحكي القصيدة عن عظمت كنتيباي محمود... وعن القصص، والصعاب التي مرت به... وكيف من حنظل المرارة، يصنع طعم الإنتصار... وهي لقطات مختلفة من صور الإحداث العظام، والمواقع والمناطق، والشخصيات، والقرارات المصيرية، والدول العظمي كإيطاليا وبريطانيا... والقصيدة انقلها لكم كما هي، دون الغرق في في أعماق محيطات الشرح... لأن الشرح يفسد طعم المعني والمغزي...طبعاً للناطقين بالجئزية الحميرية... لغة (التجرايت).

لِيتْ فادعام مَيينا لَحِرَم مِنْ دي تبَاكَيا
دنجوبا لا دِحْرَتَنْتُو هِمْرَارِيبَنْ سَانَيَا
عِرِفْ ألف وطجَاب إتْ قِرّهن سيما يَحَدْقَيَا
عد تِمِاريام ود أبيب نقفا ما كُلو فَقْرَيَا
أمْعِلاّيِتْ إتْ مِنْطَاْل لَحَبَاب كُلو تلَمّيَا
كِمْ وِيْدَتْ نايْ قهوتْ إتْ شِنْكِيتُو لَنْفَيَا
وأمْعِلاّيِتْ إتْ شَرْئِيتْ لحمود نولِي شَكْرَيَا
إيطاليا تَأمرُّو أكَيْ حَبَنْ هَبَيَا
نَسْأ مِنّا لِعُشُورا ولَئِلاَ حَدِيتْ كَلأيَا
إنجليز ما تَأمرُّو كُمْ مطأيا أفرهيا
سنكات كناب ولبب مَدْهَنُوتاتْ رَفْعَيَا
عراتيجا ما وشرف إتْ حَنْتِيكَا جَلْسَيَا..

Top
X

Right Click

No Right Click