مذكرات وأوراق للدكتور محمد عثمان أبوبكر - الحلقة الثانية
بقلم المناضل الأستاذ: محمد عثمان أبوبكر - القيادي في التنظيم الموحد سابقا
مصر لها قصة متفردة في وجداني وعن حياتها السياسية وخاصة فترة حكم الزعيم جمال عبد الناصر الأخبار عبر المذياع الصغير
والمذيع المشهور أحمد سعيد صاحب الصوت المجلجل فهمنا الكثير عن ثورة عبد الناصر ومنها إعجابي الشديد بتلك الثورة ترسخت في ذهني عروبة إرتريا.
كما أتذكر جيداً العدوان الثلاثي على مصر والغريب كل هذه الأخبار كنت أتابعها عن طريق إذاعة الجيران وبالرغم من أن والدي حالته كانت متيسرة، إلا أنني لم أملك في تلك الفترة راديو والجيران هم أهلي أحمد طروم، وعمر طروم1، وكنت في تلك اللحظة طالباً وبسبب تعلقي بهذه الأحداث قمنا بمظاهرات وسني لم يتجاوز الـ 16 - 17 عاماً (1956) هذه المظاهرات كانت تؤيد الثورة وتطالب بالرد على العدوان.
تخمرت عندي فكرة الهجرة والسفر إلى مصر بعد أن عرفت عنها بعض أحداثها التاريخية وتعلقت بمسألة سفري إلى مصر وقررت أن أسافر بصحبة كل من محمد علي نائب، وإدريس زبوي، وعثمان ديني، ومحمد حمداي.
بدأت الرحلة في نهاية الخمسينات مروراً بمصوع وأسمرا، وكرن، واغوردات، كسلا، حلفا، وهنا حصل ما لم أكن أتوقعه ننجح في السفر إلى مصر بينما سافر كل من محمد علي نائب، ومحمد حمداي، وعثمان ديني إلى السعودية متسللين في إحدى البواخر التجارية من بورتسودان، أما أنا وصديقي إدريس عدنا إلى إرتريا بعد أن خضنا هذه التجربة التي اطلقت عليها (رحلة استكشافية).
هذه الرحلة كانت ممتعة بالرغم من بعض العوارض التي واجهتنا كما كانت تتضمن بعض الطرائف، وأذكر هنا شيئاً من تفاصيلها في هذه الرحلة الاستكشافية حينما وصلنا إلى كرن رأينا الناس يلبسون الجلابية السودانية ويتحدثون بالسودانية، اعتقدنا مباشرة أننا وصلنا السودان، وأحسسنا ببعض الخوف نسبة لعدم معرفتنا بالسودان وباعتبارنا أبناء سمهر لا نعرف شيئاً عن السودان وأهل المنطقة هم أدرى بالسودان.
وكانت لدينا خطابات لتسهيل أمورنا لكل من علي حامد في كسلا (حبابي) وآخر في بورتسودان كانت هذه الرسائل من عمنا محمد عثمان حالي أغوردات وهو أكرمنا ورحب بنا لمدة ثلاثة أيام والوصية كان مضمونها كالآتي.
(إن لم تجدوا لهم طريقاً أمناً ومضموناً إلى مصر الرجاء إعادتهم من حيث أتوا) . وساعدنا كذلك أحد الضباط كان يعمل في تسني وعلى قدر وهو من قبيلة (عد درقي) وقام معنا بالواجب في كسلا وجدنا على حامد وهو زعيم وعمدة كبير وله مكانة خاصة عند أهله وأكرمنا وأخذ منا الوصية. وشرحنا له هدف مجيئنا إلى كسلا وإن فرص الدراسة محصورة لفئات دون أخرى وحكينا له أن كل من يأتي إلى أسمرا بغرض الدراسة وخاصة من المدارس العربية يتم ترسيبه عمداً. ويهمش2 لذا كان الحل الوحيد هو الهجرة والبحث عن فرص دراسية في الخارج.
سفري إلى مصر للمرة الأولى لم استشر عثمان صالح سبي لأنه في الأصل بعد عودته من أديس أبابا كان يبحث عن طرق لإرسال بعثات دراسية إلى الخارج، وهو رحمه الله لم يألوا جهداً في ذلك كان هاماً كبيراً ويراوده لتحقيقه وفيما بعد كان له ذلك. وفيما بعد استطاع الثلاثي محمد علي نائب3، وعثمان ديني، ومحمد حمداي أن يسافروا إلى السعودية أما أنا وزميلي بقينا في بورتسودان، إدريس زبوي كان يعمل في شركة.
وسبب صعوبة المنفذ إلى مصر وحتمية المخاطرة والمجازفة رجعنا إلى كسلا ومن ثم إلى إرتريا.
أصلاً عام 1956 كانت هناك إرهاصات لاستقلال بادية في السودان، وكان السودانيون ترادهم فكرة وحلم الحرية كذلك كانت فرصة مواتية تعرفنا عن قرب التطورات السياسية في السودان الذي كان فيما بعد ملجئاً وخلاصاً للاجئين الإرتريين خلال حقب الثورة وحركات التحرير الإرتري.
والدي كان قد أعطاني مصاريف 4 وكانت حينها بالدولار وكان له قيمة ذاك الزمن.
الرحلة الاستكشافية قد استغرقت ثلاثة أشهر خلالها التقيت بالمناضل محمد سعيد ناود وكانت هناك بوادر لتأسيس حركة تحرير إرتريا 1957. كنت حينها أتمتع بحس وطني بالرغم من صغر سني وحينما غادرت إرتريا كان عمري حوالي 17 عاماً ولم أبلغ سن الرشد فمن الطرائف أنني في ذات ليلة استيقظت من نومي في كسلا ووجدت نفسي محتلماً ولم أعرف حتى ما هو الحلم.
خلال عودتي إلى إرتريا ماراً بكسلا قابلت أستاذي القديم محمد خير سألني ما ذا تفعل هنا؟ أخبرته بأنني في زيارة قصيرة وكنت أود السفر إلى مصر إلا أنه لم أتمكن من ذلك، والآن أرجع إلى إرتريا وباروني بقوله.
"عندي لك مفاجأة" قلت متلفهاً ما هي هذه أمام ناظري سألني ما ذا أتى بك؟ قلت (اللي جابني جابك) وضحكنا معاً - كنت اعتقد أ،ه يريد السفر إلى مصر مثلى ولم يتجاوز عثمان حينها الـ 30 عاماً. واخبرني عثمان في جلسته متأنية بأنه ما جاء به هو البحث عن فرص للمنهج الدراسية لأبناء سمهر وإرتريا عموماً ولأول مرة أرتب زيارة للخرطوم لكي التقى بالشيخ الترابي وليس عمر الأمام وصادق عبد الماجد، حيث كان له ذلك التقى بهم ورتب المنهج الدراسية على أن تتم عبر دفعات ثلاثة.
أخبرني عثمان صالح سبي أنني سأكون ضمن طلاب الدفعة الثالثة.
الدفعة الأولى كانت من نصيب محمد علي عمرو، وحسين محمد موسى سعدو والدكتور نافع جواي. ونصحني بالرجوع إلى إرتريا إلى حين فرصتي والدراسة ستبدأ لئلا تفوتني وفعلاً وافقت على ما اشار إليه لأن عثمان سبي يعتبر من أقربائي وتربطني به صلة رحم ويعتبر خالي والدتي ووالده أبناء أشقاء فضلاً على أنه كان أستاذي في مدرسة حرقيقو ورجعت لإكمال الثانوي قبل رجوعي إلى إرتريا لاحظت شيئاً واحداً وهو أن الدراسة كانت لفترة واحدة بينما الدراسة في مدن إرتريا صباحاً ومساءاً بحسب نظام المدارس، أما في حرقيقو نسبة لارتفاع درجات الحرارة وصعوبة تحملها أحياناً كنا ندرس صباحاً ثم تعود إليها عصراً كان هذا النظام مزعجاً جداً. لذا خطرت لي فكرة إقناع الطلاب بعد نقاشهم للقيام بإضراب وعدم العودة للدراسة بعد العصر. وبعد جهود كبيرة كان لنا ذلك بجهود الطلاب طبقنا نظام الدراسة في السودان في مدرستنا حينذاك.
عثمان سبي كان على استعداد لإرسال الدفعة الأولى للدراسة في مصر كان من ضمنها كل من عبده منسعاي، محمد علي أفعرورة، ومحمد علي عمرو، وعثمان دندن، ورمضان محمد نور وآخرين، وقد هيأ لهم استقبالهم في الخرطوم بواسطة الأخوة صادق عبد الماجد والترابي والرشيد الطاهر، ومن ثم تم إرسال الدفعة بالقطار إلى حلفا عبر دليل وخطابات ومصاريف كافية، وكانت حلفا القديمة وقتها عامرة بالسكان، هذه الدفعة كان بها (12) فرد، تلتها الدفعة الثانية عام 1958
هوامش:
1. أحمد طروم وعمر طروم تربطني بهم صلة قرابة أمهم من بيت (حالي) وهذا البيت ينتمي إلى آل زبير صالح وهم من قبيلة (قدقى).
2. في أسمرا كان هناك تحيزاً واضحاً لأبناء المرتفعات المسيحيين ولهم الأولوية في الدراسة الجامعية والوظائف الحكومية بما فيها القرارات السيادية، بينما غيرهم يفقد أبسط الحقوق.
3. محمد علي نائب لم تكن له وصية مكتوبة لذا اضطر أن يعمل لتوفير مصاريف له بالرغم من أنه من آل نائب كان يحتج كيف أعمل نصحته مرة قائلاً أعمل دون أن تزعج نفسك فيها ليس من يعرفك.
4. أنا كان لدي مصاريف حيث أن والدتي كانت باعت بعضاً من ذهبها ووفرت لي بعض المال اللازم للرحلة. الآن محمد سعيد ناود تجاوز الثمانين وحينما التقيت به في بورتسودان كان يعمل في هيئة البريد، وأتذكر أنه دعاني إلى بيته وتناولت معه وجبة الغداء وكانت منتقداً بأحداث إرتريا السياسية وشرح لي الظلم الواقع على إرتريا وكنت أتفهم حديثه عن الأوضاع السياسية، وكما أسلفت سبق ذلك للتهميش الذي وقع علينا والتمييز الذي مورس علينا كطلاب.