أدوبحا النكسة - الجزء الأول
بقلم الأستاذ: محمد علي حركة - كاتب وبـاحث ارتري
هل كان مؤتمر أدوبحا العسكري سنة ١٩٦٩م القشة التي قصمت ظهر بعير جبهة التحرير الارترية
المُتّهَمة أصلاً من قبل كثير من المناضلين باعوجاج دربها من يوم انطلاقتها سنة ١٩٦١م وبالتالي وضع مستقبل ومصير إرتريا في كف عفريت؟
• هل كان هذا الاعوجاج مقصوداً.. بمعني هل ثورتنا كانت مخترقة؟
فالنتابع الأحداث المريبة منذ انطلاقة الثورة إلي يومنا هذا.
كنت قد كتبت فيما مضي موضوعاً بعنوان: هل كان انطلاقة جبهة التحرير الارترية ضرورة وطنية أم ترفٌ سياسي، الذي أثار حفيظة بعض أصحابي الارتريين باعتبار أنّ تجربة الجبهة في نظرهم شيئٌ مُقَدَّس لا ينبغي أن يَمَسّه الاّ (المطهّرون) من (الرفاق) الذين مكانتهم تعتبر مكانة (العُدول) حسب مصطلح أهل الحديث (مكانوم عَبَّايتا لَعَرِّيبا ألبو)!.. وهي تجربة فوق كلّ النقد بزعمهم للاسف.
وعندما طُرح هذا السؤال كان هناك بعض التعقيبات التي يمكنها أن ترتقي الي العقلانية إذا ماقورنت ببعض مهاترات من زعموا أنهم من صفوة القوم ورحيق تجربة الجبهة ولا يملكون إلاٌ أن ينبروا للدفاع عن تجربة الجبهة بعجرها وبجرها... مصنّفين كلّ من سوّلت له نفسه (الأمّارة بالسوء) أن ينزل بتجربة الجبهة من مثاليتها وعليائها التي اعتصمت بها بعيدا من مستوي الدهماء لحين من الدهر الي مستوي تعتبر فيها بأنها مجرد تجربة إنسانية قد تحتمل الصح والخطأ، الغث والسمين، الصالح والطالح.. يصنفونه أنه من حزب (الثورة المضادة) التي تتربّص دائماً لخط الثورة الصحيح وروحه الخفّاق ريب المنون.. فكان تعقيب المناضل محمد نور أحمد أحد التعليقات التي فندت سبب العزوف عن حركة التحرير الارترية والميل الي خط الجبهة الذي كان يُخطّط في القاهرة سنة ١٩٦٠ للانطلاقة.
الذي يقول: أن (حركة تحرير إرتريا) تبنّت آسلوب الثورة (البلشفية) في روسيا بقيادة (لينين) لتغيير الوضع في البلاد ألا وهو التأطير سرا ومن ثمّ الانقضاض علي مخلفات هيلي سلاسي في إرتريا وإعلان دولة مستقلة لإيمان الحركة أن الشعب الارتري ليس له نفس طويل و لا يتحمّل أثار ثورة (خطوة ألف ميل) في حين تبني أصحاب فكرة جبهة التحرير الارترية الأسلوب الصيني.. النهج (الماووي) نسبة الي (ماوتسي تونج) الطويل النفس.. والذي في نظري لا يمكن أن يناسب حال الشعب الارتري.. والذي أثبتت الايام صحة تخمين قيادة (حركة تحرير إرتريا).. وما أظن من اختار هذا الأسلوب في النضال كان له دراية بالتجربة الصينية.. فضلا عن المفهوم الماركسي عموما الذي كان شائعاً تلك الايام وسط شباب التحرر الوطي... فالامر كله كان لا يعدو أن يكون مجرد نزوة شبابية.. فظن (الرفاق) أنهم بمُجَرّد إطالة اللحي الكثة.. وتأبُّطْ المنشورات التي تزعم عدم وجود الله - مع انها لا تستطيع أن تبرهن علي عدم وجود الله تماماً مثلما لا يستطيع العابد المتهجّد آناء الليل وأطراف النهار أن يبرهن وجود الله جلّ جلاله - توهّم شبابنا أنهم أصبحوا من فطاحلة الفكر الإنساني!! فإنني في شكٍ - لدرايتهم مما كانوا يدعون اليه - مريب.. فأظنها كانت مجرد نزوات شخصية دون علم بما ستؤول اليه الامور مستقبلا.
واليوم أضيف الي ذلك المقال هذا الذي الذي مهرته بعنوان: (أدوبحا النكسة).. الذي تتمحور حوادثه حول مؤتمر أدوبحا العسكري للمناطق الخمس.. والقيادة العامة التي انبثقت عنه - والتي جاز لنا أن نشبّهها بما يُطْلَق عليه اليوم بأُمراء الحرب - والتداعيات التي توالت بعد المؤتمر تَتْرا علي هيئة (سونامي) مدمّر لا زالت تئن ساحتنا الوطنية من آثاره السلبية.. وحوّل المشروع الوطني برمّته الي (نكبة) للاسف الشديد.
من المعلوم أن الجبهة استنسخت تجربة ثورة الجزائر - المناطق - في كيفية ادارة وتفعيل النشاط الثوري الوليد في إرتريا.. هذا الكيان الثوري الذي هو الابن العاق لكيان ثوري آخر طموح سبقه في الساحة والذي كان أكثر خبرة وتنظيماً من خلفه في الامور التنظيمية والإدارية وتأطير المجتمع ليهبّ هبّة مفاجئة واحدة من أجل تخليص حقه المسلوب من قبل الهالك (هيلي سلاسي) وزمرته الفاشستية.. ألا وهو تنظيم (حركة تحرير إرتريا) الذي وُئد في المهد.
إلاّ أن هذا القالب الذي أُتيَ به من الجزائر ليساعد المقاتلين في كيفية تنظيم أنفسهم سرعان ما بدت سوءاته وبدأت تفوح منه روائح كريهة تزكم الأنوف.. وأصبح عقبة في طريق انطلاقة الثورة إلي رحاب إرتريا الحرة بسلاسة ومرونة ويُسر. فمن سوءات هذا النظام.. أنه جعل من إرتريا خمس مناطق وهو مجرد (جيتو) بغيض.. كلّ منطقة معزولة عن أختها، بحيث ضُرِب بينها (بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب)، حيث لا تسعف منطقة عسكرية أختها الاخري إذا تعرّضت بعدوان غاشم من قبل العدو الاثيوبي.. فضلاً عن مطاردة كل من يتسلل من المقاتلين اضطرار الي منطقة عسكرية غير منطقته مطاردة الوحوش للضحية أومطاردة رجال الجوازات لكل مخالف لقوانين الهجرة من الأجانب العابر لدولة ما من قبل رجالات أمراء الحرب.
كان مقاتلي المنطقة الثالثة من أكثر المقاتلين المستهدفين من قبل العدو الاثيوبي وعملائه من المليشيات الشعبية المحلية التي كان يُطْلَق عليها اسم (نِجِّلِباش) لكون منطقتهم الإدارية هي من أخطر المناطق في اقليم كبسا وهما مديريتي (سرايْ) و(إكلي غوزاي).. إذا استثنينا منهما مديرية (حماسين) التي كانت تقع ضمن المنطقة الخامسة في التقسيم الاداري للمناطق... وكانوا منهكين من الكر والفر شبه اليومي، فاضطرت قيادة المنطقة الرابعة أن تسمح لقوات المنطقة الثالثة أن تشاركها الحلوة والمرة في منطقتها.. المنطقة الرابعة.. حتي يلتقط الجنود أنفاسهم المتقطعة من جرّاء المطاردة اليومية.. في تظاهرة أقرب ما تكون الي إظهار حسن الضيافة وإكرام الضيف بالموجود.
مما كان له الأثر الطيب علي معنويات المقاتل في المنطقتين حيث سرعان ما تمخّض عن ذلك التنسيق المشترك في العمليات القتالية، وكانت نتائجه إيجابية مما شجَّع إلي فكرة التعجيل لتوحيد المناطق العسكرية آيذاناً لتجاوز مرحلة المناطقية المستوردة من الجزائر والتي كانت سلبياتها اكثر من أيجابياتها.. فعندما لم تجد فكرة إلغاء نظام المناطق الذي أظهر فشله وتوحيد المقاتلين تجاوبا من جميع المناطق والتحمّس لها.. اكتفت قيادة المناطق الثلاثة: المنطقة الثالثة، والرابعة، والمنطقة الخامسة من وضع اللبنة الاولي لتوحيد جيش التحرير الارتري تحت أمرتها مستبشرين بالذين لم يلحقوا بهم من رفاقهم في المنطقتين: الاولي والثانية.. وكان ذلك في عام ١٩٦٨م في عرض عسكري مهيب.
اطلق عليه (الوحدة الثلاثية).. فوظّف جيش التحرير هذه الخطوة المباركة في مطاردة فلول العدو أين ما وُجِد فأثلج ذلك (صدور قوم مؤمنين).. خاصة شعب المنطقة الذي كان يتأذّي من هجمات جيش العدو وعملائه المحلّيّين، فارتفعت المعنويات الي عنان السماء مما هيّج حماس المقاتلين في المنطقتين المتبقيتين للحاق بركب الانتصارات الوطنية ورفع من عقيرة النداء أن هلمّوا لوحدة جيش التحرير.. فشكّل ذلك ضغطاً علي قيادة المنطقتين للجلوس ما قيادة الوحدة الثلاثية للتباحث في كيفية إتمام صرح وحدة جيش التحرير الذي أقامت قواعده قيادة المناطق التي تشكّلت منها الوحدة الثلاثية الطيبة الذكر، فاتفق الفريقين علي أن يتم عقد مؤتمر عسكري لجميع الوحدات العسكرية في ارتريا في أكتوبر من عام ١٩٦٩م.
فركّز علي المشادّات التي حصلت بين الفريقين في مسألة كيفية اخراج مشروع هذا المؤتمر العسكري ليؤتي أُكُلَه المرجو باْذن الله فاتفق الجميع أن يتكون مجلس القيادة من ٣٨ عضو الذي سمّوْه القيادة العامة وأن تكون صلاحياتها سنة واحدة تقريبا وذلك الي يتم عقد مؤتمر وطني عام تشارك فيه جميع شرائح المجتمع الارتري المؤطرة تحت اتحادات مهنية مختلفة فضلا عن جيش التحرير، فكانت مفاجأة قيادة المنطقتين (الاولي والثانية) أن أصرّت واستماتت أن تكون نسبة القيادة من ٢٠:١٨ لصالحها رغم أن المنطق يقول عكس ذلك.
أي كان يُفْتَرَض أن يكون نصيب الثلاثة مناطق أوفر من حظّ المنطقتين، لكن اصرار قيادة المنطقتين علي موقفها من النسبة لحاجة في نفس يعقوب.. ورغبة قيادة الوحدة الثلاثية للخروج من عنق الزجاج بأسرع وقت ممكن أدي الي رجحان القوى الي الفريق المنتمي للمنطقتين، وكان من ضمن الاتفاقيات عدم المساس بصلاحيات (المجلس الاعلي) الي أن يحين المؤتمر الوطني الذي حُدِّد له الموعد مدة أقصاها سنة واحدة وألّا يسمح لقيادات المناطق لترشيح نفسها للقيادة الجديدة.. وتكوين لجنة تحضيرية للمؤتمر الوطني القادم، ولجنة أخري مهمتها تقصّي الحقائق في المظالم التي قد يكون تم اقترافها من قبل جيش التحرير من يوم ولوجه الي إرتريا الي يوم انعقاد المؤتمر بحق الجانب العسكري من الأفراد أو الجانب المدني من الشعب، فتم اختيار أعضاء اللجنتين من القيادة العامة المنتخبة في المؤتمر، وكان قد اُختير إسياس عضوا للقيادة العامة رغم عدم حضوره المؤتمر حسب تأكيد معظم المتابعين لتاريخ ثورتنا، والجدير بالذكر أنه كان المُفَوّض السياسي للمنطقة الخامسة، وقياديا في الوحدة الثلاثية.
حسب قول المناضل إدريس عمر بريراي الذي مازال يدلي بشهادة العصر كما يُقال في موقع الاخ ابراهيم أحمد شيخ فرس.. عما عايشه من النضال في الميدان وَمِمَّا رَآه بنفسه رأي العين المجردة.. وهو غني عن التعريف حيث تدرّج في نضاله من سنة ١٩٦٧م الي أن توّج مسيرته النضالية إلي أرفع مناصب في جيش الجبهة الشعبية، إلي أن يعتزل ويتفرّق لتسيير حياته الخاصة.. نسأل الله له وافر الصحة والتوفيق في حياته المديدة المثمرة.. آمين، ومن الملاحظات المهمة التي أدلي بها المناضل (بريراي) أنه كان قد التحق بالثورة حوالي عشرة كادر تخرجّ من سوريا في الفترة التي سبقت الوحدة الثلاثية وكانوا يحملون مشروع توحيد المناطق العسكرية حيث تم توزيعهم بمعدّل مندوبين لكل منطقة ويضيف رغم أن المناضل عبدالله ادريس كان يتبع عسكريا للمنطقة الخامسة ورغم ذلك لم يشترك في الوحدة الثلاثية بل انسحب الي السودان وكوّن هناك مجموعة أطلق عليها إسم الإصلاح وشارك بها في مؤتمر أدوبحا من ضمن مجموعة المنطقتين الاولي والثانية!.
عودة إلي أنقاض المؤتمر وآخر تشطيباته والاستعداد للانطلاق لتنفيذ مقررات المؤتمر وتوصياته الطموحة... فأول طامة كبري من (بركات أدوبحا)! كانت تأكيد اسياس علي تمرده واعتصامه ومجموعته في ضواحي مدينة اسمرا.. وقيل في سهل (عالا) المطل علي مدينة (دقّ محاري) متخذاً من منفستو: (نحنان علامانان) العنصري البغيض منهاجا له لتحقيق المهمة التي من أجلها ابتعث الي الثورة الارترية.. وجعله خارطة طريق لدرب الخيانة.
ثمّ زادت القيادة التي تتبني برنامج المنطقتين مقابل مساعي مجموعة الوحدة الثلاثية الطين بلة حيث عرقلت عمل مهام اللجان التي عينت للقيام بمهامها وعندما احتج أعضاؤها تمّ الزج بهم في المعتقلات!.
كذلك غيروا رأيهم في ما يتعلق بعدم التعرض لمهام المجلس الاعلي فقررت المجموعة المناوئة لمجموعة الوحدة الثلاثية باعفاء المجلس الاعلي عن مهامه وأن تتولي القيادة العامة جميع مهام الثورة داخلياً وخارجياْ وأظن أنهم بعثوا لجنة الي الخارج بقيادة قائد القيادة العامة المرحوم محمد أحمد عبده! يعني بصريح العبارة.. عن انقلاب عسكري مصغّر الذي عهدته شعوب العالم الثالث في مسرحياتها الهزلية التي أسمتها انتشال الوطن من الفاضي الذي هو واقع فيه! وبدأت عملية خلط القطاعات العسكرية حيث بدأ الشر المستطير يطلّ علي الجميع بوجهه القبيح وبدأ الجميع يتوجس خيفة عن بعضهم البعض حيث اختفت الثقة واختفي معها روح الاخوة والنضال، وبدأت تمتد الاعتقالات الي شرائح اخري من الجيش لمجرد استفسارهم عن سبب اعتقال رفاقهم، بل أصبحت الظاهرة تأخذ منحاً سلبيا حيث أخذت الاعتقالات منحاْ مناطقياً، فبدأت البلبلة في الميدان.. وبدأت تنمو ارهاصات ميلاد تنظيم تصحيحي جديد.
نواصل... في الجزء القادم