مؤسسات الوساطة والسمسرة والوكالات التجارية كمصادر للتضامن الجماعي في المدن
بقلم الأستاذ: حسين محمد باقر - كاتب وبـاحث
مؤسسات الوساطة والسمسرة والوكالات التجارية كمصادر للتضامن الجماعي في المدن الساحلية
والحضرية مصوع، و حرقيقو، وحطملو.
إن الحاجة إلى التواصل بين الشعوب القاطنين في مناطق جغرافية وتجارية مختلفة وينتمون إلى مجموعات متنوعة من الثقافات، ويمارسون ديانات مختلفة، ويتحدثون بلغات متنوعة يكون لديهم أنواع مختلفة من مؤسسات الوساطة في التاريخ العالمي.
كان ذلك صحيحاً ومطبقاً في أماكن كثيرة وساعد في إنشاء مدن مركزية ذات توجه تجاري، حيث لعب الوسطاء دوراً في تسهيل العلاقات التجارية الدولية في غياب حكومة بيروقراطية مركزية منظمة قوية.
عملت مؤسسات الوساطة والسمسرة الخاصة في شرق إفريقيا ومنطقة البحر الأحمر، بما في ذلك المناطق الاثيوبية اريتريا والسودانية والصومالية في القرن التاسع عشر، سواء في الموانئ أو في مراكز الأسواق الداخلية مثل مدينة (هرر) وكان تنظيم مؤسسات الوساطة والدعاية التجارية في موانئ غرب المحيط الهندي، من منطقة جنوب البحر الأحمر نزولاً ووصولاً إلى موزمبيق مشتركة في تلك السمات المميزة، وكان هذا هو الملمح الرئيسي الذي يجسد وحدة هذه الممارسة. إن العلاقات بين الوسطاء الساحليون في المناطق الحضرية وشركائهم التجاريون كانت علاقات شخصية وليست موجهة نحو السوق.
كانت مصوع عند تقاطع العديد من الطرق، بصفتها منطقة تجارية تقع بين المناطق الداخلية كشمال شرق إفريقيا والبحر الأحمر ومنطقة شمال غرب المحيط الهندي، وكانت لها علاقات وآليات توسط وسمسرة متعددة الطبقات على مستوى الاقتصاد الكلي بين عالم البحر والبر، وكذلك بين الميناء والأراضي الداخلية، وعلى مستوى الاقتصاد الجزئي بين المرفأ الموجه للبحر والأقسام الخارجية بين تجمع مصوع وبين هذه القرى أو الأحياء التابعة والمتصلة بها.
وقد كانت الوساطة المالية متجانسة ومنظمة بشكل مألوف يتسق مع السمات العرقية أو الثقافية، على سبيل المثال الهنود في مصوع كانوا يعملون كمراسلين أو مناديب للممولين الهنود في الهند أو في عدن، بينما كان وسيطاً من أصول الحباب في (حطملوا) يمكن أن يعمل كوسيط فقط للمنتجين في منطقة الحباب بين العقدين الثالث وأوائل السادس من القرن التاسع عشر، وارتبطت عدة حسابات أوربية بمؤسسات الوساطة في (نزل أو حدار) مع المكانة البارزة لمواطني مصوع التجاريين.
من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن مؤسسة (حدار) كانت سائدة في المناطق الداخلية شمال شرق افريقيا، المكان الذي من المحتمل أن يكون قد نشأت به في مصوع، عمل السماسرة عادة كوكلاء ـو مراسلين للتجار الهنود العاملين في منطقة البحر الأحمر وللتجار العرب في جدة والقاهرة وموانئ تهامة، وللتجار الاثيوبيين الذين كانوا يأتون مع قوافلهم إلى الميناء. التجار القادمين من المناطق الداخلية في مصوع، كان مطلوباً منهم أن يكون لديهم وسيط أو كفيل يتولى جميع شئونهم العملية وأنشطتهم التجارية أثناء إقامتهم في الميناء.
كما كان (الحدار أو النازل) مسئولاُ عن سلامة وأمن ضيفه، وكذلك عن التفاوض نيابة عنه بخصوص (الفاسس) أي رسوم المرور، التي يتعين دفعها للنائب عند عودة التاجر إلى المرتفعات. عادة ما كانت تصل قوافل التجار عبر المراكب الصغيرة في شبه جزيرة (غرار)، ويعبر منها التاجر إلى مصوع مع بضاعته على متن قارب، ويصل إلى مجمع النزلاء المكون من منطقة سكنية وبعض المحلات التجارية، ويقوم بإفراغ بضاعته في الفناء. يقيم التاجر في نزله، وتتم جميع المعاملات في الجزيرة من خلال السمسار الذي يشتري جزءاً من سلع التاجر بسعر منخفض. ولم يكن من غير المألوف أن تدوم العلاقة بينه وبين نازله (بين الضيف ونازله) مدى الحياة.
كل تاجر حبشي (نجادي) لديه مراسل (نزيل) الذي يعد الضامن بسبب أن (الحبشة التي لم تكن لها علاقة رسمية مع تركيا) يوفر له الاقامة والنار والماء والغذاء ويتولى جميع أعماله اثناء إقامته، وبدوره يتحصل النزيل رسوماً كبيرة جدا على جميع المبيعات والمشتريات. هذه العمولة والتي تصل إلى 5% - 10% على قيمة البضائع)، وهذه متجذرة بعمق في العادات والعرف لدرجة أنه سيكون من الحماقة محاولة التهرب منها، وهذا أكثر ملائمة للضيف لأن النزيلين أو النزلاء لديهم كل الأعمال في ايديهم ويديرون الشئون كما يحلو لهم، ويفضلون أصدقائهم.
تراوحت أجرة السماسرة (حداريت) من 5% إلى 20% ويتم جمعها من قبل كل من المشتري والبائع وفقاً لنوع البضاعة. وقد أشار تقرير فرنسي عام 1848م إلى كيفية تحقيق الوسطاء المحليين لأرباح مقدمة من خلال أخذ النسبة المئوية من كل من البائع والمشتري، وبالتالي تحقيق ربح بنسبة 30% على المعاملات التجارية. ويقول جونثان ميران: "لقد لاحظ (ويرنرمونزنجر) أنه بعد وصول التجار الاثيوبيين إلى مصوع تردد التجار الاثيوبيين قبل بيع بضائعهم خوفاً من إغراق السوق وخفض الأسعار، ولكن بعد قيام مقامر ثري بأول عملية بيع تم بيع كل المنتجات من البضائع.
وفقا لكلام (مونزنجر) لم تكن عملية المقايضة مفيدة. كان من الأفضل بكثير أن يكون لدى التاجر نقود خاصة دولارات تريزا، من أجل إجراء عمليات شراء بشروط مواتية، ولكن بعد أن قاموا ببيع كل بضائعهم بدأ التجار الاثيوبيين في انفاق بعض نقودهم في شراء البضائع من أسواق الميناء، وأخذوا على الأقل منتجات بنصف مكاسبهم النقدية عند عودتهم إلى الداخل. وقد لاحظ (مونزنجر) مرة أخرى، إذا كان الحبشيون(الحبوش) يجلبون بضائع بقيمة 2.000.000 اثنين مليون دينار، يستردون معهم 1.300.000 مليون دينار. و 70000 المتبقية يدفعونها ثمناً لمشترياتهم من مصوع. حيث يتم دفع حوالي 60.000 الف مقابل البضائع الهندية وحوالي 10.000 تتبقي للسلع الأوروبية.
وكان السماسرة المصاوعة الأوائل والقدماء فيما يتعلق بارتباطهم ببعضهم البعض من خلال مصالحهم التجارية المشتركة لتشكيل الكارتل (الاتحاد احتكاري) أو نقابة تجمعهم. أنهم يعملون معاً في تعاملهم مع السلطات بما يجعلهم يتحكمون في أسواق الميناء، وينظمون الأسعار، عادة عن طريق التلاعب بالعرض و الطلب. وقد كتب (لجين) عن التجار المصاوعة على أنهم كانوا يشكلون مجموعة ضغط قوية و "شركة غريبة الأطوار" يمارسون جميع أعمالهم من خلال التبادل والائتمان من الأوربيين المراقبين لأسواق مصوع دائماً ما كانوا يحرضون الضيوف على أن يطالبوا السماسرة المصاوعة لتخفيف نسبة العمولة التي يتقاضونها.
وكان (الحداري أو النزيل) يمثل ضيفه أمام مسئولي "الشركة". وأضاف أنه "لا ينصح أي أوروبي بمحاولة تجنب الوسيط لأنه سيتم وضعه في الحجر والعزل بواسطة الشركة المملوكة لتجار مصوع.
منذ منتصف الستينات من القرن التاسع عشر وما بعدها اختفت مؤسسات (النزيل) و(الحدار) معا من حسابات المراقبين مع استثناء السابقين الذين اعتمدوا - أثناء كتابة رواياتهم - على الروايات السابقة لدابادي، أو مونزينجر، أو ليجان. وقد أدى نقص التوثيق التاريخي إلى حدوث فراغ توثيقي فيما يتعلق بالتطور الدقيق لهذه السمسرة بعد عام 1865، عندما سيطرت مصر الخديوية على الميناء - وقراءة الوثائق اللاحقة - من عام 1870 حتى نهاية القرن - بما يجعل الأمر يبدو شبه مؤكد أنهم توقفوا عن التواجد بشكل معين. وقد تم إعادة صياغة السماسرة والسمسرة في أشكال أخرى بشكل ذكي، خاصة مع الدور المهيمن الناشئ للقرى الداخلية، بشكل أساسي خاصة حرقيقو وحطملو.
ظهور إدارة مركزية حازمة من النوع الحديث في مصوع، وتنظم التعريفات الجمركية والرسوم، والجمارك، وإعادة هيكلة الهيئات الإدارية للميناء، واعادة تشكيل مؤسساته القانونية، أزال أجزاء كبيرة من دور (النزيل) غير الرسمي. وقد أدى إنشاء مجلس (مجلس محلي)، وتنفيذ الشريعة والمحاكم الشرعية، وتعيين رؤساء النقابات المهنية مثل (سر التجار)، أو رئيس التجار، إلى تغيير العلاقات بين التجار / السماسرة والدولة في مصوع من منتصف الستينات من القرن التاسع عشر الميلادي وما بعدها.
مما جعل التجار يعدلون من استراتيجياتهم مع النظام المصري الجديد، الذي سعى لتعزيز وربط نفسه بأي مشروع تجاري مربح في المنطقة. علاوة على ذلك، فإن مشروع البناء المصري والتحول الحضري وظهور تكتل مصوع كان له أيضًا أثراً عميقًا حول كيفية اتصال الميناء بالبر الرئيسي والأراضي الداخلية، مما أدى إلى الخروج عن الترابط الوظيفي بين الترتيبات المكانية وترتيبات الوساطة. إن الارتباط المادي لجزيرة مصوع من خلال جسرين (سقالة قطام) والجسر الآخر من طوالوت إلى باب عشرة، هو مثال على ذلك.
فمدخل جزيرة مصوع لم تعد تعتمد على النزيل، وبدلاً من ذلك كان هناك بوابة حجرية كبيرة "باب عشرة"، نظمت عملية الدخول والخروج مقابل رسوم ثابتة عند الدخول. كانت مؤسسات السمسرة في قلب الدور الأصلي الذي لعبه سكان مصوع التجاريون. إن وجود "نقابة" سماسرة غير رسمية إلى حد ما ومتماسكة بإحكام في مصوع في النصف الأول من القرن، أمر مهم لفهم الجذور الاقتصادية والاجتماعية و "مصادر الإحساس المثالي بالترابط والتضامن والهوية المجتمعية النمطية بين المواطنين التجار في مصوع.
كما ذكرنا بأن نشاط السمسرة والوساطة قد توقف في مصوع بعد أن تأسست بنوك بالمستوى المتعارف عليه بحيث تمكن التجار القادمين من الخارج من خلال فتح الاعتمادات LC Letter of Credit لتسهيل عملية الاستيراد والتصدير من أجل التبادل التجاري الخارجي Foreign Exchange وتسوية الحسابات بين الأشخاص في البلدان المختلفة.
لكن ظلت مهنة (الحدار أو النزيل) مستمرة، تمارس في كل من حرقيقووحطملوا، وإن كان قد اقتصرت على تجارة المواشي والجلود، وقليل من كميات العسل والسمن.
وقد تحول النشاط على مستوى العائلات بدلاً من المؤسسات خلافاً لما كان سائداً في مصوع وذلك لاعتبارات كثيرة، وكل عائلة تعرف زبائنها أي ضيوفها، وتقوم بتوفير المتطلبات الضرورية للتجار من مأوى وإعاشة وغيره وكذلك المشتري الجيد.
وكانت في حرقيقو ثمانية عائلات تقريباً تمارس هذا النشاط التجاري - بعضها قد نمت وتطورت والبعض قد تلاشت وتوقفت تقريباً. إن معظم الضيوف القادمين إلى حرقيقو كانوا من أخواننا العفريين والساهو وبعض من الناطقين بالتجرايت.
العفر كانوا يأتون من مسافات بعيدة من مدينة (دز) وما حولها، كذلك من منطقة بوري شمال دنكاليا.
أما أخواننا الساهو فكانوا يأتون من مناطق ريعوتوويعاوعقمبسا وغيرها.
أما في مدينة حطملوا فإن من كانوا يأتون اليها (من قبائل الشمال من الناطقين بلغة التجراي).