المناضل الشهيد محمود ابراهيم شكيني

بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية

ضاعت زغاريد الحرية؟ التقينا سوية مرتين، الأولى كانت في منزلي بحي الميدان بدمشق قبل استشهاده بسنة تقريباً.

محمود ابراهيم محمد سعيد شكيني 1أما لقائي الثاني به كان في إحدى قرى الريف الارتري، إنه محمود إبراهيم الملقب بـ شكيني رافقته في الهجوم على معسكر كركر الأثيوبي بـ كامرتي.

كان الوقت بعد منتصف الليل بقليل عندما انضم إلينا عدد من الثوار المقاتلين، كانوا يرتدون اللباس الوطني وهو عبارة عن جاكيت أبيض يشبه إلى حد ما يقال له المنتيان وهو اللباس الوطني القديم في بلدي وتحته سروال أبيض أيضاً وتحت الملابس الوطنية الارترية هذه كان اللباس العسكري للمقاتل الارتري الذي هو عبارة عن قميص وبنطال قصير من اللون الكاكي وكانوا ينتعلون الشدة وزع محمود المقاتلين في عدة اتجاهات.

وكانت نقطة البدء قذيفة هاون من عيار 82 مم أطلقها الثوار على معسكر الجيش الأثيوبي.

كيف حالك يا أبو سعدة... سألني على أثرها محمود.

رددت عليه: بخير والحمد لله، هل أنتم مستعدون؟

سوف تسمع الآن زغاريد الحرية.

كان إبراهيم يحمل في يده الرشاش الخفيف الدكتريوف وعلى التوقيت الدقيق شق الهدوء صوت قذيفة وعلى صوت الرصاص وجدت نفسي أزغرد أنا أيضاً بآلة التصوير السينمائية وليس بالبندقية كالثوار.

استغرقت المعركة حوالي خمسة عشر دقيقة، تحول المعسكر الأثيوبي بآلياته وجنوده إلى كتلة من النار بعدها وهات يا ركض ووجدت نفسي مع محمود وأحد المقاتلين يجر خلفه جملاً، قال لي المقاتل: أعطني كنشك.

كان يقصد الكاميرا أعطيته إياها بسرعة ثم ذهب راكضاً مع الجمل، تابعت الركض وسط الشوك والصخور وتسآلت لماذا نركض...؟ ألا نريد أن تعرف ماذا حدث للمعسكر الأثيوبي...؟

أجابني محمود بهدوء: هذا من أجل سلامتك يا أبو سعدة، الأخوة المناضلون هم الذين سيأتوننا بالأخبار.

تسآلت في سري: ماذا صورت وماذا سأرى على شريط الفلم المصور...؟ آه ثم ألف آه... لقد تذكرت كيف صورت قصف المجنزرة الإسرائيلية مع طاقمها في غور الأردن، قصف المجنزرة أحد الفدائين الفلسطينين بواسطة سلاح الـ أ ـ ر ـ ب ـ ج كانت الإصابة دقيقة حيث قصفت من مكان قريب جداً، أي لا يبعد سوى أمتار قليلة وهذا في منتهى الخطورة والشجاعة والذي ساعدني في حينها في التصوير، الإضاءة البرجكتور الموجود على ظهر المجنزرة الإسرائيلية والذي يدور يميناً ويساراً.

وعندما سدد الفدائي سلاحه نحو مجنزرة العدو الصهيوني كانت الإضاءة كافية وخاصة بعد أن لامس الصاروخ المجنزرة التي أصبحت كتلة من النار واللهب وتناثرت الشظايا وبدأ الرصاص الملون والقذائف الصاروخية تنهمر شمالاً ويميناً، وأذكر أن رأسي كان مدفوناً في التراب، لم أرفعه إلا بعد أن هدأت الحالة، وقد استشهد اثنان من الفدائين رحمها الله، لم أنسىَ الومضة التي لمعت عندما لامس صاروخ الفدائي المجنزرة، استغرقت هذه العملية ثواني.

نسيت الخوف وكل التطابقات كانت تدور في رأسي في وقت واحد:-

أ) دمرنا المجنزرة الصهيونية وقتلنا أعداءنا.

ب) حصلت على أعنف وأصدق لقطة سينمائية حية.

ت) صورت العملية بشريط سينمائي عريض أي أنني حققت التقنية والمضمون وللعلم أن الكاميرا ومخزن الفيلم الكبير والبطارية يزيد وزنهم على 16 كغ هكذا كان.

أراد الله تعالى لي الحياة وأراد البعض من الزملاء أن يموت الفلم النادر... كان هذا في بداية عام 1969 والآن نحن في عام 2014... عندما رجعت من الشونة الشمالية لغور الأردن كنت سعيداً جداً وقد وصلت إلى دمشق ظهراً، ذهبت فوراً إلى معمل التحميض التابع لمؤسسة السينما، أعطيتهم الفلم وكدت أن أقبل أياديهم ليهتمو به، قلت للزملاء سأعود بعد قليل، يكون الفلم قد انتهى من عملية التحميض.

كنت فرحاً كطفل صغير، وكيف لا أفرح... ما أجمل أن يرى الإنسان نتائج عمله وخاصة أن لهذا العمل روحاً ونكهة عزيزة غالية وذات مغزى لقلبي وقلب كل عربي، فالمقاومة كانت أمل كل عربي.

عدت إلى معمل التحميض بسرعة بعد أنْ تناولت سندويشة الفلافل.

أين الفلم يا شباب أعطوني النيكاتيف، لم يجبني أحد...؟ كررت سؤالي وطلبي... لم يرد علي أحد...؟ كررت كلامي مرات عديدة، لم يرد علي أحد.. لحظات صعبة وقاسية كانت تمر.

وأتت لحظة تمنيت أن أطلق الرصاص على كل الموجودين المعنيين ولكن... على من أطلق...؟ على آلة التحميض أو على من يشغلها...؟

من بعيد قال أحدهم: آسفين لقد انقطع الفيلم في آلة التحميض...؟؟!!

هكذا وبكل بساطة قالها الزميل...؟؟؟!!!

اليوم زغرد رشاش الثورة الارترية لم أرَ منه سوى الوميض المتواصل الموصول ببعضه على العدو الأثيوبي وكتل النار المتصاعدة من المعسكر.

وتساءلت في نفسي وأنا أركض كالغزال:

أين ذهب الجمل وآلة التصوير وبقية العفش...؟ والله لا أعلم كما لا أعرف المسافة التي قطعتها مع رفاقي وسط الشوك والحجارة، لذيذة الذكريات.

وأفيق من تساؤلي وأنا أستظل بظل شجرة التاواي الكبيرة حيث أمضينا يومنا الطويل في انتظار وترقب حدة الشمس أن تخف حتى نتوكل ونتابع السير.

وأزفت الساعة وابتدأنا السير وكانت الساعة حوالي الثالثة بعد الظهر، وبدأ العرق يتصبب من جبيني وأنا أرفع قدمي بكل قوة ونشاط وتساءلت:

ما هذه الأرض وما هذه التضاريس...؟ إنها الصحراء بذاتها.

بدأ الهواء وحبات الرمل الناعمة تضرب وجوهنا، إلا أن شدة الحر خفت نسبياً وغابت الشمس وظهر القمر والنجوم وأخذت أراقب البرق من بعيد، لقد كنا على مقربة من الساحل والآن وقت الأمطار هنا، نظرت إلى القمر متمتعاً به وتساءلت في داخلي:

إنه الآن في وطني يشع كما يشع نوره هنا، ما أجمل الحرية، إن الفارق بين بلدي وبين هذه البلاد كبير وكبير جداً، إن أجدادنا وآباءنا أعطونا الحرية، الأرض والأنهار والجبال، أعطونا إياها سليمة معافاة، يرفرف علم الحرية وعلم الاستقلال... رحم الله شهداءنا.

هكذا عشت وهكذا فعلت.

Top
X

Right Click

No Right Click