خاطرة قصة ولا في الأساطير

بقلم الأستاذ: حسين رمضان - كاتب ارتري

بطلتها حواء البركنتياوية.. بنت الشهيد وشهيدة العرض والوطن. قصة تحكي واقعاً مريراً

عنيفاً قد لا يعرفها الكثير منا أو حتى سمع بقصتها.. إنها زهرة مفتحة في بستان العفة والشرف مهرت حياتها دفاعاً عن دينها وعرضها وأرضها.. حوت مشاهد مؤلمة وصور مذهلة.. قصتها لا تروى من خيال كاتب روائي ولا قاص حكاياتي.. ولا كاتب ومحلل أجتماعي أو نفساني.. إنها واقع عيان بصورة خيال..

انها تلك الفتاة اليافعة الندية التي اغتالتها يد آثمة عبثية ونفس شريرة وهي غضة نضرة وفي ريعان شبابها.. وجريمتها أنها دافعت بقوة وبسالة عن إغلى شيء تملكه ألا وهو عرضها وشرفها وعفتها فضلاً عن وطنها وإنسانيتها... فبإبائها رفضت إلا أن تكون شهيدة المعاني السامية والهمة العالية الرفيعة فتوجت رأسها بتاج القوة والمنعة افتخاراً وانتصاراً.. وصدرها بوسام الشرف والعفة.. ووطنها بروح الفداء والتضحية... فيا لها من نفس أبية ومنعة قوية.. فتاة بقلب ألف رجل شجاع يصول ويجول في ساحات الوغى فهل رأيتم مثلها أو سمعتم بقصتها.. إنها علم من أعلام بركنتيا يتوهج في سماءها نوراً مبيناً..

فتاة في عمر الزهور كانت تعيش مع أهل والدتها بسلام وأمان وديعة مطمئنة بعد استشهاد والدها بيد الغدر والخيانة على يد فلول الجيش الاستعماري الاثيوبي بعد الحريق الثاني الذي تعرضت له منطقة بركنتيا، والمسافة بين مقر أهل والدتها وبركنتيا قريبة جداً لا تتجاوز بضع كيلومترات..

وتفاصيل القصة تبدأ حين عاد أحد أعمامها عليه رحمة الله وهو الآن ميت، إلى بركنتيا من رحلة استشفاء في اسمرا حيث أجريت له عملية جراحية وقد تكللت بالنجاح ولله الحمد.. فبعد أن سمعت البنت وأمها بخبر عودته.. بادروا بعيادته ومن العادة المتبعة عند الناس في ذلك الوقت إذا مرض شخص من العائلة أو شفي يؤتى إليه ببعض الهدايا وغالباً ما تكون شيء من الفواكه المتنوعة أو السمن والعسل لدعم مناعته واسترداد عافيته فأعطت الأم الرؤوم للفتاة سلة من الفواكه وأمرتها أن تذهب بها إلى عمها في بركنتيا..

وفي ذلك الوقت كانت البلاد مضطربة بانتشار وحدات من الجيش الاثيوبي وهو في حالة استنفار في جميع الجهات بحثاً كالعادة عن الثوار، والسكان كانوا لا يبالون بهم لأنهم ألفوا هذه المشاهد.. وفي ذلك اليوم الموعود والفتاة حاملة سلة الفواكه في رأسها ودعتها أمها متمنية لها سلامة الوصول.. ولكن قلب الأم لم يكن ليطمئن لفراق فلذة كبدها وقرة عينها لا سيما في ظل تلك الظروف المحيطة بهم فكانت تراقبها بعين رأسها وقلبها ومشاعرها وبنتها تخطو خطواتها حثيثة في اتجاه بركنتيا..

طفلا والآب ويفصل بين المنطقتين وادي وهو شبه منحدر.. فعندما وصلت الفتاة إلى ذلك الوادي ويسمى باللغة المحلية (محاد) فكان يراقب حركتها ذئب وحشي من مجندي الجيش الأثيوبي فراودته نفسه الشريرة اللحاق بها.. والأم لا زالت بين الفنية والأخرى تراقب خط سير ابنتها.. إلى أن توارت عن أعينها في الوادي المنخفض ولم تخرج منه وهنا تعكر خاطرها وساورتها الظنون بأن شيء ما حدث لأبنتها وهي حتى اللحظة لم تخرج من ذلك المكان.. وقد لحق بها ذلك الوغد المجند وحاول أن ويفترسها..

ولكنها تعرضت له بكل قوة وبسالة ولم تستلم بل أشبعته ضرباً بيديها وركلاً برجليها.. حينها جن جنونه وتطاير الشرر من عينيه وطاشت الشهوة الحيوانية في عقله فأراد أن يهددها بسلاحه.. ولكنه تفاجأ أنه أمام قوة وإرادة فولاذية مستقوية بالله للدفاع عن شرفها وعرضها فلم تستكين وتستلم كما توهم ذلك الحقير... فهجمت عليه كالأسد الهضور وانشبت في رقبته اظافرها فخر أمامها ذليلاً.. فما كان منه إلا أن استخدم سلاح العاجز (سونكي بندقيته) فغرسه في صدرها ففجر شرايين قلبها فتلطخ بدمائها الطاهرة وهرب يهيم على وجهه من شدة ما أصابه من الذعر..

وفي تلك اللحظة أحست الأم بأن مكروه ما أصاب ابنتها فتنادت مع جيرانها وذهبوا إلى الموقع وإذ بأبنتها العفيفة قد لفظت أنفاسها وصعد روحها الطاهرة المطهرة إلى بارئها.. فوصل الخبر إلى قائد الجيش في المنطقة وهو مسلم الديانة، فاستدعى جيشه فورأً إلى الموقع بالنفخ في (صفارة الطوارئ)، فحضر الجميع في دقائق معدودات ينسلون من كل حدب وصوب ولم يستطيع ذلك المجرم أن يخفي آثار جريمته حيث أراد الله له أن يكشف على رؤوس الخلق فأتى وهو ملطخ بدماء الشهيدة ليثبت عليه جرمه بشهادة هذا الدم على ملابسه، كما شهد عليه زملاؤه ممن كانوا حول المنطقة وشاهدوا الحدث..

فاصدر القائد العسكري قراره عدلاً بأن يقتل ذلك الجندي المجرم قصاصاً وفوراً في نفس المكان رمياً بالرصاص وأمام المواطنين ليشفي صدور قوم مؤمنين ويكون عبرة للآخرين وفعلاً تم ذلك، ثم قال القائد للمواطنين خذوا انتم جنازتكم فادفنوها ونأخذ نحن جنازتنا وندفنها وهذه بتلك.. ثم أردف قائلاً لا تتركوا بناتكم يخرجوا في هذه الأيام لأن هؤلاء الجنود أتوا من ادغال اثيوبيا وهم وحوش كاسرة وصفتهم أقرب للحيوانية من الإنسانية.. ويبدو على بناتكم مسحة جمالية ويفتتنوا بهن هؤلاء الجنود وبالتالي يكن عرضة للتحرش أو أذيتهن.. فخذوا حذركم وليبلغ الحاضر الغائب.

فما أجمل أن يموت الإنسان في سبيل الله دون دمه وعرضه وأرضه.. بل هذه الموتة الشريفة تعتبر حياة وليس موت... قال الله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون) وقال رسول الله صلى الله وسلم في الشهداء "من قتل دون دمه فهو شهيد". أو كما قال. اللهم اغفر لها وارحمها واسكنها الفردوس الأعلى. آمين.

Top
X

Right Click

No Right Click