توق الإرتريين للحرية والديمقراطية اليوم قد فاق حلمهم بالأمس للحرية والاستقلال فما الذي أحدث هذا الانقلاب في المفاهيم؟

بقلم الأستاذة: حنان عبدالله

سجلُ الشعوب في كل مكان هو الذي يعكس معاناتها وبطولاتها وينقل تجاربها للأجيال.

ومعاناة شعوب العالم الثالث كانت نتيجة الاجتياح الغربي لدوله التي قسَّمَتْ أراضيه وشعوبه بشكل تعسفي لترسم الدول لهم حدوداً تفصل الأخ عن أخيه، لتضحي العائلة الواحدة موزعةً بين أكثر من دولة واحدة. ولأن سياسة المستعمرين سعت لنهب موارد وخيرات تلك المستعمرات ولم تهتم بإنسانه، عانت شعوبٌ كثيرةٌ من ويلاتٍ لا حصر لها.

ولأن رغبات سكان إفريقيا وآسيا ومعهما أمريكا اللاتينية في العيش بكرامة وبحرية كانت تتعارض مع السيطرة الغربية التي اتسمت بمحاولات طمس الهويات الوطنية والثقافات الخاصة بالسكان الأصليين، عمدتْ ذاتُ الدول الاستعمارية تلك إلى تجهيل الأفراد والجماعات وإفقارهم بتبني سياسة فرق تسد أملاً في تشتيت الطاقات البشرية حتى لا يتسنى للفقراء التفكير أبعد من تأمين قوت يومهم.

وإرتريا والحالة تلك، لم يكن وضعها استثنائياً، بل كان أكثر تعقيداً بسبب عوامل شتى، بعضها داخلي والبعض الآخر كان نتيجة مصالح أجنبية جعلت من البلاد وشعبها كبش فداء للصراعات الاستراتيجية للقوى العظمى. وتمثل ذلك التآمر في صيغة ربط إرتريا في اتحاد فيدرالي مع إثيوبيا، بدلاً من منح الإرتريين أسوة ببقية المستعمرات الإيطالية، الصومال وليبيا، حق تقرير المصير ليختاروا مستقبلهم بأنفسهم.

ودون الخوض بعمقٍ في مراحل النضال التي خاضها الشعب الإرتري موحداً لنيل استقلاله والذي استمر لحوالي 5 عقود، يمكن القولُ هنا وبإيجازٍ أن إرتريا تحررت وأخذت مكانها بين الأمم بعد تضحياتٍ جسيمة قدمها الإرتريون، كلُ الإرتريين دون استثناء. وبطبيعة الحال، لم يتوقع عاقلٌ ما في أي مكان من العالم أن تتعثر تجربة شعب عظيم بعد أن تمكن من إجبار أعدائه بقبول إرادته في الحرية والانعتاق وتكوين دولته الوطنية بصموده وليس بمنحه هبة من أي جهة.

نحن الإرتريين وأصدقاءنا في كل مكان توقعنا عشية الاستقلال أن قيادة الفصيل الثوري الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا، قد تعلموا الكثير من الدروس من تجارب الآخرين، خلال النضال، فيما يتعلق بشؤون معالجة صعوبات الدولة الوليدة وامتلكوا بالتالي رؤية وتصور واضحين عن كيفية إدارة الشؤون الداخلية لشعب أرقهته الحروب الطويلة وفي ذات الوقت إمتلاك سياسية متوازنة في مجال العلاقات الخارجية.

ولكن الحكومة المؤقتة، وللأسف لم ترتق لا إلى مستوى طموح المواطنين ولا إلى توقعات الأصدقاء. فبدلاً من فتح الباب أمام كل الفصائل الوطنية التي ساهمت في عملية التحرير في فترات مختلفة ودعوتها للمشاركة في مسيرة بناء البلد الذي دمرته حروب طويلة، أعلن "الرئيس" إسياس أفورقي بعيد الاستفتاء وإعلان الاستقلال: "أنه لا مكان في إرتريا لأي تنظيم باستثناء الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا التي دخل جيشها العاصمة أسمرا بعد اندحار الجيش الإثيوبي في مايو 1991م.

في اعتقادي، بدأت ورطة البلاد السياسية منذ تلك اللحظة. فقد كان الأجدر بإسياس أفورقي المنتصر والذي احترم الشعب الإرتري الدور الذي لعبه الرجل في مراحل النضال السابقة سلباً وإيجابا مع غيره من المناضلين وكانت توقعات الجميع أن يتم معالجة مشكلات مرحلة الكفاح المسلح عبر الدعوة إلى مؤتمر مصالحة وطنية شاملة والتوجه إلى وضع أسس نظام دستوري يعزز مساهمة كل المواطنين في عملية بناء دولة مؤسسات.

وأخذاً في الإعتبار حالة الإحباط الكبيرة التي حدثت لنا نتيجة الفشل الذريع للحكومة الإرترية وعجزها عن تلبية أبسط توقعاتنا، ينطرح أمامنا سؤالٌ مفاده: لماذا تعثرت مسيرة بناء الدولة عندنا خلال الربع القرن المنصرم؟ ولماذا أضحت بلادنا معزولة وطاردة لإبنائها الذين يهربون منها طالبين اللجوء في شتى القارات ؟

قطعاً تتعدد الأسباب التي أدخلت إرتريا إلى الورطة التي تعيشها، فهناك ولا شك عوامل موروثة من المرحلة التي سبقت إعلان الدولة المستقلة حيث كان اقتصاد البلاد قد دمر بالكامل ولم توجد في البلاد أي مؤسسات يعتمد عليها للانطلاق إلى الأمام لبناء أسس الدولة العصرية. مع ذلك، فإن فترة الربع قرن التي اعقبت إعلان الدولة الإرترية المستقلة حتى اليوم كانت كفيلة للتخلص من تلك المعوقات الموروثة والتوجه صوب وضع لبنات وطن يتطلع للتطور والازدهار من الصفر.

إذن ينطرح أمامنا في هذه الحالة سؤالٌ آخر على نحو أكثر إلحاحاً: ما الذي حدث حتى تأتي نتائج ثورة عظيمة انخرط فيها كل الشعب وقدم الغالي والنفيس لتحقق الاستقلال بنتيجة محبطة وعكس كل التوقعات ؟

وللحصول على جواب متكامل على هذا السؤال المحوري علينا أن نتابع التطورات التي اعقبت الاستقلال وعلينا أن نرصد مواقف حكومة الرئيس "إسياس أفورقي" تجاه قضايا وطنية ودولية.

ففي الأشهر الأولى من عام 1993 أعلن الرئيس إسياس أفورقي عن عدم السماح لأي قوى سياسية إرترية من خارج حزبه من الدخول إلى إرتريا لممارسة أي نشاط سياسي والسماح لقيادات تلك التنظيمات فقط الدخول إلى البلاد كأفراد.

حنان عبداللهوبدلاً من مد يد المصالحة للجميع، قامت سلطات الأمن بحملات اعتقال عدد كبير من معلمي المعاهد الإسلامية على فترات وزجت بهم في السجون دون محاكمات. ولم يتوقف الأمر عند اعتقال الشيوخ والمعلمين الاسلاميين، بل تعدى الأمر إلى اعتقال طائفة مسيحية بحجة رفضها التصويت في الاستفتاء. واستمر الحال مع كل الطوائف على نحو مخيف. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل قامت الحكومة بتبني سياسات داخلية مثيرة للجدل منها على سبيل المثال التغيير الذي أجرته في التقسيمات الإدارية لتصبح البلاد مقسمة إلى ستة أقاليم والذي أدى إلى إلغاء محافظات بإكملها من الوجود وتوزيع بعض آخر على أكثر من إقليم واحد.

من جانب آخر، نجد مرسوم الخدمة الوطنية الذي صدر في السنوات الأولى للاستقلال والذي وجد استجابة وترحيب كبيرين في أوساط الشباب وذويهم، تحول مع الوقت إلى عامل نفور وخلاف مع الحكومة لكونه أضحى مفتوحاً لعشرات السنين على عكس السنة والنصف التي توقعها الشعب. وهكذا تحول قرار الخدمة الوطنية إلى كارثة حيث، مع الوقت وطول أمد تلك الخدمة، وإقفال جامعة أسمرا، قرر الشباب هجر إرتريا والفرار من جحيم تلك الخدمة والبحث عن فرص دراسة وعمل في دول أخرى.

أما إذا انتقلنا إلى البعد الخارجي للسياسة التي تبنتها حكومة "الرئيس" إسياس أفورقي، ودون الخوض في تفاصيل كثيرة، فنحن نلاحظ إنها اتجهت إلى تصعيد الخلافات بدلاً من تهدئتها. فقد شهدت علاقات البلاد مع دول الجوار، السودان واليمن وجيبوتي وأخيراً إثيوبيا توترات خطيرة وفي مراحل مختلفة. وبغض النظر عن الأسباب الحقيقية ومن الجهة التي تسببت في حدوث تلك النزاعات، وأخذا في الاعتبار هشاشة الدولة الإرترية الوليدة، كان يفترض من إرتريا تبني سياسة عقلانية وتصالحية مع الجميع وليس العكس.

تأسيساً على كل ما تقدم من كلام، وتذكيراً برفض "الرئيس" أفورقي العمل بمحتويات دستور 1997 الذي وضع أسس بناء دولة مؤسسات تمكن الشعب من إختيار ممثليه ومتابعة أداء الحكومة، يمكن القول أن المشي في الطريق الخاطيء قد بدأ من هناك وبالتالي كل حدث جاء بعد ذلك كان محصلة ذلك الخطأ القاتل الذي ابعد النظام عن شعبه ليدخل الفريقان في مواجهة مفتوحة وخطيرة.


بالنتيجة، فإن ما حدث في مدرسة الضياء في نهاية شهر أكتوبر المنصرم وقبلها مع المدرسة الكاثوليكية التابعة للفاتيكان وجامعة أسمرا والمعاهد الإسلامية وغيرها، لايمكن النظر إليه بمعزل عن تلك السياسات الخاطئة والمدمرة التي اتبعتها حكومة أسمرا الاستبدادية.

كيف يجب تسويق حدث مدرسة الضياء ؟

لقد عبر الإرتريون في كثير من الدول عن رفضهم لسياسة الحكومة تجاه مدرسة الضياء بأسلوب حضاري وبعيداً عن خلق اصطفاف طائفي وهذا أمر جدير بالاحترام والتقدير.

ولكن المطلوب من قوى المعارضة الإرترية في خارج إرتريا العمل بشكل منهجي ومرتب لإيصال معاناة المواطنين في داخل البلاد للقوى المؤثرة وخاصة في أوروبا وأمريكا لممارسة مزيد من الضغط على النظام الديكتاتوري لينصاع لإرادة الشعب. ويكون من الأهمية البالغة أن تتجنب التنظيمات المعارضة الإرترية عرض مشكلات الداخل مع النظام مثل ما حدث مع مدرسة الضياء أو غيرها في قالب أو ثوب طائفي أو إقليمي، لأن ذلك سيكون لصالح استمرار إسياس أفورقي على السلطة.

وإلى لقاء في مقال آخر، مع الشكر.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click