افادات شاهد العصر دان كونيل عن بواكير انضمام أسياس أفورقي الى الكفاح المسلح - الجزء الخامس
بقلم المهندس: موسي عَوِلْ خير - كاتب إرتري
تغيير إتجاه البوصلة Compass Direction Change
يقول السيد كونيل: إن الظروف الميدانية فى الثمانينات لعبت دورًا محوريًا في تغيير نظرة الحزب،
فإن الأمور سرعان ما ساءت بنهاية عقد السبعينات، الحملتان العسكريتان الإثيوبيتان الأطول والأكثر تدميراً جرت في عامي 1982 و 1983، ثم في منتصف الثمانينيات، اجتمعت الحرب والمجاعة لخلق أزمة بشرية ذات أبعاد لا يمكن تصورها، فانحدر الوضع إلى حافة المجاعة مما تسبب فى فرار ما يقارب 360 ألف لاجئ إريتري إلى السودان، ومئات الآلاف نزحوا داخليًا، فقامت الجبهة الشعبية عبر ذراعها الانسانية - جمعية الاغاثة الارترية Eritrean Relief Association(ERA) - بإطلاق عملية إغاثة عبر الحدود السودانية، وبحلول عام 1984م كانت ERA مسئولة من تغذية أكثر من 100 ألف شخص في ثلاثين مخيمًا داخل الاراضي الإريترية.
ليس من المستغرب أن يكون لهذا الوضع الكارثي تأثير كبير على التعبئة السياسية لحزب الشعب، حيث كان الناس منشغلين تمامًا بالبقاء على قيد الحياة، كما قال لي أحد الكوادر المحبطين في ذلك الوقت "لا يمكن أن يتغذى الناس على الإيديولوجيا"، ومن العوامل التي عززت الاعتدال في السياسات الاشتراكية الراديكالية، نهاية جبهة التحرير الإريترية والتي شجعت الجبهة الشعبية أن تكون أكثر شمولية، بالاضافة الى أن سلوك بعض الحكومات والحركات الاشتراكية داخل اثيوبيا وخارجها والذي ساعد على تقويض الثقة في شعارات اليسار - هذه العوامل مجتمعة -عززت نهجًا أكثر براغماتية للسياسة داخل الجبهة الشعبية بالاضافة الى المزيد من الانفتاح على التجريب، خصوصاً وأن القدرة على التركيز بشكل ثابت على الالتزام بالتحرر الوطني، بغض النظر عن الأدوات الإيديولوجية أو السياسية المناسبة لدفعه، هي من السمات الحصرية للجبهة الشعبية لتحرير ارتريا.
نظراً لتوسع التنظيم فى عضويته وانتشاره الجغرافي، فإن سرية الحزب جعلت عقد الاجتماعات الرسمية أمراً بالغ الصعوبة، ونتيجة لهذه الصعوبات تم اتخاذ الكثير من القرارات في السنوات الأخيرة بشكل غير رسمي، كما أدى ذلك إلى قلة المساءلة التنظيمية، وبالرغم من هذه الصعوبات، فقد انخرط الحزب في عملية تفكير مستمرة طوال هذه الفترة، وان نتائج هذا التفكير عبرت عن نفسها بشكل جلي في المؤتمر السري الثاني للحزب المنعقد في أواخر عام 1986 عندما قام بغيير اسمه من (حزب الشعب الثوري) إلى - الحزب الاشتراكي الإريتري Eritrean Socialist Party (ESP) - حيث اعتمد برنامجًا اجتماعيًا أكثر ديمقراطية.
انعكس هذا التحول في توجهات الحزب على أعمال اللجنة التحضيرية للمؤتمر الثاني للجبهة الشعبية لتحرير ارتريا المنعقد في مارس 1987م، حيث قامت اللجنة التحضيرية بتعميم - مسودة برنامج وطني ديمقراطي - على المقاتلين وعضوية المنظمات الجماهيرية، لإبداء محلاحظاتهم، كما وضع الحزب قائمة خاصة به لانتخابات التنظيم، ومن بين التغييرات التي تم إدخالها على البرنامج السياسي الذي تم تبنيه فى المؤتمر الاول فى 1977م، حذف الإشارة الصريحة إلى "الإمبريالية" و "الصهيونية" والتعبير عنها بتلميحات على شاكلة "القوى الاجنبية المعادية لاستقلال إريتريا" تغيير مصطلح "جماهير العمال والفلاحين والقوى الديمقراطية الأخرى" إلى مصطلح "الشعب"، تغيير المنظمات الشعبية "المعادية للإقطاع والمناهضة للإمبريالية" إلى "الجمعيات القومية"، والأهم من ذلك كله أن حقوق "الأحزاب السياسية القومية" مكفولة بشكل صريح، ومن بين التغييرات فى السياسة الاقتصادية تم تشجيع الرأسماليين الإريتريين على إنشاء المصانع والمؤسسات دون التقيد بحجم الاستثمار، كما تم التركيز بشكل أكبر على الجوانب الانسانية كالاهتمام بحقوق الإريتريين المقيمين بالخارج، مع انخفاض الجهد التعبوي قليلاً، كان النمط الأكثر أهمية في هذه التغييرات هو الالتزام الصريح بالسياسة متعددة الأحزاب، بعد المؤتمر مباشرةً، تم مراجعة برنامج التثقيف السياسي للمنظمات الجماهيرية والمقاتلين، فبدلاً من أن كانت الوحدات تجتمع ثلاث مرات أسبوعيًا، أصبحت تلتقي مرة كل أسبوع، كما تم تغيير منهج التربية السياسية إلى دليل جديد نشر في عام 1989م ليحل محل دليل السبعينيات، أخذ التحول فى محتوى التثقيف السياسي وكثافته وقتاً طويلاً وفقاً لما ذكره المناضل والمؤرخ/ ألم سقد تسفاي، ثم يردف قائلاً: لقد كان التثقيف السياسي في تراجع خلال السنوات الأخيرة من النضال، وأن الماركسية فقدت جاذبيتها بالنسبة للعديد من المقاتلين الجدد الهاربين من الخطاب المماثل لنظام منقستو (الدرق) - والأخطر من ذلك - حتى أن المحاربين القدامى كانوا يشعرون بخيبة الأمل من الإيديولوجيا القديمة بسبب التدخل السوفياتي، والانخراط العسكري المباشر لكوبا واليمن الجنوبي، والتخلي الصيني عن قضية إريتريا، الأمر الذي دفع بالجبهة الشعبية للنأى بنفسها عن الماركسية المتشددة... انتهى كـــــلام السيد كونيل.
تعقيب: الآن حصحص الحق، فبعد خمسة عشرة عاماً من أدلجة الثورة - وهذه ليست مشكلة - بل الكارثة أن تكون هذه الأدلجة بذاك الشكل الراديكالي الاقصائي المتطرف، بحيث لا تقبل أي أيديولوجيا بجوارها أو حتى مجرد رأي آخر، بعد كل هذه الفترة أدركت قيادة حزب الشعب الثوري بأن الصراع بحاجة إلى إدارة أكثر منها لأيديولوجيا - وكأنهم تنبأوا بأن جيلنا سيأتي بعد حوالي أربعة عقود ويطرح السؤال الذي طرحناه فى إحدى الحلقات السابقة وهو: هل أولية الثورة كانت فى حاجتها لإدارة صراعها مع العدو أم لأيديولوجيات تحارب بها الموروث الارتري قبل محاربتها العدو ؟ - عموماً أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي، هاهم الآن وفى منتصف عقد الثمانينات وصلوا إلى القناعة بضرورة التركيز على إدارة الصراع وليس أدلجته بذاك الشكل المتطرف عندما حاولوا إلباس الشعب الارتري (الثائر بطبعه) جلباباً عابراً للقارات، هذا الموقف يذكرني بتلك القصة بين السكير والخياط عندما طلب السكير من الخياط أن يفصل له قطعة صغيرة جدا من القماش بنطالاً فقال له الخياط لا يمكن ذلك، فرد عليه السكير "اتصرف" فتصرف الخياط ليفصلها على مقاس النملة، وعندما ذهبت حالة السكر جاء الرجل ليستلم البنطال فناوله إياه فقال: كيف لي أن ألبس هذه القطعة الصغيرة فرد الخياط "اتصرف"، هذا ما حدث بين الشعب الارتري المناضل المعتد بإرثه الشعبي فى ادارة شئونه وبين قيادة حزب الشعب الثوري، لذا وبمجرد أن تدخلت القوى الاشتراكية إلى جانب العدو الاثيوبي فإنهم لفظوها إلى مزبلة التاريخ بعد أن أدركوا أنها مجرد أيديولوجيا لا تصمد لأكثر من عمر رجل (مائة عام) لتنهار فى عقر دارها، وهكذا كانت، فبمجرد أن رفع الدرق شعار الاشتراكية المزيف تنصلت الاشتراكية العالمية من دعمها لقضية الشعب الارتري والذي (على حد رأيهم) وجد الاشتراكية فى الدولة الأم لذا ليس فى حاجة لمقاتلتها لإعتقادهم بأن الشعب الارتري يقاتل لأجل الحصول على الاشتراكية وليست لديه قضية وطن، بل ذهبوا لأكثر من ذلك باتخاذ القرار لمقاتلة هذا التمرد بالوقوف مع الاشتراكية الوليدة فى الدولة المحورية فى المنطقة والتي قامت بإبادة عناصر حزب الشعب الثوري الاثيوبي فى 1976م - قلت لكم هذا النوع من الأيديولوجيا العمياء لا يعرف ماذا يريد، كل همه محاربة عبادة الخالق لعبادة مخلوق ثوري تقوم هذه النظرية الثورية باتخاذه إلاهاً لا يمكن تغييره مدى الحياة والنماذج فى ذلك لا تحصى ولا تعد واستطيع حصر اسماء هذه الآلهة الماركسية ومدة حكم كل منها، فكيف لنا الاعتماد علي مثل هذه الأيديولوجيا ؟.
وهكذا اضطرت قيادة حزب الشعب لتحويل البوصلة نحو الداخل الارتري بتسليط الأضواء عليه لرؤية تفاصيل قدراته التي أعمتهم عنها تلك النظرية العمياء، والتوجه لإدارة الكفاح المسلح والثورة التحررية بالاعتماد على أشواق التحرر والانعتاق من ربقة المستعمر بعد أن خذلتهم الاشتراكية العالمية فى وضح النهار، لكنهم أبقوا على بعضاً من ملامحها، ليس لوجود شيئ مما تبقي من إيمانهم بها كعقيدة، ولكن
أولاً: حفظاً لماء وجوههم أمام الثوار،
وثانياً: ذراً للرماد فى العيون كي لا ترى الدكتاتورية التي كانت بديلاً للاشتراكية فى نظرهم، لأن هناك من وجد فى التنصل من الاشتراكية فرصة للتخلص من هذه النظرية "الجماهيرية" فى الطريق إلى الدكتاتورية، كما سيتضح لاحقاً.
كسرة: فترة التحول هذه دقيقة وحساسة وتحتوي على الكثير من التفاصيل ربما كانت تحتاج لحلقتين أو ثلاثة ولكني آثرت ضغطها فى حلقة واحدة حتى لا أتسبب فى ملل القارئ الكريم، وربما أعود فى وقت لاحق للحديث عنها وعن ذراع البطش والتنكيل بالخصوم السياسيين المسمي بـ (حلاوي سورا) والذي لم يجد حظه من التفصيل بسبب التركيز على الذراع الفكرية والسياسية (حزب الشعب).
قرار حل الحزب The Decision To Dissolve The Party
خلال العقد الأخير من النضال التحريري، تماهى الحزب بشكل كبير مع التنظيم، في خطه السياسي وبرنامجه ومنهجيته وحتى قيادته، وقد صاحب هذا الاندماج توسع العضوية في كلا الكيانين الأمر الذي جعل إدارة الحزب بشكل سري أكثر صعوبة، لدرجة أن قادة الحزب بدأوا في التشكيك في الأساس المنطقي لاستمرارية الكيانين بشكل متوازي، المناضل/ هيلي ولدتنسائي كان من بين هؤلاء القادة، لقد توسع الحزب كثيرًا فأصبح لديه الكثير من المشاكل، صارت خلايا الحزب بعيدة عن المركز، كما بدأت طرق التجنيد غير المنضبطة بالظهور، كأن يجند أحدهم صديقه (فقط لمجرد وجود صداقة بينهما)، بدأنا نرى نقصاً في الكفاءة في فروع الحزب، وبدلاً من أن كانت المهمة الأساسية للحزب هي قيادة الجبهة الشعبية أصبح عبئاً على كاهلها، حتى أدركت اللجنة المركزية للحزب فى نهاية المطاف كل تلك السلبيات فقررت التدخل في عمليات التجنيد والاختيار وبحلول المؤتمر الثاني للحزب عام 1986، خفف الحزب كثيراً مما كان عليه، وبدأت اللجنة المركزية تتساءل فى مدى أهمية استمرار خلايا الحزب.
لقد تحملوا عبئاً أيديولوجياً كبيراً، كثيراً ما كانوا يناقشون مسألة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي مما سبب لهم خلطاً بين الأهداف الواقعية وغير الواقعية، لكن هذا الحزب كان دائمًا يميل إلى أن يكون أكثر براغماتية، وذلك من أجل تحديد برنامج واقعي قابل للتحقيق بدلاً من أن يصبح مثاليًا في نهجه، خلال هذه السنوات، بدأ الحزب في التخلص من بعض سذاجته، بعد أن اتضح له أنه أنه دخل فى التزام للتضحية من أجل مصالح الفلسفة المثالية أكثر من المصالح الوطنية، بالاضافة الى ظهور معوقات العمل السري الذي كان يمارسه، كما أن أعضاء الحزب أصبحوا أقل كفاءة من أعضاء التنظيم غير الحزبيين، وبعضهم أقل انضباطًا حيث أصبح الحزب مخبأً للعناصر غير الفعالة.
كان على الحزب خلال سني عمره الاولى أن يكون سريًا، لأنه كان يعمل في بيئة معادية، لم يتمكن من البقاء ما لم يعمل بشكل سري، إلا أنه الآن وقد أدى غرضه ولم يكن نادٍ لقدامى اللاعبين أو المحاربين، لذا فإن الأسئلة التي كانت تواجههم هي: هل يجب فتح عضوية الحزب لكافة عضوية التنظيم وبالتالي الخروج من الوضع السري ؟
• ماهي الطريقة السليمة لتصحيح وضع الحزب ؟
• هل هناك فجوة بين أهداف الحزب وأهداف التنظيم ؟
• إذا لم يكن الأمر كذلك، فما هي الحاجة لوجود كيانين ؟
كان الاثنان يقتربان من بعضهما أكثر فأكثر، ولم يكن هناك فرق بينهما، لذا طرح السؤال الآتي:
• لماذا لا يكون الحزب لكل الجماهير؟
بحلول العام 1987م أصبحت هناك قناعة بضرورة التغيير، لأنه وبالرغم من أن غالبية أعضاء الجبهة الشعبية لم يكونوا أعضاء في الحزب إلا أنهم الآن يشاركون الحزب أهدافه، كان يعتبر عام 1989 بداية الدخول فى مرحلة جديدة، لذا كان لزاماً على التنظيم أن يحل محل الحزب من أجل السماح ليس فقط لأعضاء الجبهة الشعبية بل كافة الشعب الارتري ككل للعمل من أجل أهداف الحزب، التي أصبحت الآن أهداف الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا.
لم يكن هذا قراراً سهلاً، يعتقد البعض أنه قرار خاطئ، وأن الحزب لن يعود إذا كانوا يوماً في بحاجة إليه، وأن القرار لن يكون قابلاً للإلغاء، كما أن البعض يعتقد أن الحزب امتيازًا سيخسرونه، ولكن ليس من الممكن الاستمرار بهذه الطريقة، خصوصاً أن هناك مجال للانتقال بحيث يشعر كل عضو في الحزب بأنه جزء من هذا القرار؟ لماذا لا تمثل الجبهة الشعبية كلها الحزب ؟ وفىي الأخير تقرر تحويل التنظيم إلى جبهة ذات قاعدة عريضة وليس الحزب.
وهكذا أدى هذا التفكير إلى التفكك الوظيفي للحزب في عام 1989، ثم في المؤتمر الثالث في عام 1994 والذي اتخذ قرار تحويل الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا الى حركة سياسية جماهيرية تحت اسم الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة قام أسياس أفورقي بالاعلان عن الحزب الذي ظل يقود الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا خلال سنوات الكفاح المسلح والذي تم حله بشكل فعلي فى العام 1989م ليتفاجأ الكثير من المؤتمرين بل من قيادات التنظيم الذين لم يكن لهم علم بوجود الحزب، قال: "برونو أفورقي" أحد كوادر الحزب "لم يكن هناك تحول كبير في توجهاتنا، كنا دائمًا حركة ذات توجه اشتراكي، لكن وببطء بدأنا نكون أكثر وطنية، وأكثر اهتمامًا بمصالحنا الوطنية، وفقدنا عددًا كبيرًا من كوادرنا القيادية خلال الحرب، كان لهذا تأثيراً كبيراً، وأخيرًا نضج ليصبح حزبًا قوميًا، ثم قمنا بحله لأنه لم تعد هناك حاجة إليه"، وبالرغم من كل تلك المبررات التي تمت صياغتها لحل الحزب إلا أن حله ترك فجوة كبيرة في القيادة السياسية الجماعية خلال سنوات الأولى للبلاد بعد الاستقلال، عندما انتقل مركز السلطة إلى الحكومة الانتقالية الجديدة، حتى المنظمات الجماهيرية التي كانت تنشط فى فترة الكفاح المسلح توقفت عن العمل، حيث انصب اهتمام القيادة على بناء الدولة وتلبية الاحتياجات الملحة لؤلائك السكان المرهقون، الاحتياجات التي تأخرت كثيراً بسبب الحرب، ثم في المؤتمر الثالث للجبهة الشعبية لتحرير إريتريا في فبراير 1994 تم الاعلان وبشكل مفاجئ حل الحزب وتهميش معظم قيادات الحزب المخضرمة، حيث تولى جيل أصغر مسؤولية المركز الإداري للجبهة المعاد تشكيل أمانتها... انتهى كــــــــلام السيد كونيل.
تعقيب: يقول المناضل/ أحمد القيسي وهو أحد مؤسسي ومنظري حزب الشعب الثوري إن استشهاد الكثير من كوادر الحزب المتميرة كان سبباً رئيسياً لحل الحزب، ومهما تكن الاسباب لا نستطيع إغفال أولائك المناضلين في قيادة حزب الشعب الثوري وتنظيم الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا الذين لم يكن همهم سوى تحرير البلاد والعباد، والذين كانوا وعلى الدوام يبحثون عن أفضل السبل للوصول إلى الهدف الأسمى الأمر الذي كان يدفعهم إلى إجراء مراجعات مستمرة في مناهجهم الثورية، ولو لم يكونوا كذلك لما قاموا بالمطالبة بحل حزب الشعب الثوري الذي تقوده نظرية ثورية ماركسية لينينية موغلة في الانضباط للدرجة التي يمكن توصيفها بالتبعية العمياء للقائد الملهم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لكنهم وبالرغم من كل هذه الشجاعة التي كانوا يتحلون بها إلا أن الاندفاع الثوري لم يمكنهم من ملاحظة أن هناك من يتغذى على أخطائهم ليعمل على تحويل إتجاه البوصلة كلما أرادوا إعادة ضبطها في الاتجاه الصحيح.
يقول المناضل/ أحمد طاهر بادوري فى كتابه: إرتريا.. رحلة فى الذاكرة، يقول: كان الفكر المرشد والفهم الذي على أساسه ستخاض التجربة الحزبية (حزب الشعب الثوري) تنطلق من مبدأ أن التنظيم السياسي أو الحزب الثوري الذي لا يملك أيديولوجيا مرشدة واضحة لا يستطيع أن يكون مالكاً لرؤية ثاقبة ووعي كامل، بل لا يمكنه أن يحدد موقعه من الأحداث ولا أن يدرك طبيعة العلاقة بينه وبين الجماهير الواسعة، فوعي الحزب لنفسه ورسالته ودوره هو شرط أساسي لنجاحه في مهمته الصعبة... ثم يردف قائلاً: ان حزب الشعب الثوري الارتري الوليد أدرك منذ البداية أنه لن يقع في محاذير التصنم والجمود، ويقول بادوري عن المناضل/ أبوبكر محمد حسن وهو أحد أهم مؤسسي ومنظري حزب الشعب: كنا نلقبه فرانس فانون الثورة الارترية.. وا أسفاه.. لم يكتب لـ أبوبكر أن يرى بنات أفكاره وأمنياته وقد أصبحت حقيقة !
نعم أيها المناضل/ بادوري، أنتم لم تقعوا في محذور نحت الصنم فقط بل نفختم فيه روحاً شريرة، ليتكم كنتم تملكون فكراً رشيداً ورؤية ثاقبة ووعياً كاملاً كي لا ينطلي عليكم برج الدكتاتورية الذي بنيتموه لبنةً لبنة، فبدلاً من بناء تنظيم يدرك طبيعة العلاقة بينه وبين الجماهير، فشلتم فى إدراك طبيعة العلاقة بينكم وبين تلك النيران التي تربض تحت الرماد تتربص بكم الدوائر، وااااا أسفاه عليكم أنتم جميعاً فلن ترون بنات أفكاركم ولا أمنياتكم في دولة الحرية والكرامة التي أصبحت هباءً منثوراً، وليس فرانس فانون الثورة الارترية من نتأسف عليه، فإنه أكثركم حظاً أن استشهد فى ساحات الوغى بدلاً من أن يموت ألف مرةٍ ومرة كرفاقه الذين يقبعون خلف القضبان فى مهزلة تاريخية لا يوجد فى التاريخ مثيلاً لها، محظوظٌ من لم يَرَ حصاد الصبار، بل أشدُّ وأمر، فمن الصَبَّار ما فيه شفاء من كل داء، ومن حظي أنا أن جئت اليوم لأكتبكم بعد ستون عاماً قضيتم ثلاثون منها وأنتم تحرثون فى الماء، ثم ثلاثون أخرى تم حراثتنا فيها جميعاً، فلا تأسفنَّ على فرانس فانوننا فكفى به شهيداً، وكفى بنا على الجميع شهوداً.
إلى اللقاء... في الجزء القادم بمشيئة الله