الشنقالي طقس بلوغ الرشد لدى إثنية البلين الإريترية
بقلم الأستاذ: محمود أبوبكر - صحافي مختص في شؤون القرن الافريقي المصدر: اندبندنت عربية
التقليد التراثي للمهرجان لم يعد سارياً في معظم مناطقهم منذ نهايات الخمسينيات.
يمثل الفلكلور الشعبي أحد التمظهرات الأثيرة لمجموعة من الثقافات والحضارات التي سادت في مناطق مختلفة من العالم، ويكشف كذلك عن جوانب مهمة لشكل الحياة وطقوسها من خلال جملة من التقاليد والفنون الشعبية التي تمثل رصيداً مجتمعياً بارزاً في تنوعه وتعدده.
ولعل مظاهر الثراء المجتمعي الذي تحفل به إريتريا على رغم صغر حجمها الجغرافي تتمثل في تعدد لغاتها وثقافاتها الشعبية التي تعود لآلاف السنين.
وتعد إثنية البلين من المجموعات السكانية التي تحتفظ بلغتها الكوشية الأصل وما يرتبط بذلك من التقاليد والأعراف والنظم الاجتماعية والقانونية، فضلاً عن الطقوس الراسخة في القدم.
وبحسب الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية، فإن إثنية البلين تنحدر من الأسرة الكوشية، وقد تم ذكرهم في عدد من المراجع والمصادر التاريخية القديمة، لعل أهمها ما ذكره الرحالة ومؤسس علم الجغرافيا القديمة أبو عبدالله الإدريسي (المتوفى عام 1165م) في مؤلفه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، إذ أورد نصين عنها، الأول عند الحديث عن مدينة أسوان جاء فيه، "ربما أغار على أطرافها خيل السودان المسمين بالبلين. ويزعمون أنهم روم وأنهم على دين النصرانية من أيام القبط، وهم منتقلون في ما بين أرض البجة وأرض الحبشة ويتصلون ببلاد النوبة".
أما النص الأخير الذي أورده الإدريسي عن البلين، فجاء فيه، "وبين أرض النوبة وأرض البجة قوم رحالة يقال لهم البلينيون، ولهم صرامة وعز، وكل من حولهم من الأمم يهادنونهم ويخافون ضرهم، وهم نصارى على مذهب اليعقوبية، وكذلك جميع أهل بلاد النوبة والحبشة".
وبعد ثلاثة قرون، أكد ابن الوردي بعض ما ذكره الإدريسي عن البلين، سواء في صفاتهم أو مناطق وجودهم القديم، فيما ذهب المؤرخ كراوفورد روسيني إلى أن موقع وجودهم الحالي في إريتريا، إذ بعد تواريخ طويلة من الترحال والتنقل وإقامة عدد من الممالك استقر بهم المقام وسط اريتريا (إقليم السنحيت).
وروسيني رجح أن وجودهم في هذه المنطقة يعود للقرن الـ10 الميلادي، وهو الزعم ذاته الذي يذهب إليه الباحث الإريتري الدكتور إدريس جميل في مؤلفه "تاريخ البلين: الماضي والحاضر"، مشيراً إلى "مخطوطة ابن القلاقس" التي حددت بشكل واضح موطن البلين الحالي.
بين المراهقة والرشد:
يقول المتخصصون عن لغة البلين التي تعد إحدى أقدم اللغات الكوشية، إنها تفرد مساحات مهمة لتطور الفرد ومراحل تنقله من سن إلى أخرى، إذ يطلق على من بلغوا عمر 13 سنة، مسمى "وجزات" إلى حين بلوغهم عمر 15 سنة، فيطلق عليهم "قلحيت" بينما في الـ17 يطلق عليهم "مندليت"، وعند اكتمال الـ20 يطلق عليهم مسمى "مكليت".
هذا الثراء اللغوي في تحديد المراحل العمرية يقابله تعاطٍ سلوكي مختلف في تراث البلين لكل فئة عمرية سواء من حيث المظاهر الاحتفائية أو لجهة الوظائف المنوطة بكل مرحلة، إذ لا يحق لمن هم دون الـ18 سنة حضور المجالس أو إبداء رأيهم في إدارة شؤون العامة، كما لا يحق لهم تاريخياً المشاركة في الغزوات أو صدها أو حتى التقدم بطلب الزواج قبل إكمال طقوس "الشنقالي" الذي يعد بمثابة اختبار تقليدي لاجتياز مرحلة المراهقة نحو مرحلة الشباب واكتمال الرجولة.
طقوس الشنقالي:
يشير إدريس جميل في مؤلفه سابق الذكر إلى أن هناك تباينات طفيفة في أداء مراسم "الشنقالي" بين فرعي البلين "الترقي والطوقي"، لكنهما يتفقان في مجمل العناصر الأساسية، إذ يعد هذا الطقس الاحتفائي جسراً للعبور نحو اكتمال شروط بلوغ سن الرشد، وبالتالي إحداث تحول في الوظائف المنوطة بمن اجتاز هذا التقليد التراثي، فيسمح له بالمشاركة في الأنشطة العامة كافة، بما فيها المشاركة في المجالس الشعبية وإبداء رأيه فضلاً عن حقه في الزواج وكذلك المشاركة في الحروب.
وتقام مظاهر هذا المهرجان عند "الطوقي" بشكل جماعي، إذ يتم حصر عدد من الشباب البالغين 18 سنة ويوزعون في مجموعات مختلفة للاحتفال بهم جماعياً بعد إخضاعهم لتجارب اجتياز سن المراهقة، فيما يتم بشكل فردي لدى مجموعة "الترقي" بينما لا تختلف الطقوس الأخرى في شيء.
بخصوص المجموعة الأولى يتم اختيار عدد من وجهاء وأعيان المنطقة كلجنة تحكيم لإخضاع المرشحين لجملة من التجارب الحياتية، بما فيها تعريضهم لبعض الصعاب من قبيل إقامة المتاريس الشوكية في طريقهم وملاحظة سبل اجتيازها.
وتبدأ المراسم بشراء الزي التراثي المكون من القميص والسروال والصديري والثوب الأبيض المسمى "سماديت" الذي يلف على الكتف على طريقة حرف (X)، إضافة إلى المنديل الأحمر الذي يلف على العنق وحذاء جلدي خفيف يسمى "مداس".
أما الأكسسورات، فتتمثل في بعض الخرز الذي يربط مثل خزازة في اليد ويسمى "سوميت"، وبعد إعداد الأزياء ينتقل المرشح إلى بيت خاله، إذ جرت العادة أن يشرف الخال على تلبيس ابن أخته وتقديم المباركة والدعوات الصادقة إلى اجتياز الاختبار فضلاً عن إهدائه رأساً من الماشية.
في اليوم التالي تلتقي الجموع ويتم تشكيل مجموعات عدة، ويتم اختيار مسؤول لكل مجموعة مرشحة، إذ يبلغون بالأحكام والأعراف المنظمة لهذه الفعالية التراثية، كما تحدد العقوبات في حال تجاوز أي من تلك الشروط، إضافة إلى تحديد مدة الاختبار.
وطوال مدة "الشنقالي" تتم ملاحظة سلوك كل فرد في المجموعة من قبل الأعيان الذين يرافقونهم، فتقام الاحتفالات التي تشمل الرقص والغناء، فضلاً عن التجارب الحياتية الأخرى التي يخضعون لها، وكذلك تتضمن زيارة الأقارب والجيران، فيمدحون كل من أكرمهم بالاستقبال اللائق وتقديم الأطعمة والشرب ويهجون كل من تخلف عن تقاليد الاستضافة المستحقة.
وبعد انتهاء المدة المحددة تلتقي المجموعات لتجري مبارزات في ما بينها، يشرف عليها الأعيان ووجهاء القبيلة الذين يبتون الأحكام، ووفقاً للملاحظات التي يسجلونها خلال الفترة الزمنية المعنية، فضلاً عن نتائج المبارزات تعلن أسماء الفائزين كما يتم إطلاق مسمى لكل مجموعة يعبر عن إمكاناتها ومدى قدرتها على تطبيق الأحكام واجتياز الاختبار بنجاح، ويظل هذا المسمى مرافقاً لكل فرد في المجموعة، حتى بعد اجتيازه مرحلة الشباب.
ويوضح إدريس جميل أنه في حال وقوع أي حوادث مثل وفاة أحد المرشحين لطقس "الشنقالي"، تؤجل الدورة إلى العام المقبل تعبيراً عن حزن المجموعة على زميلهم، مؤكداً أن ثمة تقاليد أخرى في حال وفاة شاب مقبل على "الشنقالي"، إذ تنجز الطقوس ضمن مراسم الجنازة قبل دفنه، ويشير إلى أنه وجد بعض الإفادات حول هذا التقليد أثناء بحثه، إلا أنه غير متأكد ما إذا كانت هذه العادة تخص مجموعة بعينها في البلين أو كانت حالة عامة.
ويوضح أن هذا التقليد التراثي الأقرب إلى شكل مهرجان البلوغ لم يعد سارياً في معظم مناطق البلين منذ نهاية الخمسينيات، معرباً عن قناعته بأن "الشنقالي" قام بدور مهم في إعداد المراهقين نفسياً واجتماعياً وجسدياً للانتقال إلى مرحلة الرشد والنضوج، إذ إنه يغرس فيهم قيم الرجولة وتحمل المسؤولية.
وينقل في كتابه عن أحد الذين عاصروا فترة الخمسينيات، وهو المعلم محمد نور قايد، قوله "إن هذا التقليد اضطلع بدور أساسي في تهيئة كثير من الشباب البلين لتحمل مسؤوليات وطنية بينها الانضمام إلى الثورة الإريترية في الستينيات، اذ إن المجموعات التي شُكلت للاحتفال بطقس الشنقالي في نهاية الخمسينيات ظلت مترابطة، مما دفعهم للانضمام إلى الثورة في 1964 عندما تم إعلان الكفاح لاستقلال إريتريا".
السمد بديلاً:
وعلى رغم أن عادة "الشنقالي" لم تعد قائمة بشكلها السابق في مجتمعات البلين في إريتريا والمهاجر، فإن أبناء البلين ما زالوا يحرصون على استحضار بعض طقوسها في الزواج، خصوصاً في طقس "السمد والعشل"، إذ تتم ممارسة بعض الطقوس في صبيحة يوم الزواج، سواء على مستوى الأزياء أو الأكسسورات مع إشراف أحد أقاربه على مهمة إلباس العريس والدعاء له وإهدائه بعض المواشي أو الهدايا.
يتحلق أقارب العريس في دائرة كاملة أثناء ارتدائه السماديت (الزي التراثي المتكون من القميص والسروال والصديري والسماديت والمداس) فضلاً عن الأكسسورات المذكورة سابقاً، إضافة إلى السيف وعصا تعرف بـ"عنفا"، وترافقه هذه الأزياء والأكسسورات لمدة 40 يوماً ويكنى بـ"كنتيباي" عوضاً عن اسمه طوال تلك المدة، وقد تم اختصار المدة في معظم المناطق من 40 يوماً إلى أسبوع واحد.
ويسعى البلين المهاجر إلى إحياء جزء من التراث القديم من خلال فعاليات تحرص على ربط الأجيال الشابة بماضي الأسلاف، ولعل المناسبات الاجتماعية مثل الأفراح والأتراح تعد من أهم الفرص لإعادة تمثيل التراث، وكذلك تعمل بعض الإذاعات التي أقامها المهتمون على تقديم إسهامات مقدرة للحفاظ على إحدى أقدم اللغات الكوشية في العالم من جهة، ومن الجهة الأخرى لاستحضار ماضي البلين الذي يمتد من جنوب أسوان المصرية وحتى وسط إريتريا، مروراً بإثيوبيا حيث هناك عدد مقدر من المجموعات المنتمية تاريخياً للبلين، بخاصة في إقليم الأمهرة.