مشكلتنا في ارتريا دور الثقافة في الخلاف - الجزء الثالث والأخير

بقلم الأستاذ: إبراهيم عمر - كاتب ارتري

اين المخرج؟؟؟ في جزء السابق كان التركيز منصب علي دور الثقافة في الخلاف الإرتري الإرتري،

دور الثقافة في الخلاف

اما في هذه الجزء الأخير سنحاول التركيز علي إيجاد المخرج لهذه المشكلة المستعصية والتي كانت سببا في إضعاف الجهود المبذولة لخل ميثاق وطني.

في السابق كانت القبيلة هي الوطن ولم يكن هناك وطن بالحدود المعروفة حاليا، وحيث ما وجدت القبيلة يكون الوطن، وقد يتغير المكان لسبب من الأسباب كالترحال او إتساع رقعة الأراضي التي تسيطر عليها القبيلة ولكن تظل القبيلة هي الإطار الذي يمثل مفهوم الوطن في تلك الحقبة. اما الان فقد تغيرت هذه المفاهيم فبعد قرار سايكس بيكو اصبح هناك واقع جديد ومعه رسمت حدود وظهرت مسميات ودول جديدة لم تكون معروفة من قبل. فتغير معه شكل العالم، عالم لم يعد فيه زعماء القبائل هم الحكام بعد ان استبدلت سلطتهم بحكومات، وحل البرلمان والمجلس تشريعي مكان مجالس القبيلة واصبحت الحركة عبر الحدود مرهونة بجوازا سفر وتأشيرة ...الخ.

لم يعد النظام القديم ساري المفعول فقد عفي عليه الدهر واكل ومعه تقلص دور زعماء القبائل وهذا ما حصل مع الشعب الإرتري كغيره من الشعوب رغم ندرة المتعلمين في تلك الفترة، فقد ادرك قادة تلك المرحلة ان الرهان علي زعماء القبائل ولى زمانه وحانا لحظة التأقلم مع الواقع الجديد ولكن دور زعماء القبائل لم ينتهي الي الابد ومع مرور الوقت بداء دورهم كزعماء في المجتمع يبرز من جديد وسنذكر السبب.

ففي فترة الإنتداب البريطاني (١٩٤٢–١٩٥٨) وهي الفترة التي خرجت فيها الشعوب من تحت عبائة الشماقلي ومعه برزت اسماء قادة وطنين حلو مكان زعماء القبائل. قادة يرفعون راية الوطن بمفهومه الجديد امثال الزعيم ابراهيم سلطان والشيخ الشهيد عبدالقادر كبيري والزعيم إدريس محمد ادم و الشيخ ابراهيم مختار اول مفتي للديار، في هذه الاثناء اتحد اغلب مسلمي ارتريا تحت لواء (الرابطة الاسلامية) وناضلوا من اجل الاستقلال التام والحفاظ علي ارتريا بحدودها الحالية ما عدا بعض الأحداث الشاذة بقيادة بعض الزعماء والتي لم يكن لها وزن حقيقي علي ارض الواقع بعد التغيرات التي حصلت برغم ما احدثته هذه الانقسامات من فتنة في شق الصف المسلم في المنطقة الغربية وفي مصوع.

كل هذا تحقق بفضل الله ثم بفضل قادة تلك المرحلة الذين عرفوا مصدر قوة الشعب الارتري الذي قاوم وصمد امام كل المؤمرات و الاخطار الداخلية والخارجية. لقد ادركوا ان الوحدة هي اساس الكفاح من اجل البقاء ومن غيرها لا قيمة للكفاح مهما بذل من جهد. ولكن لماذا لم يتفق القادة الذين جاؤ من بعدهم وحملو راية النضال وكانوا في طليعة الكفاح المسلح ؟ في رأي المتواضع ان الشعب الارتري بكل اطيافه يمر بمرحلة اشبه بالمرحلة الانتقالية وهذه المرحلة بداءت مع انتفاضة التقري ضد الشماقلي ولكنها لم تكتمل الي يومنا هذا.

هذه المشكلة اي عقلية القبيلة والهيمنة ادت في الخير الي خلق فجوة بين المسيحين الناطقين بالتجرنية وبين بقية المكونات المسلمة، وصراع داخلي اخر بين المسلمين الذين يشكلون الاغلبية في ارتريا من ناحية اخري. هذا بدوره ادي الي اضعاف التماسك القائم بين المسلمين بخلاف المسيحين الذين لا يعانون من صراع داخلي. فالانتقال من حياة القبيلة والتبعية للأسياد و التفاخر والاستقواء بالقبيلة الي حياة الدولة المدنية* والتي هي نقيض لحياة القبيلة لا يتم بين ليلة وضحاها ويتخلله كثير من الاحداث والمنعطفات ويتطلب تقديم التنازلات والاحترام وتقبل ثقافة الاخر مهما كانت من اجل العيش بسلام، والمخرج يكمن في الوعي وتبني ثقافة التعايش السلمي. ففي قانون الدولة المدنية يتساوي الكل اذ لا وجود للطبقية او العنصرية ولا فضل لعنصر علي اخر وتسود فيها روح الديمقراطية وتتعدد فيها الاحزاب والقانون فوق الجميع. عكس الواقع الذي نعيشه الان في ارتريا دولة تتحكم فيها مجموعة عرقية معينة بمفهوم الهيمنة المطلقة وهذا اشبه بحياة الطبقية في العصور الوسطي اذ لا سلطة فوق سلطتهم والدولة دولتهم والبيقة مجرد مواطنين من الدرجة الثانية.

فالانتقال الي حياة المدنية لايكون بتغير المسميات والسكن في المدينة.. الخ فالثورة يجب ان تكون ثورة حقيقة ثورة شاملة تبداء بالثورة علي الافكار والمعتقدات الخاطئة، ثورة علي الاخلاق، اذ لا يعقل ان نثور ضد الظلم والأفكار البالية ومن ثم نتمسك بنفس مفاهيم حياة القبيلة ونمارس الظلم ونتمسك ببعض افكار الجاهلية.

يجب ان نسال انفسنا اولا ما الجدوي من الثورة ضد الظلم والإضطهاد اذا كنا نمارس هذا الظلم ونفكر بهذه العقلية ؟؟ كان من الأجدر ان تكون ثورة شاملة ضد مفاهيم تلك المرحلة، مرحلة الجاهلية والطبقية والعبودية فالتحرر من الأفكار اصعب بكثير من التحرر من التبعية، نعم نجحنا في الخروج من نظام التبعية والأن علينا التخلي عن افكار تلك المرحلة المظلمة.

فالثورة اخرجتنا من عباءة الأسياد ولكنها لم توصلنا الي حياة المدنية. لاننا لم نكمل المشوار، اكتفينا بالخروج ولم نكمل المسيرة فمازلنا نتأرجح بين حياة القبيلة والمدنية والفرق شاسع ومدي قربنا او بعدنا من احدي الدفتين يعتمد علي مدي تطبيقنا وتمسكنا بهذه المعتقدات ومدي تأثرنا بهذه المفاهيم الهدامة في حياتنا.

نعم خرجنا بأرادتنا وهذه خطوة مهمة في الطريق نحو الحياة المدنية ولكن لم نصل بعد وهذا يتطلب معرفة امور كثيرة منها مبادي التعايش السلمي والذي ينظر الي حالنا يدرك مدي المأزق الذي نمر به. شعب ثار علي نظام اقطاعي استمر لقرون ومن ثم ناضل ٣٠ سنة ضد الامبراطورية الأثيوبية والمعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي وكوبا من اجل تحرير الارض والعيش بحرية وفي المقابل لا يجرؤ علي الثورة ضد المعتقدات والافكار التي تمزقه من الداخل.

فتجربة ثورة التقري اشبه بتجربة الطائفة الكاثوليكية. فعندما ارادت الامبراطوية الرومانية الشرقية اتخاذ المذهب المسيحي كدين للدوة، لم يتخلو عن الافكار الوثنية كليا، فقاموا بتحريف المسيحية وجعلوها تتماشي مع افكارهم الوثنية وادخلو عقيدة التثليث والتي هي في الاساس عقيدة وثنية فكانت النتيجة عقيدة مشوهة لا هي مسيحية ولا وثنية، كذلك الانتقال من حياة القبيلة الي حياة المدنية، لم نترك معتقدات القبيلة واردنا انشاء دولة مدنية تحكمها القوانين التي تساوي بين كل المكونات فخرجنا بصورة مشوهة لاتشبه حياة القبيلة ولا حياة الدولة المدنية.

انتفضنا علي الظلم واردنا ان يكون لنا برلمان نناقش فيه قضايا الوطن الذي يتكون من عشرات القبائل يتحدثون تسعة لغات ويعتنقون ديانتين فحملنا معنا افكار القبيلة الي العمل الثورى ولاحقا الي مؤسسات الدولة الحديثة وحاليا الافراد الذين يديرون المشهد في الحزب الحاكم وخصومهم من المقاومة والاحزاب في خارج البلاد يتعاملون مع القضية بنفس العقلية.

وهذا سبب من اسباب التشرذم وعدم الوفاق بين التنظيمات السياسية والتي تشبه في تركيبتها ومسمياتها بتجمعات قبلية اكثر من كونها احزاب السياسية، فنجد تنظيم اغلب اعضائه من مكون واحد او قومية وقس علي ذلك، حتي ان بعضها يحمل اسماء قوميات او مناطق. اما وجود هذه الظاهرة يعتبر قديم قدم الدولة الارترية الحديثة اي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وهي الفترة التي حكمت فيها بريطانيا ارتريا لثماني سنوات. هذه الظاهرة اي مشكلة الاصطفاف القبلي المغلف بغطاء سياسي في الاخير ساهمت في تصدع جسم الثورة المسلحة ضد الاحتلال الاثيوبي بقيادة الشهيد البطل حامد ادريس عواتي تحت مسمي جبهة التحرير الارترية. اما الخلافات الايدلوجية قد تكون حاضرة ولكنها تاتي في المقام الثاني من حيث سبب التشرذم.

هذه الظاهرة فى الاخير اعادت زعماء القبائل الي المشهد من جديد كزعماء لهم اتباع ووزن في الساحة ولكن هذه المرة في الساحة السياسية وهذا ما يحصل حاليا في شرق السودان وقد تنتقل الي ارتريا لاحقا ما لم نتدارك الامر. فالشعب الارتري امام خيارين إما ان يتخلي عن افكار القبيلة و يمضي قدما نحو تأسيس الدولة المدنية ويتبني الافكار التي تتماشي مع حياة الدولة المدنية او يتمسك بالمعتقدات التي ثار ضدها في تسعينيات القرن الماضي ويعود الي المربع صفر.

وفي اي مرحلة يندلع فيها خلاف بين الإخوة او اي طرفين، هناك دوما طرف ثالث مستفيد من هذا الصراع وهذا ماحصل. انشغال الإخوة في الصراع فيما بينهم ادي في الاخير الي انتقال السلطة من ايدي الإرترين الي ايدي الاثيوبين القادمين من تجراي امثال اسياس، ومسفن حقوس، وفليبوس، وهيلي مانكي، وكشا ...الخ.

خلاف الاشقاء فى مرحلة النضال مزق الصف الاتري وكان القتال بين الثوار في كل ربوع ارتريا حديث الشارع بعد ان كانوا علي مرمى حجر من وسط اسمرا بعد ان حررو اغلب المدن ببطولة وشجاعة منقطعة النظير. والرابحوم من هذه الخلافات هم ابناء *تمبين الحكام الحالين في ارتريا فعملو بهدؤ حتي بسطو سيطرتهم واستفادو من مقدرات الثورة والزخم الذي احدثته.

ومنذ تلك اللحظة اصبحنا نبحث عن الحلقة المفقودة التي تعيد الينا وحدتنا وهيبتنا و قوتنا التي فقدناها لنستعيد وطننا الجريح الذي يرزخ تحت حكم ابناء تمبين الذين هاجرو من منطقة عدوا في اقليم تجراي في اثيوبيا واصبحو حكام البلاد بعد ان نكلوا بشعبنا واستباحوا ارضنا وحرفو تاريخنا. هذه هي النخب التي تدير المشهد الان، نخب لا تمت بصلة الي ارتريا. وانشغال الارترين بالصراع فيما بينهم اوصلهم الي هذه المكانة والتحكم المطلق في السلطة.

وكل يوم يمر تحت حكم ابناء اكسوم يزداد الوضع تعقيدا، تتغير فيه ملامح الوطن ويفقد فيه المواطن هويته بسبب مشروع تجراي تجرنية. وكما تقوم اسرائيل بتهويد القدس وطمس ملامحها الاسلامية يقوم ابناء تمبين بمحاربة الاسلام والمسلمين في بلادي من خلال تغيب العلماء وإغلاق وتأميم المعاهد الإسلامية ومحاربة اللغة العربية وإحداث تغير ديموغرافي عن طريق تهجير المسلمين من ارضهم وابدالهم بمسيحين من المرتفعات الارترية ومن اقليم تجراي الاثيوبي لغرس ثقافة التجرنية وطمس ثقافة المكونات الاخري، انها عملية احلال وإبدال وتطهير عرقي. وحتي نضع خلافاتنا جانبا ونعود للعمل متحدين كما كنا تحت راية واحدة بعيدا عن الخلافات القبلية والمناطقية سيظل ابناء تمبين في هرم السلطة في اسمرا وسنظل نحن نبحث عن الحلقة المفقودة. نختم بقول المفكر الجزائري مالك بالنبي في كتابه (مشكلة الافكار في العالم الاسلامي) والذي يقول فيه "إن الشعب هو الذي يخلق ميثاقه الإجتماعي والسياسي الجديد عندما يغير نفسه" (١).

مع اطيب الامنيات

المصادر:

١. مالك بالنبي (مشكلة الافكار في العالم الاسلامي) ص ١٠٠

هوامش:

الدولة المدنية: الدولة المدنية هي اتحاد أفراد يعيشون في مجتمعٍ يخضع لمنظومةٍ من القوانين، مع وجود قضاء يُرسي مبادئ العدالة في إطار عقدٍ اجتماعي تتوافق فيه إرادات جميع أو أغلب مكوّنات وقوى المجتمع، والمدنية هنا تتأتّى من كون الإنسان كائناً مدنياً بطبعه، وبالتالي فإن القواعد التي تنظّم حياته وعلاقاته ستكون مدنية، وهو مفهوم أخذ به أرسطو وإبن سينا وإبن خلدون ومونتسكيو وغيرهم. (الدولة المدنية دولة المواطنة والوعي الوطني).

تمبين: اسم منطقة في اقليم تقراي الاثيوبي المتاخم للحدود الارترية وتقع بها مدينة عدوة واكسوم.

مشروع تجراي تجرنية: مشروع دولة عرقية خاصة بالمسيحسن الناطقين بالتجرنية في كل من ارتريا وتجراي وهذا لا يشمل كل مسيحي ارتريا الناطقين بالتجرنية بل اجزاء فقط.. هذه الفكرة او الاطروحة السياسية كان لها نسبي في فترة الانتداب البريطاني (١٩٤١-١٩٥٠) وسرعان ما اختفت والان اطلت من جديد.

Top
X

Right Click

No Right Click