ارتريا ثورة من الداخل رؤية استشرافية

بقلم البروفيسور الدكتور: جلال الدين محمد صالح - لندن المملكة المتحدة

تأبى الشعوب أن تتجرع مرارة الإهانات، إلى ما لا نهاية.

أول تظاهرة بالبلاد في إريتريا

وتعجز القيود الحديدية، والسلاسل الصمَّاء الصدئة، مهما أحاطت بالأقدام، والأيدي، والأعناق، أن تقتل في الأنفس الحرة، روح الثورة على الظلم، وأن تكبت إرادة الخروج على البغي والعدوان.

فهل في الأفق الإرتري ملامح ثورة تندلع من الداخل قريبا، أو ربيع إرتري تتفتح زهوره ؟.

الشعب الارتري كغيره من الشعوب الأبية، وبما له من تاريخ زاخر بالمجد، والكبرياء، ما زال يثور على الجبابرة، وقساة الطغاة.

ومن هنا، لا يُسْتَغْرَبُ، ولا يستبعد، من شبابه في الداخل مبادرا، والخارج مناصرا، أن يكسر يوما ما، جدار الصمت، ويهزم في نفسه دواعي التردد، ويحطم حاجز الرعب؛ ليفاجئ الطاغية، بما لم يكن في حسبانه.

فلن يطول سباته أكثر مما طال، لأسباب منها تآكل النظام من داخله، مهما بدا معافا، وانسداد الأفق السياسي أمامه، وإفلاسه الكلي في طرح المبادرات، وتزايد وعي الشعب بضرورة التغيير.

و المتوقع في مثل هذا الظرف الحرج، ووجود هذه العوامل، أن تعود الأيام بهذا الشعب إلى رشاقته الأولى؛ لتنشط به من جديد، كما ينشط المحموم، إثر وعكة تصيبه، ولتدفع به إلى ساحات الاحتجاج، في ربيع إرتري صامد أمام تحديات الدولة العميقة.

وبهذا لا محالة أن درجة حرارته تتصاعد وتتعالى حتى الغليان؛ لنراها مجسدة، في هَبَّةٍ جماهيرية شجاعة، تعم كل المدن الإرترية.

وفي هذه اللحظة، من تاريخ تدافعنا ضد الشيفونية الأكسومية الحاكمة، تتمكن الجماهير الثائرة، من الإتيان على قواعد الطغيان، لتقتلعه من جذوره، وتلتهم ما صنع من أفك، ودجل، وباطل، وتضليل.

ولتستأنف بعد ذلك مسيرة عهد جديد، في ظل نظام مدني، لابد أن تكون أول خطوة فيه مصالحة وطنية شاملة، تعالج كل ما أفسده عهد الطغيان البائد الزائل، وما زرعه من فتن، وارتكبه من جرائم.

وترسم معالم نظام سياسي جديد، يجعل من السلطة والثروة حقا مشاعا بين الجميع.

ومن العدالة الحقيقية قاعدة متينة، يرتكز عليها هذا النظام السياسي.

ومن السلام والاستقرار أساس التنمية المستدامة.

ومن الحروب آخر الحلول، لا يركب أسنتها، ويدق طبولها، إلا اضطرارا.

ومن الشعب الارتري، بكل فئاته، شعبا متماسكا، متصالحا أولا مع نفسه، ثم مع جيرانه، من غير تفريط في سيادته الوطنية، وإجحاف في حقوق الآخرين.

ويبدو من التأمل في واقع الحال، أن شروط الثورة في المجتمع الإرتري، شرعت تشق طريقها إلى التوافر والاكتمال، وأن موانعها آخذة إلى الاختفاء، والانتفاء.

فشأن الثورة كالساعة، قدر محتوم، لا مهرب منه، تأتي هكذا بغتة، وتفاجئ الطغاة بغتة، وهم لاهون، هَِائِمُونَ بكل واد، فرحين بما أوتوا، من قوة البطش، وما طَوَّقُواْ به أنفسهم، من حصون الحماية الأمنية، ظنوا أنها مانعتهم من الله.

و الثورة تبدأ (همسة) بين اثنين، ثم تتسع دائرتها؛ لتشمل قطاعا أكبر، يوزع منشوراتها المُحَرِّضَةَ، في الطرقات، وعلى الجُدُرِ، إلى أن تكبر كلما تدحرجت، بين الأزقة، والأحياء، والأسواق، مثل كرة الثلج.

وساعتها تفرض إرادتها على الجميع، وتستعصي على كل وسائل القمع، فينضم إليها من ينضم من قيادات في الجيش، ورؤساء في الأقاليم، وأساتذة في المدارس، وطلاب في مختلف المراحل التعليمية، بنين وبنات، رجال ونساء، وعلماء المسلمين، ورجال دين مسيحيين.

كلهم يقولون بصوت واحد: للثورة نعم.

وكلهم يَهُبُّونَ معا، وكأنهم على قلب رجل واحد.

وإزاء هذا التطور، لابد أن تجد ثورة الداخل القادمة، والمتوقعة، في قابل الأيام، معاضدة من الخارج، من ثوار المهجر، يناصرونها بتظاهرات حاشدة.

وطبيعي جدا أن يستقبل ثوار المهجر، ثورة الداخل بهذه المآزرة، والمساندة؛ لما يرونه فيها من بزوغ فجر جديد، لعهد جديد، طالما انتظروه بشغف، وحلموا به بِوَلَهٍ، وعملوا له بعناء، وفي سبيله هرموا.

ولا يساورني ريب، في أن هذه الْهَبَّةَ الثورية القادمة، هي امتداد لتلك المحاولات الانقلابية التي سبقتها متعثرة ومخفقة.

ومن هنا ستجد في قيادة الجيش الشعبي، من يُحَرِّضُ عليها، وأخرون ينحنون لها، وآخرون يتحالفون معها، ربما إيقانا منهم، بأن لا جدوى من انقلاب عسكري، لا تسبقه، ولا تصحبه اعتصامات ومظاهرات شعبية، تكون له رِدْءًا، وظهيرا، اعتبارا بما سلف.

ولكن أخطر ما في هذا التحريك، أن العسكر بشكل عام، وبالذات هؤلاء الذين رضعوا ثقافة (الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا) الانفرادية، وتشبعوا بفلسفتها الاستحواذية، على وجه الخصوص، من بقايا قادتها، ومنظريها الأوائل، لا يعيرون أدنى اهتمام لإرادة الشعوب، يحركونها أولا، ثم ينقلبون عليها ثانيا، ليدوسوا رقابها بأحذيتهم العسكرية الغليظة.

وهذا يعني ضرورة التَّفَطُّنِ للمآلات، والتأكد، من أن فكر الجبهة الشعبية الإقصائي، الذي نشأت عليه سلفا، وفلسفت له قبلا، ليس كامنا في عقلية من سيقف، من قياداتها، وراء هذا الثورة، حين تندلع، وإلا كانت الطامة الكبرى.

ومما يلزم طرحه للمناقشة، تحسبا لهذا التوقع، هو، هل شعبنا وقيادته الوطنية، المفترضة في التخطيط للثورة، على وعي بخطورة هذا الاحتمال ؟.

وما طبيعة الثورة التي نرومها، اقتلاعية، تجتث النظام من جذوره، وهو الخيار الأمثل في النهضة بالوطن على رؤية جديدة، أم ترميمية تتصالح مع دستور النظام المعتقل بعد الإفراج عنه، لتتخذ منه منطلقا لها، وهذا ما يريده بعض من شوفينيي النخبة الأكسومية.

وفي هذا التباين دلالة على أن الارتريين ليسوا على وفاق في تحديد طبيعة الثورة التي يريدون.

ومن المهم بالنسبة لنا - نحن المقصيين - أن نعمم في أكبر قطاع عريض من شعبنا تصورنا لطبيعة الثورة التي نريد.

وعلينا أن نتساءل بعد ذلك، هل شعبنا يستطيع المحافظة على طبيعة الثورة التي نريد، كما عبأناه بها، وحددناها له، وقادر على أن يمسك بها، من أن تسرق منه، وتسلب من بين يديه؛ لتزور، أو لتصبح رهينة أحد الأجنحة المتصارعة، من قيادة الجبهة الشعبية التاريخية، يُخادع، ثم يُراوغ، ثم يَستغل عواطف شعبنا الوطنية، في تمرير أجندته الخاصة، وتصفية حساباته مع خصومه، ثم يضرب علينا من جديد، سنين عجاف، كما ضربها أفورقي ؟.

ما الذي يمكن أن تفعله المعارضة الوطنية، في الخارج، ممثلة في المجلس الوطني، لهذا الشعب، لو هَبَّ ثائرا، حتى لا يكون ضحية استغلال ماكر، من طرف ما، أو من أجندة خفية ؟.

وما طبيعة الاسهام الذي يمكن أن نسهم به - نحن النخبة - في مواكبة نمو هذه الثورة نموا طبيعيا ؟.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن هذه الثورة المتوقعة، مع ما نحمل تجاهها، من مشاعر جياشة، وعواطف نبيلة، وآمال عريضة، وطموحات كبيرة، ومع ما يخالطنا إلى جانب ذلك كله، من ظنون، وشكوك، في نوايا المتحالفين معها، من قيادة الجيش، لابد أن نحتمل ضمن هذه المخاوف، وهذه الآمال - ولو بقدر ضئيل - مكر الدكتاتور نفسه؛ لإجهاضها بصناعة ثورة كاذبة مغشوشة.

ولأن هذا الافتراض وارد وغير بعيد، مهما كانت نسبته ضئيلة، عند بعضنا، أرى من الضروري، أن تتهيأ المعارضة الوطنية ممثلة في المجلس الوطني للتعامل مع احتمال كهذا.

وأن تبادر حينها - وتعد له من الآن - إلى إنشاء ما يشبه (غرفة عمليات) في ساحة المواجهة، من فريق متخصص، في تقصي الأخبار وتتبعها، وتحليلها.

وهنا ما أظن يغيب علينا، أن من أهم آليات جمع المعلومات الدقيقة تَواصُلَ كل تنظيم، من تنظيمات المعارضة، مع خلاياه العاملة، في الداخل، وتزويدَ هذه الغرفة، بما يحصل عليه من معلومات، بغية تحليلها، واتخاذ ما يلزم اتخاذه، من خطوات عملية.

وإنه لمن الأساسيات أيضا في هذا السياق، من جمع المعلومات، التنبه للأخبار المزيفة، التي يصنعها النظام، ويضخ بها إلى الساحة، من أجل التعمية على المعلومات الصحيحة، في محاولة منه لإجهاض الثورة، متى ما كانت فعلا ثورة صادقة، نابعة من إرادة الشعب، ومتحركة بإدارته، لا مضللة، وكاذبة.

وإذا ما أكدت المعلومات حقيقة انتماء الثورة إلى الشعب، وأنها ليست خديعة من النظام، يبقى التفكير الجاد في حمايتها من أن يوظفها جناح من أجنحة قدماء قيادة الجبهة الشعبية المتصارعين لصالحه، وخفايا أجندته.

فكثيرا ما تسرق الثورات وتُزَوَّرُ، وتصرف عن مساراتها الوطنية، إلى مسارات أخرى، بحيل مختلفة.

وليس من ضمان لتحاشي ذلك، سوى وعي الشعب، ويقظة قيادته بأخذ التدابير اللازمة من الآن.

وفي تصوري أن تهيئة جماهير المهجر القريبة من الوطن والملاصقة له للاحتشاد بأعداد كبيرة، على مشارف حدود الوطن، من السودان، وإثيوبيا، وجيبوتي، ثم تثويرها بالتدفق، في لحظة مناسبة من لحظات اشتعال الثورة، على نحو ممنهج، سيعطي - لا محالة - الثورة زخما إعلاميا، وسندا قويا.

ومن شأنه أن يحبط كل محاولات سرقة، تستهدفها، مسبقا، أو لاحقا.

وعلى كُلٍّ، فإن استراتيجية المعارضة، في مثل هذا التوقع، يجب أن تُبنى على أسوء الاحتمالات، وتأخذ بكل الاحتياطات، حتى تعمل بكل جدية، ويقظة، في حماية الثورة المتوقعة، من الانزلاق إلى مسارات مدمرة، أو مضللة، خادعة، وماكرة.

ومن أجل ذلك يجب أن تتغلغل في أعماق مجريات الأحداث؛ لتكون هي من يحدد ساعة الصفر، وتطور من أدائها حتى تكون حصن أمان لثورة التغيير الآتية، تتابعها خطوة خطوة، حرصا عليها، من أن تخرج قبل اكتمال شروطها.

ومعلوم أن كل ثورة تتحرك قبل اكتمال شروطها، وانتفاء موانعها، يكون مصيرها الهلاك، كالطائر حين يطير، وَلَمَّا يتقوى جناحاه بعد، لابد أن تتقاذفه أيدي الصبيان.

و هلع النظام من الثورة القادمة حقيقة قائمة، فهو يخشى أن تباغته على حين استرخاء منه، لهذا لن يفتر من محاولة استدراج الثورة قبل نضوجها واكتمالها.

وهذا - في حد ذاته - يعني أن (الثورة) باتت بالنسبة للنظام أرقا، ومشكلة نفسية، تَقُضُّ مضاجعه، وتقلق عقله، وتربك أمنه.

وهو كسب معنوي، يَفْرُضُ على المعارضة توظيفه، في استثمار الأجواء الثورية وتصعيدها؛ بتحويل حالة الهلع المعنوي للنظام، إلى كسب مادي، يفاقم من أرقه وقلقه، ويعجل من ذهابه .

ذلك إن نزوع النظام إلى استباق الثورة الصادقة بصناعة الثورة الكاذبة، هو يقينا تأكيد لوجود عمل ثوري صادق، لَمَّا ينضج بعد، وإنا وإياه على موعد.

يقولون متى هو ؟

قل عسى أن يكون قريبا.

وما أظنني أحلم، إذا ما قلت استشرافا: إنا على موعد مع فجر صادق، يذهب بالفجر الكاذب، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

Top
X

Right Click

No Right Click