البنو عامر.. تحديات الذات.. ومكايدات السياسة

بقلم البروفيسور الدكتور: جلال الدين محمد صالح

قبل أيام مضت، قرأت مقالا عن البني عامر، أحاله إلي زميل يبادلني التثاقف، والتفاكر، في الشأن العام،

البني عامر

طالبا مني إبداء وجهة نظري بشأنه.

ولأنه تطرق إلى حالة التصادم التي جرت بين البني عامر والنوبة، في القضارف، ومن قبل في بورتسودان، حسبت كاتبه أحد أبناء بني عامر السودانيين، إلا أني علمت أنه من بني عامر الإرتريين، من مثقف كانت لي به سابق صلة، وهو في ديار المهجر.

تناول فيه تحديات البني عامر الذاتية، معرجا على الاستفزازات التي يتعرضون لها، هنا وهناك، من هؤلاء، وهؤلاء، في السودان، وإرتريا، وكأنه على يقين بخطر يستهدفهم، مما استدعى منه نصحهم، والتنظير لاستنهاضهم، وإلا لما خصهم بمقال.

ولولا أن الإنسان كائن متحرك، لا جامد، يتطور ويتجدد، حتى في أسلوب تفكيره، وطريقة تحليله وقراءته للأحداث، لاستبعدت أن يكون هذا المقال، من ذاك الكاتب، وإن كان من أبناء البني عامر، لكونه من (الانتلجنسيا) المدينيين الذين كثيرا ما يستهجنون الكتابة على هذا النحو.

ولكن ربما ممارسات الواقع المزري، كما يعايشها هو، فرضت عليه كتابة هذا المقال، وحركت فيه ما ظل يحمله في داخله، طوال فترة نضالاته الوطنية، من بناء وطن خال من الظلم، والاضطهاد، لأي مكون، ينعم فيه الجميع بالأمن، والرفاهية، والرخاء.

ولكن السؤال: لماذا البني عامر بالذات، فالجميع مضطهد، والجميع مقهور ؟

ومع أن هذا صحيح، فلعل صاحبنا أحس بأن الضغط على البني عامر فاق حد التصور، ويخفي من ورائه نوايا سيئة.

وهذا ممكن، فإن عددا من المراقبين لاحظ ذلك، سواء من المواطنين أو غيرهم.

وفي هذا نجد كاتبا إرتريا، خدم في السلك الدبلوماسي لنظام أفورقي، وهو السيد فتحي عثمان، ينص في كتاب له، منشور، أن (البني عامر) في قائمة من يكرهم إسياس أفورقي.

كما أن معارضا سودانيا، عاش في أسمرا، متحالفا مع نظام أفورقي، ضد نظام البشير، ذكر في كتاب له نشره بعنوان (الغولاق الإرتري) أن البني عامر أكثر من يقع عليهم الاضطهاد، في إرتريا، ومشكوك في ولائهم.

ومرة ثانية لماذا يكره أفورقي البني عامر، ولماذا يشك في ولائهم ؟

إنه يفعل بهم ذلك:-

أولا: لكونه يعمل في بناء نظام ذي ملامح وهوية أكسومية، تصهر الجميع وتذوبهم، في ثقافتها.

ثانيا: ولكون البني عامر أشد من يرفض هذا الصهر، ويعمل في مقاومته، وهم لا محالة عنصر حسم مهم، وقد يغيرون معادلات التدافع السياسي، متى أعطوا فرصة التحرك، وتركوا من غير ضغط متواصل.

ولا يخفى على أحد، أن اسم (البني عامر) محظور تداوله، في إرتريا، فجميع الناطقين (بالتجرايت) أسماهم النظام (تجري).

وهذا هو اسمهم، ولا اسم لهم غيره، وليس لاسم (البني عامر) وجود في إرتريا، وعلى البني عامر الاذعان لهذا الواقع، والرضوخ له، بالقبول باسم (تجري) مكان اسمهم التاريخي (البني عامر).

على كل، أيا كانت دوافع الكاتب، فإنه بدا حادبا على مصلحة البني عامر، مستشعرا حجم المكايدات التي تحيق بهم، ومحددا في الوقت نفسه منهجية التغلب عليها، مشخصا إياها، في مسألة (التعليم والتعلم) ناصحا البني عامر، بالتركيز على هذا الجانب، إذا ما أرادوا لكيانهم شأنا يذكر، يهابهم به الآخرون، ويحترمونهم.

ولأن هذا غير ممكن إنجازه بصورة جادة ومتكاملة، لم ينس الكاتب أن يذكر البني عامر بأهمية الاستقرار وضرورته، في السودان، وفي إرتريا، ارتباطا بالأرض، وتمسكا بها.

وهذا صحيح، إذ ليس ثمة (تعليم وتعلم) من غير استقرار، ولا استقرار، من غير أرض، فيها، وبها، ولها، يكون (التعلم والتعليم).

فالأرض مكان الاستقرار، و(التعليم والتعلم) هما ضمان حماية الأرض، ومن هنا، هما أمران موصولان معا، لا ينفصل أحدهما عن الآخر.

وهنا لابد من التذكير، أن أفورقي، حال بين البني عامر، والعودة إلى أرضهم، التي أخرجوا منها كرها، يوم قتلوا وأحرقوا في (عد أبرهم) وفي غيره، بسياسة ممنهجة من نظام الإمبراطور هيلي سلاسي.

لقد رفض أفورقي عودتهم، وذلك حين رفض برنامج العودة الطوعية، الذي تقدمت به الأمم المتحدة، وفقا لما ذكره كادر الجبهة الشعبية الشريد حاليا، وأحد قياداتها الأقدمين، المناضل أحمد القيسي، ومكن منها الناطقين بالتجرنية، يستغلونها في مشاريعهم الاقتصادية، وآخرون منهم يستوطنونها.

ووفقا لما ذكره القيسي، في لقائه المنشور مع وكالة (زاجل) سلح النظام، هذه الجماعات المستوطنة، لتحمي استيطانها هذا، كما يفعل الصهاينة المستوطنون أرض فلسطين.

وعبر القيسي في وصفه لحالة التسليح هذه، بفتنة طائفية، خطيرة العواقب.

ومهما كانت المواقف متباينة، مما كتب الكاتب، فإني أتفق معه، فيما ذهب إليه، من وجود ظلم وغبن واقع على البني عامر، واستهداف لكيانهم الواسع والعريض، يستدعي الكتابة عنهم خصيصا.

إلا أني مع ذلك أرى المشكلة في إطارها الأكبر، فهي قبل أن تكون مشكلة (البني عامر) بخاصة، هي مشكلة (البجة) في إرتريا، وشرق السودان، بعامة.

وما استهداف البني عامر إلا من استهداف كيان البجة وتفتيت وحدته، وطمس تاريخه.

و أن كل قبائل البجة، الناطقة بالتجرايت، والبداويت، والبلينايت، والباريايت، والكنامايت، في إرتريا، وشرق السودان، من الهدندوى، والبلين، والبني عامر، والماريا، والباريا، والبازين، والرشايدة... الخ، تعاني من التهميش، والتجهيل، وهضم الحقوق، في ميادين الصحة، والتعليم، والاقتصاد، والمشاركة السياسية.

وضمن هذه السياسة المجحفة، يجري تمزيق وحدتها بافتعال مشكلات داخلية، تفقد هذه القبائل البجاوية بصفة عامة استقرار ها، وتلاحمها، والتفرغ لبناء ذاتها.

ومن هنا ترى فتنا تشتعل يوما بين البني عامر والهدندوى، ويوما بين البني عامر، والرشايدة، ويوما بين البني عامر والنوبة، الذين أسكنوا بين البجة، وكلها بفعل فاعل، وتحريض محرض، لأغراض رخيصة.

و الملاحظ في كل هذه التشاحنات، أن العنصر الثابت فيها بالاستهداف، هو (البنو عامر).

بمعنى أن التحريض يتركز عليه، بتأليب الآخرين، وبالتشكيك في وطنيته وولائه، في السودان، وفي إرتريا.

ومحال أن توجد نهضة تعليمية، في مجتمع، بين مكونه خصومات، وحزازات، وتنافر نفوس.

وعليه، مهما كان حجم تركيز البني عامر على التعليم والتعلم كبيرا، فلا جدوى منه، ما كانت العلاقة بين المكون البجاوي نفسه متوترة، وعندها قابلية الاشتعال، متى أضرم النار فيها مشعلو الفتن، فساعتها تحترق المدارس، وتكسر الأقلام، ويسكب الحبر، ويكون السيف أصدق إنباءا من الكتب، إليه التحاكم، وفي حده الحد بين الجد واللعب.

حتى لا يقع هذا، وحتى تنهض القبائل البجاوية جميعها (بالعلم والتعلم) وتنعم بالاستقرار، والازدهار، لابد من تعميق الوعي لدى هذه القبائل البجاوية، بأهمية التماسك المجتمعي، والسلم المجتمعي، وسد كل الثغرات التي من الممكن أن يستغلها المتربصون شرا، واحترام كل من سكن أرض البجة، وبين البجة، أيا كان عرقه، وعقيدته، ما كان مواطنا صالحا، يحترم حقوق المواطنة، كما نص عليها الدستور، ولا يسلب البجة حقهم الطبيعي في استغلال أرضهم لصالح نموهم أولا.

و مصطلح (البجة) هنا، لا يعني عرقا بعينه، ولا جماعة بعينها، ولكنه يعني إنتماءا إلى أرض، تمتد من جنوب مصر مرورا بشرق السودان إلى إرتريا، فكل من سكنها، وارتبط بها، ومنحها ولاءه، ووهبها حبه، واحترم ثقافتها، وقدر قيمها، وآمن بحقها في البقاء والنمو، فهو بجاوي، من أي عرق وعقيدة كان، مع ضرورة الحفاظ على وحدة وسيادة الدولة القطرية الحديثة، بحدودها الجغرافية المعلومة، الموروثة عن المستعمر، والمعترف بها دوليا.

Top
X

Right Click

No Right Click