الذكري الثامنة والعشرون للاستقلال ارتريا

بقلم الأستاذ: محمود بره - كاتب إرتري

بمناسبة الذكري الثامنة والعشرون للاستقلال ارتريا الذي ‏يوافق 24 مايو من كل عام،

اسمحوا لي بكتابة بعض ‏مايعتري مشاعري، واعذروني علي قسوة بعض العبارات‏، فانها نتاج آناة وليست اساءة وهفوات.‏

ذات مرة في قَرْبَعَلْ الوديعة، في بداية السبعينات لمحت ‏شيئاً مغطي بأوراق اشجار الجميز العملاقة (البَانْفا) التي ‏تكثر في المنطقة، علي مقربة من قوة عسكرية من ‏مناضلي جبهة التحرير الارترية وكنت اقترب رويدا رويداً ‏وكلما تقدمت أفاجأ بالمقاتلين زوجاً او أفراداً، واتراجع ‏متحاملاً باعادة الاغنام أو عابر طريق، حتي تمكنت من ‏الوصول الي هدفي فسحبته ثم قذفت به الي منحدر قريب، ‏ثم تحركت من الموقع عكس الهدف للتمويه، فعدتُ الي ‏المكان بعد بضعة عشر دقائق متخذا كل التكتيكات ‏العسكرية، فعند وصول المكان لم أجد الشئ الذي كنت ‏أُعول عليه الامال، بل فوجئت بكمين من مقاتلين، أظن ‏طال بهما الوقت في تتبع مغامراتي، و رصد تحركاتي منذ البداية‏‏.‏

واتذكر اصدرا علي بعض التعليمات، وهما مختبئان، ولا ‏أري الا جزء من رأسيهما، العبارات معهودة، ومعروفة ‏عند نا وخاصة الاطفال، مثل:‏-

• ثابت،
• أرضاً سلاح،
• ارفع يديك ...الخ ‏

وكثيرا ما ندخلها في العابنا مثل لعبة (أُخَات) من روث ‏البقر المشتعل ناراً يُلقي بها كل فريق باسلوب تكتيكي الي ‏الفريق الخصم، فهي اشبه بقنابل الملوتوف، وقُبض علي ‏متسللا، وسيق بي الي شجرة اخري في اتجاه اخر، وقد ‏اكتشفتُ لاحقاً ان جل اشجار الوادي قد تحولت الي ثكنة ‏عسكرية.‏

فدار هذا الحوار بيني وبينهم:‏

فسالني ماذا كنت تفعل ؟
فقلت له ابحث عن سلاح.

ماذا تفعل به ؟
أحمله مثلكم

فضحكوا جميعاً...

وأردف متسائلاً:‏

ولماذا لم تطلب ذلك ولما السرقة ؟
قلت: عمي رفض لي الطلب من قبل وهو اقرب الناس الي ‏فلم اعتقد انتم تسمحون لي بامتلاكه.

وواصل سائلا: لكنك لم تتدرب بعد علي السلاح ؟
فقلت له السلاح كفيل ان يعلمني.

فسالني: ماذا تفعل بالسلاح ؟
أجبت: أقتل به الامحرا.

لماذا ؟
لانهم يقتلوننا وينهبون مواشينا.

فقال اين تجدهم ؟
‏في طريق العربات.‏

قال لي: لكن انت مازلت صغيراً، عليك ان تتعلم أولاً ثم ‏بعد ذلك تحمل السلاح، نحن تعلمنا.. ثم حملنا السلاح.

‏وثم واصل في طرح الاسئلة قائلاً:

هل تعرف القراءة ؟
قلت: له نعم وقرأت له سورة الفاتحة، وكتبت له بعضا من ‏الحروف العربية في الارض، كانت كفيلة ان ابرهن لهم ‏اني متعلم، وبعد محاضرة شيقة، اكرموني بكوب من ‏الشاي، واخلوا سبيلي، فلم ابارح الموقع بل خرجت علي ‏قمة مفازة، واختبأت هناك أراقب تحركاتهم، حتي دنت ‏ساعة مغادرتهم، و في مقدمة افواجهم ترفرف الراية ‏الزرقاء ذات الغصن الاخضر، ذلك المشهد قد لايبارح ‏ذاكرتي حتي هذه اللحظة.. وهي حالة عامة لجيل ذلك ‏العصر. اذا اتيحت لكل شخص من جيلي قد يحكيها كل ‏بأسلوبه وجدارته الابداعية.. ولكن الاحساس والهدف واحد‏‏.‏

مهمتي باءت بالفشل ولكن لم استسلم، وللامانة كنت علي ‏دراية بمخابئ متفرقة تحتوي علي قنابل، وذخائر، ‏وغيرها من العتاد بالقرب من ديارنا، تعود ملكيتها للثورة، مسئول عنها عمي ‏يس عليه الرحمة والمغفرة، ولكن علمتُ بطريقة او اخري ‏انها أمانة في عهدة أهلي من أمي أطال الله في عمرها، ‏ولان الثوار مصدرالسلاح فسرقتهم حينها من وجهة نظري ‏مباحة، ويستحضرني التحايل علي والدي أطال الله في ‏عمره، في تجميع شفرات الحلاقة التي يتخلص منها، لكي ‏أحك بها ظاهر الفكين لنمو شعر لحيتي، ويعجل بي الالتحاق ‏بالثوار. واكثر ما يغيظني حينها الشباب البالغ الذي لم ‏يلتحق بالثورة، رغم نضوجهم، وكنت احسدهم، وأقصي ‏أمنيتي بلوغ مرحلتهم.‏
كان هذا جيلي في مرحلة الثورة، جيل الاقدام، وجيل ‏التضحية، فبالرغم انني اتيحت لي فرصة الخروج من ‏ارتريا الي السودان مبكراً ومنها الي بعض الدول العربية، ‏طلبا للعلم الا ان وهج الالتحاق بالميدان لرد المظالم لم ‏يُخمد نار أواره في دواخلي، وهو احساس جمعي يجري في ‏دماء ذلك الجيل العظيم، وقد تحققت امنيتي بالالتحاق ‏بالثورة والمشاركة في استقلال ارتريا جندياً مخلصاً يقارع ‏العدو وجها لوجه.‏

فما يصعب تصديقه في جيل اليوم الذي أصبح اقصي همه ‏الفرار بجلده خارج الوطن، واختيار الموت المُهين، ‏والاستكانة للذُّل، والاستسلام للعبودية، تاركا وراءه ‏اسرته وداره يعاني الامرين، مرارة الحرمان ومرارة ‏العذاب، حقيقة صدق من قال: "النار تلد الرماد".

Top
X

Right Click

No Right Click