سلسلة قضايا بسيطة و مهمة 3-10

بقلم الأستاذ: علي عافه إدريس - كاتب ومحلل سياسي ارتري

القرار السياسي ونكبة جبهة التحرير الأرترية ـ قراءة مختلفة !!! تُعرف ممارسة السياسة بأنها ممارسة للفعل في الحياة العامة

(وهي مختلفة عن الحياة الخاصة التي تخص الأفراد) سواء كانت تلك لأفعال نشطة وتفاعلية أم غير نشطة وغير تفاعلية فمثلا تضامنك بالتفاعل مع يوم المعتقل ممارسة سياسية وعدم تفاعلك معه أيضا ممارسة فأنت رغم اتخاذك لجانب الحياد فأنت قد اتخذت قرار سياسي، و مشاركتك في اعتصام أو إضراب وعدم مشاركتك كذلك ممارسة سياسية، فقد اتخذت قرار لفعل ذلك، فكل هذه الأفعال هي أفعال سياسة وأنك قبل ممارستها أو الامتناع عن ممارستها تتخذ قرار سياسي، وبهذا الفهم القرار السياسي هو فعل سياسي سواء كان على المستوى الفردي أو التنظيمي ويشمل كل الأفعال طالما تتم في الإطار العام كإصدار البيانات أو تحديد المواقف وتجديدها أو القيام بزيارة لجهة ما، ويختلف القرار السياسي عن كل من السياسة العامة والقرار الإداري فالسياسة العامة: هي الإطار العام الذي يسترشد به صناع القرار وهو عادة يكون مبني على البرنامج السياسي والنظام الأساسي بعد مراعاة مصالح الجماعات المختلفة والمؤسسات وهو في الأصل قرار سياسي تحول لسياسة عامة، أما القرار الإداري فهو الأداة التي تستخدم لتنفيذ السياسة العامة وهو كذلك في الأصل كان قرارا سياسيا تحول نتيجة طبيعة المهام لقرار إداري.

وتتدرج أهمية القرارات وخطورتها حسب الفعل الذي تريد القيام به وكذلك تأثيرها على المحيط الذي تتخذ فيه والفئات التي ستتأثر به.
والقرار السياسي الذي يحظى بالأهمية تحكمه أربعة فضاءات مختلفة ومتباعدة وقد أعجبني وصف المفكر الدكتور جاسم السلطان للفضاءات الأربعة عندما وصفها بأرجل الطاولة وسماها "الطاولة السياسية" التي يجب أن يوضع عليها القرار للاختبار إن كانت تستطيع حمله أم لا ؟

أرجل الطاولة السياسية تتكون من:-

• الرِجل الأولى للطاولة: الذات (قيادة التنظيم ـ كادر التنظيم ـ عضوية التنظيم ـ الجماهير المتعاطفة مع التنظيم).
• الرِجل الثانية للطاولة: المحيط الاجتماعي خارج التنظيم (شعب ـ أحزاب ـ جيش ـ تجار ...الخ).
• الرِجل الثالثة للطاولة : المحيط الإقليمي (دول الجوار ـ دول الإقليم ـ المنظمات الإقليمية).
• الرِجل الرابعة للطاولة: المحيط الدولي (الدول الكبرى ـ دول العالم الأخرى ـ المنظمات الدولية).

وخطورة المحيطان الإقليمي والدولي تكمن في أنهما في رصد دائم لك و لا يتحركان تحركا حقيقيا إلا بعد تأكدهما من ضعف الجبهة الداخلية التي تمثلهما الرِجل الأولى (الذات) والرجل الثانية (المحيط الاجتماعي ) لهذا تحركهما يكون أكثر ضررا وأقل تلك الأضرار فقدان استقرارك الذي يمكن أن يتحول بكل سهولة لصراع وجود وأنت في أضعف حالاتك.

مثال من واقع تجربتنا الأرترية وقرارا كان قاتلاً:

الاتحاد السوفيتي طلب من جبهة التحرير الإرترية إرسال وفد لزيارة موسكو، وبالفعل الجبهة وافقت و كلفت اثنان من قيادتها لتلبية الدعوة.

قبول الدعوة وإرسال الوفد قرار سياسي بامتياز وقد عُرض على الوفد الحكم الذاتي ضمن دولة أثيوبيا الكبرى، ورفض الوفد العرض المقدم له، علما أن الكثير من أعضاء تنفيذية الجبهة لم يكن لديهم علم بالوفد الذي زار موسكو إلا بعد أن ظهرت بعض سلبيات تلك الزيارة وبعد أن استفسر السودانيون و السوريون والعراقيون من قيادة الجبهة عن ذلك الوفد الذي زار موسكو.
والآن فلنضع القرار على الطاولة السياسية ضمن الظروف التي كانت متوفرة وتحيط بالجبهة في تلك الأيام.

الرِجل الأولى للطاولة : قيادة الجبهة الصراع بين أطرافها في قمته ووصل لمرحلة كسر العظم، كادر الجبهة هو الآخر منقسم حسب الولاءت ويخوض نفس الصراعات، جيش التحرير هو الآخر تتنازعه القيادات ومعنوياته في الأرض نتيجة الخيانات في داخله ونتيجة الانسحابات غير المبررة أمام الجبهة الشعبية حتى من المناطق التي خاض فيها معارك و أنتصر فيها، والجماهير مبلبلة فالجميع يقوم بتعبئتها ضد الآخر.

النتيجة (رِجل أولى لا تستطيع حمل أي شيء و لا محالة آيلة للسقوط).

الرِجل الثانية للطاولة: الشعب الأرتري عدا جماهير الجبهة ناقمة على الجبهة فالتعبئة ضد الجبهة من التنظيمات الأرترية في قمتها فالجبهة الشعبية تخوض حرب ضروس مع الجبهة بالتحالف مع الجبهة الشعبية لتحرير تجراي، ومن الطبيعي أن تتبع جماهير الشعبية لقيادة تنظيمها وقوات التحرير الشعبية واللجنة الثورية قبل انفصال التنظيمين خارجة من حرب ضد الجبهة قبل عام من تلك الأحداث وقد تضررت فيها قوات التحرير الشعبية بشقيها تضررا كبيرا لهذا هي وجماهيرها ضد الجبهة بكل ما تملك.

النتيجة (رِجل ثانية لا تقوى على حمل أي شيء و لا محالة آيلة للسقوط ).

الرِجل الثالثة للطاولة : دول الجوار والمحيط الإقليمي، أثيوبيا العدو الأول تجهز حملة أثر حملة للقضاء على الثورة الأرترية، جيبوتي لم تكن في يوم من الأيام ذات تأثير على الوضع الأرتري، السودان المنفذ الوحيد للجبهة منه يأتي تموين جيشها وعبره تأتي أسلحتها وذخائرها، وعبره تتنقل قياداتها من وإلى العالم وباختصار كان الرئة الوحيدة التي يتنفس عبرها التنظيم وكان يتنفس ملئ صدره بلا حواجز أو عوائق.

و النظام السوداني بقيادة النميري بدأ يساريا ثم حدثت مفاصلة كبرى بينه وبين اليسار وتحديدا الشيوعيون وصلت لحد الإعدامات لأهم قياداتهم ومن تبقى منهم مطارد ومراقب فتحولوا إلى تحت الأرض لممارسة العمل السرّي، أي أنهم موجودون كخلايا نائمة وقيادات تتحرك بحذر والنميري ونظامه في توجس دائم منهم، بالمقابل هناك جبهة التحرير الأرترية تقودها قيادة ذات توجهات يسارية شيوعية ظاهريا ترفض أن توصف بذلك لهذا قد يخفى ذلك على بعض القطاعات الجماهيرية والرتب الأدنى في جيش التحرير لكن دائما كانت هناك اتهامات مستمرة، وبالتأكيد الدول التي تهتم بالمنطقة وبالجبهة تحديدا وضعها مختلف في معرفة التوجهات الحقيقة لقيادة الجبهة فهي لديها أجهزتها التي تحضر لها المعلومة الحقيقية وبالتالي نظام النميري كان يعرف من هي الجبهة والخطورة الإستراتيجية التي يمكن أن تشكلها عليه إذا تمكنت، خاصةً هي تقبع في الخاصرة الشرقية لبلاده حيث الشريان الرئيسي الذي يربط السودان بالعالم، وما يمكن أن تشكله من سند على الأقل معنوي للقوى الشيوعية التي كسب معركة واحدة ضدها لكنها لم تكن المعركة الأخيرة، كما أن احتمال أن تكون الجبهة بعد تمكنها أداة للمعسكر الاشتراكي احتمال عالي النسبة وبالتالي توطين الفكر اليساري المتطرف أمر عالي النسبة في أرجحته، ورغم كل هذا الوضوح في الرؤية الإستراتيجية، إلا أن هناك حقائق على أرض الواقع تمنع السودان باستلام زمام المبادرة وتعديل الوضع الاستراتيجي، أن الجبهة قوية ومتماسكة وأي محاولة لتعديل الوضع الاستراتيجي معها احتمال فشله هو الأرجح، كما أن الجبهة بحاجة ماسة للسودان وبالتالي إغراءها بالتسهيلات هو لجام يوقف سلبية تحركاتها ضد السودان ولو مؤقتا، كما أن علاقتها السيئة مع الاتحاد السوفيتي الذي وقف في الجانب الأثيوبي و يقوم بدك الجبهة ليل على طرف النهار هو الآخر يرسل رسالة ايجابية للنميري أنه في أمان من ناحية الجبة، لكن هذا الساتر الأخير قد سقط عندما أرسلت وفدها للاتحاد السوفيتي فأرسلت معه رسالة سلبية للسودان، وكذلك بتلك الزيارة وصلت رسائل سلبية لأهم دول الإقليم الداعمة للجبهة (سوريا والعراق) في أن الجبهة لديها الاستعداد لتسليم كل أوراقها للاتحاد السوفيتي حتى دون استشارتهما وهما اللذان قدما الغالي والرخيص في سبيل دعمها، والاتحاد السوفيتي حتى لو لم يكن في عداء معهما إلا أن هذه الأوراق أوراقهما التي سلمتها قيادة الجبهة له.

النتيجة (هذه الرِجل اهتزت اهتزازا خطيرا وهي بدون شك إذا استمرت الأحداث على نفس النسق آيلة للسقوط).

الرِجل الرابعة للطاولة: المحيط الدولي بقيادة القطب العالمي الآخر الولايات المتحدة التي هي في عداء تاريخي دائم لكل ما هو أرتري وكل اللعب يتم في منطقة نفوذها وهي تترقب بشدة نضوج عوامل الانتصار الساحق، وسوف لن تتدخل بنفسها، وسينجز المهمة حلفاءها في المنطقة بإيعاز منها.

النتيجة (أيضا هذا الرِجل آيلة للسقوط وخطورتها تكمن في أنها سوف تستغل ضعف بقية الأرجل في إسقاط الجسم المستهدف عبر التنسيق بين الأرجل الثلاثة الأخرى).

تدخل الجبهة السودان لأسباب كثيرة و وتتجمع في كركون وتهداي وتعداد جيشها خمسة عشر ألف جندي، ولازالت قيادتها في غيها و صراعاتها القديمة والأعداء يترقبون ويراقبون الوضع عن قرب للانقضاض عليها لكن لازالوا خائفون لأن أي تحرك من جانبهم قد يكون عامل وحدة لقيادة الجبهة والجبهة قوة كبيرة إذا أحست قيادتها بالخطر الكبير يمكن أن تعدل مواقفها وتتقارب من أجل حسم المعركة مع العدو الخارجي، وسيخسر الأعداء المعركة الكبيرة لأن دخول الجبهة في معركة معهم سيلحق أضرار بها لكنه لا يقضي عليها وهم يريدون القضاء عليها وليس مجرد هزيمتها، لهذا واصلوا الترقب والمراقبة لفترة طويلة وعندما تأكد لهم أن هذه القيادة لا يمكن أن تتوحد تحت أي ظرف، فقد كان قسمين منها يرفض العودة إلى أرتريا و أحد قسمي عدم العودة يدعوا لفرتكتها والآخر يدعوا للتريث في العودة للمخاطر الجمة في حالة العودة وترتيب الأوضاع هنا في السودان وطرف ثالث يحض ويحرض على العودة بأسرع ما تسمح به الإمكانيات.

وقيادة الجبهة لازالت تراوح في غيها القديم يتخذ الأعداء عبر السودان القرار بتصفيتها لهذا صدر قرار تجريد الجيش من السلاح بحجة أمن السودان وأنهم لا يمكن أن يقبلوا بقوات مسلحة في أراضيهم، حتى الآن موقف السودان في سياقه العادي، لكن هناك مؤشرين يوضحان أن القرار كان أكبر من السودان وأن الحجة التي أوردها السودان رغم منطقيتها إلا أنها لم تكن الحجة الحقيقية.

والمؤشران هما:

• الطرف الذي يقول بالعودة بدأ في تحريك قواته نحو الأراضي الأرترية على محورين المحور الجنوبي (القاش) بقيادة الشهيد محمد حامد تمساح والمحور الشمالي (راساي) بقيادة الشهيد إدريس إبراهيم هنقلا، وقد لعب جهاز تسليح الجبهة بقيادة قريش (نسيت اسمه الأول ) في التمويه والمماطلة في تسليم الأسلحة فأصر على تسليمها عبر أرقامها وبطريقة دقيقة وبطيئة الأمر الذي أشغل الجيش السوداني، لهذا تمكنت القوات من التحرك نحو المحورين ومن المفروض أن تترك من قبل الجيش السوداني تكمل انسحابها إذا كان الغرض أمن السودان، لكن بعد تحركها بشكل مفاجئ لم يتوقعه الجيش السوداني تمت مطاردتها بشكل غريب وبرغبة من لا يريد أن تفلت منه، وتمكنت قوة محور الجنوب من الإفلات بسرعة لقرب المسافة من الحدود بينما عانت قوة محور الشمال معاناة كبيرة لبعد المسافة والعطش وعدم وجود التموين وتعطل الكثير من آلياتها التي اضطرت لتركها لكنها مع هذا أفلتت ووصلت لقواعدها سالمة مع القليل من الأضرار في الآليات والتعب الشديد، فهذه المطاردة تثبت أن الهدف كان القضاء على فاعليتها بشكل نهائي وعدم تمكينها من العودة إلى أرتريا بكل الوسائل.

• المؤشر الثاني: فتح باب الهجرة لكل الدول الغربية وأهمها أمريكا وألمانيا وأعتقد بعض دول الخليج ويكفي لموافقة سفارات تلك الدول أن تثبت أنك كنت جندي في جبهة التحرير الأرترية.. وطبعا المخطط هنا واضح فبقاء الجندي في السودان احتمال عودته وتلبيته لأي دعوة لإعادة تكوين وترتيب الجبهة يجعله هو الأمر المرجح.

ولكم مني كل الود والتقدير والاحترام
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

Top
X

Right Click

No Right Click