أرض حزب أفورقي.. لماذا يحارب الشعب الإريتري؟

بقلم الأستاذ: زكي رباط - باحث حقوقي المصدر: مدونات الجزيرة

في كل مراحل تاريخنا الناصع البياض، هناك من تأبى نفسه إلا وأن يبيعها رخيصة من أَجْل مبادئه النبيلة في الكرامة والعزة والشهامة

ورفض الضيم ونصرة الحق وإغاثة الضعيف. تلك القيم النابعة من العقيدة والتراث والعادات والأخلاق الحميدة، عبر المبادرة بركوب

حادثة غرق

الصعاب وإرغامها لتورد المهالك، ثم تكون رضية سواء بلغ مبتغاه أم عاجلته المنيَّة، وهو كمن يغذي روحه بتعب جسده، وفِي المقابل نفس أبت إلا وأن تكون مع الباطل أينما حلَّ وأن تطلبه فيما ارتحل وأقام، فهي معه إن كان قويا منيعا، وإلا فركوب أسنة المبادئ لها مبدئا وشرعة ومنهاجا، طالما اقتضت المصلحة، ولا بأس في ذلك أن تغير جلدها ومسوح الوجوه على حسب الدور المراد إخراجه، فهي ملكية كهنوتية، أو ايمانا إلحادية أو وطنية مستبدة، ولا تعْيها الحيل في ذلك كي تسوق الحجج والبراهين في تاريخ زائف أو فكر مغلوط أو شرعية الدبابة، وهي في ذلك لا تحتاج سوى إلى سارية لرفع الراية وقد تُستخدم أحيانا إلى حربة تخرق أكباد الخونة والمارقين، كما تحتاج إلى بوقا يهتف، وقد يستخدم عند الضرورة في تكسير رؤوس الأفاعي أعداء أنفسهم! وما حال هذه النفس إلا كمن يغذي الجسد ويُنَعِّمه في مقابل الروح وصفائها.

لا ريب أن الرابع والعشرون من مايو سواء كان التحرير في الواحد والتسعين من القرن المنصرم أو الاستقلال في الثالث والتسعين منه، تاريخ مشهود غيّر مجريات الأمور وبدّلها، ولكن ألا يحق لنا التساؤل: أهذا هو (الوطن) الذي غزى الآباء فيه السير؟ أين أرض سقاها أرتال الشهداء دما بحثوا معنا عن "حرية" علّقت في سبيلها رؤوس في المشانق واغتيل رجال بغدر الليالي، الواحد منهم يزن ألف رجل مما يعدون، هل كفكفت دموع الثواكل؟ هل رعي أطفال الشهداء؟ هل رجع الوطن السليب؟ أم بيع من الباطن لتاجر آخر سام العباد قمعاً؟ ونهب خيرتها، منجم "بيشة" للتعدين مثالا.

هناك سجل حافل في إذلال المواطن الإريتري عبر سياسة ممنهجة ترقى إلى "الاستعباد" كما وصفته لجنة حقوقية مستقلة تابعة للأمم المتحدة

منذ خمسة عقود يرزح شعب كامل خارج الحدود (الوطنية)، جراء الحرب المقدسة من أجل التحرير، طوابير اللاجئين من أمام المنظمات الأممية تحكي مظالما صُبّت على رأس هذا الشعب الذي يسجل كل عام أعلى مستويات اللجوء في بلد بلا حروب، سكانه لا يتجاوز الستة ملايين ولكنهم يضاهون أعداد السوريين! لماذا يهجر الإرتريون أوطانهم؟ هذا تقرير أوروبي يستغرب ويتعجب ويتساءل. إن الإريتري يقضي جل عمره إما سخرة في يد البطش "الأفورقية" (أو كما ورد في هيومان رايتس ووش) المسماة الخدمة الوطنية. وإما يطارد أوراقه طلبا للحماية في بلاد الحريات العربية أو تتخطفه وتطارده أيادي الجوار الصديقة والحميمة والشقيقة.

أفورقي لماذا يحارب الشعب الإريتري 

فلله الحمد والمنة إريتريا الثاني عالمياً بعد كوريا الشمالية كأسوأ بلدا في الحريات الصحفية لأعوام خلت (صحفيون بلا حدود)، وهي بلا منازع البلد الذي تخطف مواطنيها ليلا وتخفيهم قسرا -حتى الموت- بلا محاكمات ولا حتى ادعاء أو توجيه إتهام وحضور دفاع، فكيف تحمى تلك الحقوق في البلد الذي يُحكم بالحديد والنار بسلطات تُدعى (حكومة مؤقتة) من فجر التحرير! يحكمها حاكم مستبد استباح العقائد والعادات والثقافة وفرض لون واحد وفن واحد وذوق واحد، فإريتريا الحديثة هي الجريدة الوحيدة و"إري تـ في" هو المرئي الذي لا يرى سواه، وصوت الجماهير الإذاعة والنداء الخالد! بعد أن نكل الزعيم الملهم والقائد الأعظم إسياس أفورقي بكل الصحافة المستقلة العام 2001، كما غدر برفاق دربة الذين طالبوه بالرجوع الى الشرعية وتحكيم القانون في إطار الحزب، ليس هذا فحسب فالبلد (الوطن) الفتي استفتح واستهل عمله بالغدر بجرحى التحرير الأبطال، وسجن المعلمين المربين في سابقة ضربت الُّلحمة الوطنية في الصميم.

ثم أعاد ذلك النهج العام 2013 عندما وسم حركة ود علي التصحيحية بأوصاف دينية تبعها حملة اعتقالات وتشويه وتخوين، مع أن الشهيد ود علي هو ابن الحزب الذي يحكم الدكتاتور البلاد من خلاله! إن سجل البلاد في ملف حقوق الإنسان غاية في السوء ليس هنا مجال لرصده ولكن يكفي التنويه في هذه المناسبة الوطنية بالإضافة لما سبق لأمثلة تَمِتُ بصلة لمحاولات الطاغية الى تفريق شمل الشعب وضرب وحدته الوطنية عبر ممارسات وإجراءات يصعب علاجها في المستقبل منها هدم البيوت وسياسة التغيير الديمغرافي الممنهجة ونزع الأراضي الخصبة من مالكيها وإجبار السكان لهجر مواطنهم الأصلية، والاستلاب الثقافي ثم تفريغ البلاد من قواها الحية ألا وهم الشباب. بالإضافة إلى سجل حافل في إذلال المواطن عبر سياسة ممنهجة ترقى إلى "الاستعباد" أو كما وصفته لجنة حقوقية مستقلة تابعة للأمم المتحدة.

وفي ظل صيحات البعض الهستيرية ومطالبة الإريتريين كل الإريتريين بأن لا يغيبوا عن احتفالات هزّ الأكتاف إحياء لذكرى الاستقلال! يحق لنا التساؤل؛ أي استقلال هذا الذي قسم المواطنين إلى شعب الداخل وشعب الخارج، (دار قتال ودار وطنية) فالذين دخلوا مع دبابة الديكتاتور فهم أهله وخاصته وواجب عليه رعايتهم، وأما كل ذلك التاريخ الحافل من النضال الإريتري للآباء الأوائل منذ حقبة أربعينيات القرن المنصرم فحق لكل وطني حربهم والتنكيل بهم ووسمهم بقطاع الطرق والطابور الخامس، وشمل هذا النفي ذويهم وأصدقائهم وكل من (مرا من باب بيت أحدهم!) أليس هذا تقسيما للشعب الواحد وتسليط بعضه على بعض؛ وهذا بالضبط ما نشاهده هذه الأيام بالذات من فئة الشباب في الفيسبوك الإريتري لتشويه سجل الثورة الإريترية الناصع ومجهود الرعيل الأول الذين أطلقوا الشرارة الأولى وفدوها بأرواحهم وقدموا ضريبتها خصما بإبادة شعبهم وتهجيرهم وحرق مدنهم وقراهم لتصبح الآن من أفقر المناطق في (الوطن) بعد أن كانت منارات في الحضارة والعلم والمدنية!

وبدلا من أن تكون لتلك البقاع الأولية في التعليم والتنمية، حظيت بالتهميش وأهلها بالتجاهل بل ومنع لاجئوها من حق العودة إلى مساكنهم ومزارعهم. فليهزّ من أحب كتفيه ويشارك القاتل في فعلته وليدفع الدولارات والريالات في حفلات العبث تلك من ابتغى إلى ذلك سبيلا، ولكنه فليتذكر لحظات قبل بدئ حفلات "الزار" وصية الشهداء البررة وليتخيل مجرد تخيل أن (بماله) كم حراً شريفاً ينكل في معتقلات تحت الأرض أشبه بالجحيم يخنق ساكنيها عرق بعضهم البعض.

إن أولئك الحرائر الذين تنهشهم الذئاب في معسكرات (السخرة) الإلزامية، أو في أسواق (النخاسة) بقوافل الهجرة بشرق السودان وسيناء وليبيا واليمن وغيرها، أو الذين يقبعون بمعسكرات أشبه بالقبور في شرق السودان، وإن الذين يبيتون ليلهم ولا يعرفوا طعما للنوم سواء داخل الوطن خوفا من بطش سلطات القهر وأما في نقاط الحدود الدولية خوفا من الإبعاد، وإن الذين لا يجدون ما يقدمون ما يكفي في قنصليات الطاغية ومراكز جلب (الإتاوات القسرية) وكلهم طمعا في بعث الغبطة في أما عجوز يرجون زيارتها في إريتريا، بلغ اليأس منها مبلغه، وإن مواليداً شبَّتْ خارج أسوار الوطن، لكل هؤلاء ما مقدار الاهتمام بشؤونهم في خريطة (الوطن) الرحبة؟ أم أن الوطن يشمل بالرعاية فقط أولئك الذين يملكون جوالا وحاسوب ويغردون من خارجه! تمجيدا وتخليدا لدور الزعيم.

Top
X

Right Click

No Right Click