سيرة الأستاذ عيس سيد محمد رجل وطن وعلم وتربية - الحلقة الثانية

بقلم الأستاذ: حسين رمضان - كاتب ارتري

حياته العملية (التعليمية والإدارية): التعليم رسالة سامية ومما زادها شرفا هي رسالة الأنبياء والمرسلين

عيس سيد محمد 1فبعثهم الله للأمم لهدايتهم بالعلم إلى الحق المبين قولاً وعملاً وهنالك الكثير من الشواهد على فضائل العلم والتعلم.. لا يسع المجال لذكرها.

بعد تخرج الأستاذ سيد عيسى قدم شهادته مشفوعة بشهادات دورات تدريبية والتي تحصل عليها من خلال التحاقه ببعض المعاهد في اسمرا اثناء دراسته في كلية المعلمين، إلى مدير التعليم في كرن الأستاذ سعد الدين محمد وكان نائبه الأستاذ بشير خليفة حمد هداد ركا، للتدريس في القسم المتوسط، فعبد الاطلاع على شهاداته وإعجابهم بها ولكن عامل السن كان عائق لقبوله في هيئة تدريس الثانوية فقرروا أن يكون قبوله بعد سنتين من تاريخه على الأقل، ولكن في النهاية رأوا أن يحيلوا ملفه إلى مدير مدرسة البنين الأستاذ نور، وهو من الشخصيات القوية والنظامية و المرتبة وله اهتمامات وهوايات متعددة وقد سبق أن درّس الطالب سيد عيسى في المرحلة الابتدائية سابقاً فتفاجأ بحضوره إليه فما كان منه إلا أن قبل تعيينه متجاوزاً عن سنه تقديراً لإمكانياته ومقدراته التعليمية واصراره على التعليم، فأمره التدريس بالفصل الأول ووجد تجاوب وقبول واندماج ملحوظ من الطلاب وقد يكون السبب تقارب السن بينهم، وأيضاً أسلوب الأستاذ سيد عيسى كان ممتع في التدريس حيث كان يتعهدهم بالأناشيد العربية والانجليزية وبعض الفقرات الترفيهية فولد هذا فيهم أحساس بالاستئناس به وكما اسلفنا لعدم وجود فوارق كبيرة في السن بينهم، وبينما الأمر كذلك حدث إن غاب مدرس اللغة الانجليزية في الفصل الخامس فتم تكليف الأستاذ عيسى لتدريسهم هذه المادة فوجد قبولا كبيرا وانشراح صدر من الطلاب فبعد عودة المدرس من إجازته رفض الطلاب أن يدرسهم وطالبوا المدير استمرار الأستاذ سيد عيسى معهم ولكن المدير عنفهم وأعاد المعلم إلى فصله، وتكرر نفس المشهد تقريباً في الفصل الرابع، وهنا أراد المدير أن يعرف سبب تمسك الطلاب بالأستاذ سيد عيسى فحضر إحدى حصصه متخفيا في الفصل بدون علمه لتقييمها وفعلا تفاجأ المدير بطريقة تدريسه فشكره على تفانيه في التدريس كما كانت المفاجأة للأستاذ من حضور المدير لحصته دون علمه. وقال له لو كنت أعلم بوجودك في الفصل لما أكملت الحصة، ثم اصدر المدير قراراً من الغد بأن يدرس الأستاذ سيد عيسى مادة اللغة الانجليزية للفصل الرابع والخامس والسادس في المدرسة، ولكن الأستاذ تخوف من هذا القرار وهو يعلم في قرارة نفسه أن المعلمين في المدرسة أكبر منه سناً وممارسة وخبرة بل حجماً، ولكن ليس في الأمر حيلة ولابد من قبول القرار فمنذ ذلك اليوم والأستاذ سيد عيسى هو المعلم البارع والحاذق والرجل الصبور الوقور الذي أحب مهنته من وجدانه الداخلي ولا يضاهي حبه هذا شيء البتة لأنه كان يهوى مهنة التدريس فتمشق حسامها وجال وصال شرقا وغرباً في البلاد وابلى في ساحاتها بلاءً حسناً، والشاهد في ذلك قد عرضت عليه مناصب سياسية وقيادية وذات عائد مادي مجزي ومعنوي واسع ومكانة اجتماعية مرموقة ولكنه آثر مهنة التدريس فأعرض عن غيرها.

والسبب أن المناصب السياسية كان يظن أنها مقيدة لحريته وتحد من حركته الاجتماعية وتلقائيته في ممارسة شؤونه اليومية وكما أنها محفوفة بالمخاطر نظراً لما يتبعها من الحراسات الأمنية المشددة فلا يستطيع أن يشارك في المناسبات الأسرية والأهلية بحرية واستقلالية تامة وله شواهد في هذا حيث كان يرى ويسمع أن مديري المديريات وأصحاب المناسب العليا في البلاد لا يستطيعون الخروج والدخول كما يشاؤون والبعض قد يصبح أذن وعين للجهات الرسمية مرغماً فيتأذى شخص ما ظلماً وهو بريء.. وفعلاً كان موفقا في النأي بنفسه عن المناصب والألقاب السياسية فهي إن صح التعبير عبارة عن قنابل موقوتة قد تنفجر وتصيب في مقتل في أي لحظة.

وبعد ثلاثة سنوات من التدريس في مدرسة كرن المتوسطة تمت إعارته إلى قرية (هبرو) لمدة ثلاثة أسابيع والسبب الأستاذ علي نصرور مدرس اللغة الإنجليزية طلب إجازة زواج، ووافق الأستاذ بالرغم أنه لأول مرة يخرج للقرية أو الريف فحياته كلها كانت في المدن - كرن واسمرا. وبعد انتهاء المدة عاد إلى كرن ومنها تم نقله الي (نارو) ووجد في تلك المنطقة الارتياح والانبساط والإستئناس لما احاطوه به سكانها من الإهتمام والحب والتعامل الراقي فأحبهم وأحبوه وكان عيش سكانها رغدا فقد حباهم الله بثروة زراعية وحيوانية كبيرة فيأتون إليه بالألبان واللحوم والسمن فأغدقوا عليه خير كثير، وكان رئيس لجنة المدرسة في (نارو) الأخ محمد سعيد شريف، وهو رجل دين وتجارة ويمتاز بالعقلانية والحكمة وحسن الضيافة وله بشاشة تعلو وجهه وعندما يأتي من السفر يُحضر للأستاذ سيد عيسى بعض العطايا مثل السكر والشاي والرز وغيره فقويت العلاقة بينهما، وامتدت الصداقات والتواصل فيما بعد إلى دول المهجر. والبعض منهم موجود الآن في بور تسودان وكسلا وآخرون في مناطق مختلفة والتواصل شبه مستمر، ودرسّ الأستاذ سيد عيسى في قرية (نارو) لمدة سنتين، ومنها صدرت أوامر نقله إلى مدينة نفقة وفي تلك الفترة ظهر مكون يسمى (محبر شوعتي) وفي ذلك الوقت كانت الحكومة الإثيوبية تقوم بحملات اعتقالات واسعة في أوساط الشعب بتهمة دعم الثورة، ونتيجة لذلك اعتقل الأخ والأستاذ إدريس كبين وهو مسئول الساحل كله ووجدوا في بيته قائمة بأسماء بعض المدرسين من ابناء الساحل فاعتقلوهم جميعاً ويذكر منهم الأستاذ محمد علي نقاش مدير مدرسة نقفه والأستاذ محمد علي حاج ومحمد علي إسماعيل - رحمه الله - وأخوه عبدالقادر إسماعيل ولم ينجو من الاعتقال إلا الأستاذ سيد عيسى سيد محمد والأستاذ محمود هيابو والأستاذ صالح عبدالله علي شيخ، والاستاذ حسين محمد صالح دويد، والأستاذ محمود بلال، والأستاذ لاكي مدرس اللغة الأمهرية، والقائمة طويلة ثم جاء التوجيه من الجهات المختصة للأستاذ سيد عيسى إدارة المدرسة حتى يفرج عن مديرها محمد علي نقاش، وذلك لخبرته التراكمية في مهنة التدريس في كرن وقرية (هبرو، ونارو) ثم افرج عن المدير السابق بعد ستة أشهر تقريبا، والحق يقال إن النظام الأثيوبي في تلك الفترة كان عادلاً في محاكمة المعتقلين فمن أكمل المدة المقررة يفرج عنه ويعاد إلي مهنته، وواصل الأستاذ التدريس في مدرسة نقفة للفصول (الخامس والسادس والسابع والثامن) في تدريس مادته المحببه اللغة الإنجليزية ولمدة سنتين.

ثم عادة مرة أخرى إلى كرن لتدريس المرحلة المتوسطة والثانوية ولكن ادارة المدرسة ولحاجتها إلى سكرتير رأت أن يُكلف الأستاذ في هذه الوظيفة ولكنه رفض هذا المنصب.. وفي ذلك الوقت كانت تجري ترتيبات لعقد اختبار للمعلمين لشغل مناصب ادارية عليا ومن ضمن قائمة الترشيح كان الأستاذ سيد عيسى وبلغ عددهم عشرة معلم فاجتاز الأستاذ سيد عيسى الاختبار بجدارة وتفوق فأول منصب شغله أن أضبح مديراً لمدرسة أغردات بنين خلفاً لمديرها السابق محمود ادم أسناي، والذي تم نقله إلى مدينة هيكوتا، وللأسف الشديد لم يحدث اندماج أو تجانس بين المدير الجديد سيد عيسى وأعضاء هيئة التدريس في هذه المدرسة وذلك لشدته في تطبيق الأنظمة وهم كانوا متساهلين في الحضور والانصراف أثناء وقت الدوام، فاصدر أوامره للحارس بعدم فتح باب المدرسة قبل انتهاء اليوم الدراسي، وهؤلاء رفعوا شكوى الي مسؤول التعليم في اغردات الشيخ حامد عبدالهادي ولكن بعد أن عرف الحقيقة رفض الشكوى وشكر المدير الجديد على ضبط الأمور وبعد فترة وجيزة تفهم المعلمون الأمر وأصبح الجميع نظامياً في تطبيق الأنظمة واللوائح، ولهذا كان له مردود إيجابي على التحصيل العلمي للطلاب وسمعة المدرسة، ومن المعلمين المتميزين في مدرسة اغردات يذكر منهم الأستاذ (عبدالله أسد والأستاذ عمار سليمان والأستاذ فبراي والأستاذ قرماى والأستاذ محمود نوراى والأستاذ محمد علي عثمان بخيت - رحمهم الله - وآخرين). ثم جاء قرار نقل الأستاذ من اغردات إلى كرن ليصبح مدير مدرسة البنين بالإضافة إلى عضو تنفيذية وأمين صندوق اتحاد المعلمين.

ونظراً لمغادرة مدير مديرية كرن لمنصبه تم اختيار لجنة برئاسة الأستاذ سيد عيسى لترتيب حفل الوداع للأستاذ (القنزمش اباي هبتي)، فيقول الأستاذ سيد عيسى أخذني أمباي هبتي جانباً أثناء الحفل وقال لي بالحرف الواحد كنت ادافع عنك حتى هذه اللحظة وأنت لا تدري، فهناك جهات وشخصيات تريد بك سوءاً ويتهامسون ويتغامزون ويقولون أن لك أخوة في الجبهة رؤساء فدائيين واستخباراتيين ومنهم المناضل صالح حيوتي رئيس الأمن والاستخبارات، والمناضل صالح سيد ويقولون عنهم إن هؤلاء يقتلون الناس بإلقاء القنابل عليهم وسبق أن حدث شيء من ذلك في منطقة (طنقلحز، ومحاد عد سيدي) وقال له حتى أنا حذروني منك ولكن قلت لهم الانسان لا يؤاخذ بجريرة غيره وأنا لم أسمع ولم أر منه إلا كل خير، عليه يجب أن تغادر هذه المدينة في أسرع وقت وكل الذين حواليك هم جواسيس وأعين للحكومة ويتحيننون الفرص.. وكان صادقاً في نصحه وعلى هذا قدم طلب نقله إلى اسمرا ليبعد من كيد الكائدين.

وفي اسمرا تم تعيينه مديراً للمدرسة الإسلامية الخيرية المتوسطة وفصولها تبدأ من الخامس وحتى الثامن واستمر فيها لمدة ثلاثة سنوات، وهي مرتبة ترتيباً جيدا ولها لجنة إدارية قوية مكونة من كبار تجار اسمرا، ومنهم الأخ محمد حجي حسن رئيساً، و عبدالقادر جوهر أميناً للمالية، والمغفور له بإذن الله الأخ ابراهيم حقوص سكرتيرا وآخرون، ويأتي دعم هذه المدرسة من إيجارات الأوقاف الخيرية في اسمرا حيث أوقف بعض التجار مباني لهذا الأمر، وبالإضافة لما كانت تتمتع به المدرسة من مستوى رفيع في التدريس كان لها أنشطة رياضية وثقافية واجتماعية كبيرة، ومن الطرائف التي حدثت للأستاذ في هذه المدرسة، في إحدى الأيام أتى أحد أولياء الطلاب وهو من الأثرياء المعروفين في اسمرا وشخصية معروفة للجميع وبعد دخوله للمدرسة مر على مكتب المعلمين.. وسألهم أين المدير فأشاروا إلى مكتبه فذهب ودخل وبعد السلام سأل المدير سيد عيسى أين مدير المدرسة فقال له أنا المدير فصرخ الرجل مستغرباً ومندهشاً أأنت المدير قال له نعم.. والسبب طبعاً الأستاذ سيد عيسى كان صغير في العمر والحجم ومن طبعه وكما هي عادته حتى الآن التواضع.. فجلس الرجل معه لمدة نصف ساعة حيث كان يريد أن يفهم لماذا ضرب أحد المعلمين ابنه وبعد نقاش غادر مكتب واثناء خروجه التقى بنائب المدير وهو المرحوم الأستاذ عبدالقادر خليفة آدم، وهو من أشهر المعلمين في اسمرا و رجل تقي وحافظ للقرآن وقال له الزائر عندكم شخصيات مرموقة في اسمرا فكيف يكون مدير مدرستكم صغير السن رد عليه مستنكراً وهل المسؤولية تقدر بالحجم؟.

ثم تم ترقية الأستاذ سيد عيسى إلى موجه فني لمدارس عموم أسمرا، وقد كان هنالك هاجس يؤرق الاستاذ ألا وهو تكملة دراسته الجامعية فدعم هذا التوجه بحضور عدد من الدورات الدراسية والتدريبية المكثفة لتحسين مستواه التعليمي ثم نال دبلوم علوم سياسية ثاني جامعة، وأيضاً دبلوم علوم إدارية ثاني جامعة من جامعة ادريس أبابا فرع اسمرة، ومن ثم التحق بجامعة اسمرا (لدراسة القانون) ومجموع ما تحصل عليه الأستاذ من الدراسات المتنوعة يعادل شهادة (الماجستير) في تلك الفترة.

ثم حدث أمر هام حيث أحيل مفتش التعليم في كرن والساحل الأستاذ (انيشة) إلى المعاش فجاءت الترشيحات من عدة جهات رسمية وشعبية للأستاذ التقدم لشغل هذه الوظيفة فبلغ عدد المتقدمين أكثر من سبعين معلم وإداري، فوجد الأستاذ دعم قوي حتى بعض المرشحين سحبوا ترشحهم لصالحه، ففاز بمنصب مفتش وضابط التعليم في كرن والساحل بتفوق كبير على منافسيه واستمر في هذا المنصب لمدة ثلاثة سنوات.

إلى اللقاء في الحلقة القادمة...

Top
X

Right Click

No Right Click