موقف السودان من أفورقي.. تدابير الشتاء والصيف

بقلم الأستاذ: محمود عثمان إيلوس - كاتب وبـاحث ومحلل سياسي

تقرأ في صحيفة الصيحة السودانية؛ مقالا تحت عنوان ”أما آن الأوان لاقتلاع طاغية إرتريا“ للطيب مصطفى؛

فتصاب بحزن عميق لفقدان المصداقية وتسطيح العقل واعتماد ردود الأفعال المشحونة بعظمة الذات، والطيب مصطفى ليس كاتبا فحسب وانما هو رجل حضور في الصفوف الأولى في التأثيرات في القرار السوداني لدورة الإنقاذ خلال العقود الثلاثة المنصرمة، وكلنا ربما تابع مساجلاته العنيفة لصالح انفصال الجنوب السوداني.

توقعت؛ وأنا أقرأ ذلك المقال؛ أنني سأصل الى بيت القصيد في مكان ما في متن المقال للخروج بالمضمون الذي يليق بمراجعات حقيقية وتبني رؤية تصحيحية جديدة في استراتيجيات السودان الرسمي تجاه إرتريا؛ إذ هكذا اعتاد الناس حينما يكتب الكبار بين يدي الحرب والسلم والصراعات الإقليمية وضرورات صناعة مواقف تكتيكية واستراتيجية.

لم أخرج بهذا وانما خرجت بذات الخيبات التي دائما ما أخرج بها حينما أقرأ في ذات الملف لاسحاق فضل الله.

حينما أكتب شيئا عن السياسة بين إرتريا والسودان أشعر دائما باستقلالية تلقائية بأنني إرتري سوداني، أبحث عن مدخل الى العقل النخبي السوداني لتجاوز أزمة التفكير من طرف واحد وحديث الغني والفقير؛ أزمة نحن صنعنا هذا، ونحن المربون ونحن المطعمون، في مشهد شبيه بمشهد التعامل المصري والعربي تجاه السودان.

في مطلع التسعينات، في لحظات الأمل البكر، ونحن خشوع أمام عظمة الانتاج الأسطوري للنضال وتحقيق الاستقلال الوطني الإرتري، كنا نتحدث الى أساتذتنا وهم يتصاعدون في قيادة أجهزة الانقاذ بأن تكون لهم أدوار في تشكل إدراك سوداني لمشكلات إرتريا وتبني توجه استراتجي لاستقرار إرتريا على أسس المساواة والعدالة؛ استدعاء للواقع الذي انفردت به الجبهة الشعبية منذ نهاية الثمانينات؛ وخوفا من احتمالات تصاعد مشروعات تغراي تغرنيا والمساس بواقع الاستقرار الإرتري، سوى أن النخب والقيادات السودانية كانت أسيرة تحاربها في معارضة نظام في مقام نظام المرحوم جعفر محمد نميري، وكانوا يتصورون أن أسياس أفورقي رجل مناضل محاط بالوداعة والبراءة، محدود التجارب يبحث عن مساندات سياسية لارساء حكمه وبسط سلطته وبناء وطن إرتري مستقر، لذلك لم يكونوا يقبلون رايا مخالفا لحسن نياتهم تجاه تبسيط أمر أسياس أفورقي، لأن السودان السياسي لم تكن له قراءات مسبقة لتفاصيل مجريات الأمور داخل الثورة الإرترية إلا ما كان يتعلق بالمساس الأمني لكونها ملفا مدرجا بالاستخبارات والأجهزة الأمنية.

كانت اول لفتة تعرفت من خلالها الأحزاب السودانية بما فيها الحركة الاسلامية السودانية او الجبهة الاسلامية القومية على الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا تمثلت في حضورها مؤتمر الجبهة الشعبية الثاني في 1987 في الأراضي المحررة في الساحل، وهو المؤتمر الاستثنائي الكبير عددا واعدادا وتمكنا وتطلعا نحو قيام الدولة حيث صعد أسياس أفورقي - رسميا - رئيسا.

ويبدو أن الجبهة القومية أدركت أن الجبهة الشعبية هو التنظيم الذي سيدير إرتريا بعد الاستقلال، ومن هناك بدأ الاهتمام وربما التنسيق فيما بعد؛ عقب قيام ثورة الإنقاذ.

ولا شك أن حكومة الانقاذ واجهزة الحركة الاسلامية السودانية ادت دورا ايجابيا ومساندا أثناء دخول الجيش الشعبي الى أسمرا.
من الخطأ أن تتصور السياسة السودانية بأن السودان هو الذي نصب أسياس أفورقي رئيسا لإرتريا، والأخطر من ذلك أن تظل هذه المقولة متحكمة في التفكير القيادي الانقاذي الحاكم،إذ أن اسياس أفورقي أعد نفسه ومشروعه السياسي القومي الأيدلوجي منذ وقت مبكر، منذ السبعينات، حيث قاد تنظيما عسكريا سياسيا، يعد من أقوى التنظيمات الثورية في افريقيا، وأسياس أفورقي لم يكن حالما من خلف النظريات وانما هو رجل يحسن ادارة مشروعاته ومباشرة مهامه في الميدان.

قصة أسياس أفورقي وخلفيات مشروعه وقدراته على فهم وقراءة خصومه بشكل اختراقي خطير لم تكتب بعد، بل ربما من الصعب كتابتها بشكل متكامل وحقيقي لما أحيط بها من خفايا واسرار، منذ التحاقه بالثورة في الميدان عام1966 وسرعة التحاقه بالدورة التدريبية في دولة الصين، وتصاعده الممرحل في قيادة كيانه ومشروعه للخلوص الى وطن ضيق لايقبل إلا نظرية الحكم الدكتاتوري.
وفي الحقيقة؛ السودان السياسي كان في غاية التخلف في فهم مشكلات الساحة الإرترية وقدومها السياسي محاددة لأهم المداخل الحدودية للسودان، لم يكن للسودان دور فيما يتعلق بالتراتيب المستقبلية لإرتريا، والأدهى والأمر؛ أن السودان ربما شهد في بعض ملفاته الأمنية كيف ان اسياس افورقي استغل الواقع السوداني في اغتيال قيادات ارترية مهمة على اراضيه في سبيل تكامل مشروعه السياسي الايدلوجي الإنفرادي.

ولعله من الأهمية الاشارة هنا إلى ان القيادات السياسية التنفيذية في السودان ظلت تتجنب الالتقاء بالقيادات الإرترية المعارضة موكلة المهام كلها الى الأجهزة الأمنية، ولعل اللقاء السياسي العلني في تاريخ السودان كان لقاء الرئيس البشير في الخرطوم بالتنظيمات الإرترية المعارضة في الخرطوم أبان تحالف صنعاء؛ التحالف السوداني الإثيوبي اليمني الذي حاول محاصرة نظام أسمرا اقتصاديا وجيوسياسيا، ضمن تدابير السياسية في مواسم الشتاء والصيف في سياسة السودان تجاه إرتريا.

منذ عام 1992 بدأ الحوار المباشر بين قطبي النظامين في أسمرا والخرطوم، بين أسياس أفورقي والشيخ الدكتور حسن الترابي رحمه الله؛ حول تعاونهما واستقرار نظاميهما.

وكانت حاجة الدكتور الترابي تتركز حول تأمين الانقاذ من اختراقات الشرق من خلال التعاون المتبادل بينه وبين أسياس أفورقي، بمثل ذات التعامل مع ملس زناوي في إثيوبيا، ومثل ذلك كانت حاجة أسياس أفورقي تتركز حول الدخول الى سدرة الفكر السياسي المتحكم في ثورة الإنقاذ، وتأمين مشروعه من أي تحرك سوداني اسلامي.

الترابي؛ رجل الفكر والسياسة والدهاء والمكر، كان تغلب عليه سياسة التعامل التكتيكي اكثر من الاستراتيجيات، لأن حدود مشروعه لم تكن على حدود الخارطة السياسية السودانية، وكان أسياس يدرك ذلك ويخاف من ذلك، لذلك ضرباته دائما ضربة الخائفين المنتقمين.
حضرت كثيرا مجالس القيادات الإرترية المعارضة، فكنت اجد ان فهم القيادات الأرترية يميل إلى ان الدكتور حسن الترابي لم يكن يفهم طبيعة اسياس افورقي، بيد ان الحقيقة ان الترابي فهم أسياس أفورقي من خلال تعامله الأول في مطلع التسعينات، وقد علمت من بعض من كان يحضر مجالس الترابي الخاصة بمقولته الخطيرة بأنه يتعامل مع هذا الرجل النصراني الخبيث من منطلق تكتيكي لتأمين حدود السودان الشرقية ولو لفترة قصيرة، ولاشك ان اسياس افورقي كان يدرك ذلك.

ولعل هذه بدايات وعي السودان السياسي تجاه مشكلة الرجل الحاكم في إرتريا، سوى أن ازمة قوى الحكم في السودان ظلت في ازمة الأنانية والعلو الفكري، والنظرة من جانب واحد، بل والتفكير من جانب واحد، وقد ساعد في ذلك غياب مشروع سياسي ارتري موحد يناهض مشروع الحكم الدكتاتوري الذي بسطه أسياس أفورقي رؤية وعملا، إذ ظلت القوى السياسية الإرترية مصابة بأزمة الثقة تجاه القيادات السودانية وهالة الخوف من قدرات اسياس أفورقي.

لم تكن للسودان الكبير أدوار في بناء قيادات إرترية تشكل عمقا استراتيجيا للعلاقات الإرترية السودانية، وهنا يجب ان نفرق ما بين السياسة والعطاء السوداني غير المحدود علما وإيواء وأهلية وأمنا للمجتمع الإرتري، فمن ذا الذي سينكر فضل السودان العظيم تجاه الشعب الإرتري، فمتى مايحاصر الإنسان الإرتري فإن داره الآمنه هي ديار السودان، ومثل السودان في ذلك كمثل شجرة ظلية مثمرة تأويك إليها وتشعرك بأمان دونما تدخل إنساني.

عشرات الآلاف من ابناء ارتريا تخرجو وتأهلوا في الجامعات السودانية والفضل لايرجع في السياسات الرسمية وانما في طبيعة المجتمع السوداني الأهلي.

انك ان طفت العالم فربما تجد حكومات وحريات رسمية لكنك سوف لن تجد ذلك الأمان المجتمعي الذي تجده لدى المجتمع السوداني.

لم يتمكن السودان الرسمي، لاسيما في ظل ثورة الإنقاذ من الجلوس في بساط واحد مع البنية السياسية الإرترية الضعيفة لتقويتها والتفكير المتبادل معها، وانما اختارت سياسة التوجيه والأمر والنهي الذي لايقبل الحوار، في حين بدأ اسياس أفورقي في تنشيط قدراته في اختراق المكونات السياسية السودانية وصنع في اسمرا شكلا جديدا لمعارضة سودانية، اشرف اسياس افورقي مباشرة على ملف المعارضة السودانية، وصنع علاقات شخصية مع القيادات السودانية المعارضة وصولا الى تجانس رؤيته مع حلم المعارضة السودانية في محاصرة مشروع الانقاذ الحضاري واسقاط حكومتها، وقد شهد السودان تغيرات كبيرة منذ مؤتمر القرارات المصيرية للمعارضة السودانية في اسمرا عام 1995.

لا اقول أن القيادة السودانية لم تفهم مؤخرا عقلية اسياس افورقي ومكره وخطورته، سوى انها لم يكن لها امكانية توحيد القرار السوداني تجاه مصارعته أو مسالمته، لذلك ظلت سياسة السودان تجاه ارتريا كتعامل الأهالي مع الفيضانات الموسمية، تشهد العلاقات تصاعدا صيفيا الى حد رائحة الحروب، ثم تتنزل الى سلم وتعاون شتوي، وظل اسياس افورقي يشكل مصدر الصعود والنزول، بينما ظل السودان الرسمي يفعل سياسة التدابير في صيفه وشتائه مع اسياس افورقي.

في الأعوام 2004 و2005 الى مطلع 2006 حاول جهاز الأمن السوداني تبني قرار سياسي سوداني متماسك في دعم المعارضة الإرترية ومواجهة اسياس افورقي بالمثل وبشكل علني، لكن هذه المبادرات التجريبية لم تستمر ولم تنجح لوجود ضعف في المكون السياسي الارتري المعارض وعدم قدرته في خطف الفرص مقابل قدرة اسياس افورقي في تحريك صداقاته ومعارفه السياسية المؤثرة في القرار السوداني، الى ان برز القرار السوداني الذي اخذ شكلا شبه استراتيجي، مابعد انعزال الترابي قمة الانقاذ، بطرد المعارضة الإرترية من اراضيه، في النصف الأخير من عام 2006، وكنت قد وضحت وجهة نظري حول ذلك من خلال مقال تحت عنوان ”السودان وملف المعارضة الإرترية“ http://www.adoulis.net/entry.php?id=721، لتذهب المعارضة بعد ذلك الى اثيويبا، وهذه قصة اخرى لامجال للخوض فيها في هذا المقام.

شهدت العلاقات الشخصية بين عمر البشير واسياس افورقي حميمية عميقة في دورة هذا الشتاء في العلاقات الارترية السودانية، فقد عجل عمر البشير زيارة خفيفة الى ارتريا لغرض الاطمئنان على صحة بقاء نظام أسياس افورقي عقب حركة 21 يناير 2013 في ارتريا، وكأن النظامين ربط بقاء احدهما ببقاء النظام الآخر، بل وقد شهد السودان لصالح أسياس افورقي حينما صدر تقرير لجنة الحقوق الأممية الذي رصد وجود انتهاك حقوق بشكل ممنهج ومنظم في أرتريا، كما سكت السودان الرسمي أمام الرحيل الخطير للشباب الإرتري من جحيم النظام القمعي في ارتريا، وهي ذات الفترة التي شهدت تصاعدا خطيرا لتجارة البشرة والبيع والشراء، وفقد السودان اهليته الاسلامية التي تفرض عليه الجهر بالحقيقة ومواجهة الابتلاء الذي تعرض له الشعب الارتري المجاور.

اليوم لايسعدنا خراب العلاقات الرسمية بين ارتريا والسودان الشقيق، لأننا ننتمي الى كلا الوطنين،فلن نفرح بنصر سوداني على ارتريا، او بنصر ارتري على السودان، لن يسعدني، ولن يسعد اي انسان ارتري ان تستباح الأراضي الإرترية لتشكل مكيدة للسودان، ومثل ذلك لايسعدنا أن تتبني السياسة السودانية تراتيب اقليمية لقيادة معركة ضد ارتريا.

ذكرت في مكان آخر بأن اي نزاع ارتري سوداني عسكري سينتهي برحيل اسياس افورقي، لأن الشعب الإرتري كله معارض لنظام أسياس، ولكن الشيئ الخطير إذا اخذ النزاع فرزا اقليميا، لتدخل اثيوبيا لصالح السودان ومصر لصالح ارتريا فإن النتائح لن تكون محصورة في سقوط اسياس، بل ربما تتعدى لتشكل خطرا في بقاء هذه الحكومات كلها، فأثيوبيا بسدها وتنميتها الخليجية وظاهرة استقرارها السطحي تعاني من ازمات وبراكين تحت الأرض ربما تنفجر في اي احداث كبرى، فالنزاعات الخارجية ليست دائما تشكل التماسك الداخلي وانما تنتج في بعض الأحيان ثورات وخلافات داخلية.

وبدهي ان نقول ان النزاعات العسكرية في الشرق الأوسط ليست ذاتية في غالبها وانما تديرها مصالح أجنبية اكثر عمقا، فإذا دخلت مصر الى ارتريا لمحاصر السودان فلن تكون مصرية خالصة وانما ستأتي بمدعماتها الاقليمية والدولية.

أقول أننا لا نصنع الخيارات ولكننا نعبر عن وجهات نظرنا ونحن في غاية الحزن والقلق من هذا الانحطاط السياسي الذي يصيب وطننا واقليمنا.

لاحرج في السياسة ان يراجع السودان مواقفه ويجري اتصالات عاجلة بمجتمع المعارضة وادارة تفكير في المسألة الإرترية.

لاخيار أمام السودان الا التعامل الصادق مع اصحاب الشأن الإرتري وصناعة تدابير سياسية ذكية في تعجيل اسقاط النظام الإرتري.
صحيح ان القوى السياسية الإرترية المعارضة تمر بوهن على وهن، وتشهد سكونا خطيرا سوى ان المعارضات يتم صناعة القوة فيها في مثل هذه المواقف، لاسيما وان القوى السياسية الارترية المعارضة تمتاز بوجود كادر مخلص ومقتدرومؤمن بقضية التغيير السياسي في ارتريا اذا ما وجد السند السياسي.

الحل لايكمن في التهديد والوعيد وانما في تبني استراتيجية وتصحيح اخطاء ومواقف سياسية. الحل لايكمن في الشحن والتفريغ وانما في تبني سياسة بديلة لاستقرار العلاقات الأخوية بين بلدينا وشعبينا الارتري والسوداني. فاليسقط اسياس افورقي فورا والتبقى ارتريا بلدا مقدسا غير قابل للتدنيس والامتهان.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click