القرن الإفريقي: سيناريوهات الحريق وآفاق التهدئة

سماديت كوم Samadit.com

بقلم المناضل الأستاذ: حامد سلمان المصدر: الحزب الفدرالي الديمقراطي الارتري

شكلت اللحظة التي وضع فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قدميه فوق أرض جزيرة سواكن السودانية، شكلت صدمة كبرى

في صفوف دول محور أبوظبي الذي تمثله حتى اللحظة كل من أبوظبي والرياض والقاهرة وأسمرا، وقد بدا أردوغان مزهوا بحصوله على صك الولاية على جزيرة سواكن التي تُجسّد العصر الذهبي للتوسع العثماني في الضفة الغربية للبحر الأحمر، وقد أحدث هذا الإختراق الإستراتيجي حالة من الهلع الشديد لدى عراب المحور، ولي عهد أبوظبي بشكل خاص، حيث رأى فيه تهديدا مباشرا لوجود قاعدته العسكرية في ميناء عصب الإرتري، كما تراءت له بصمة سرية لا تخطؤها العين لنجاح القيادة السياسية القطرية التي أصبحت تشكل كابوسا حقيقيا لطموحاته التوسعية عبر تأكيدها العملي المتكرر بأنها تفكر وتتحرك في بطئ وصمت مغلف بإطار من القيم الأخلاقية والإنسانية بوقوفها المعلن مع الخيارات الحرة للشعوب وبالكثير من الدهاء والعمق السياسي أيضا، ليس هذا فحسب، فقد مثلت زيارة أردوغان والحفاوة التي قوبل بها في السودان والكرم الذي وجده عند القيادة السودانية ضربة أخرى موجعة لمحور أبوظبي الذي كان يعوّل كثيرا على موقف القيادة السودانية في مواجهة المحن السياسية الكبرى التي جلبها محمد بن زايد ورفيقه بن سلمان على المنطقة دون أن تكون لهم أي خطة بديلة للخروج من شرنقتها، لقد نثر البشير، سامحه الله، المزيد من الملح على جرح محور أبوظبي عندما قفز من سفينة الجنون والعته السياسي في اللحظة المناسبة متأبطا وثيقة رفع الحظر الإقتصادي الأمريكي عن بلاده، وهو ما أدى إلى تسارع وتيرة الصراع الإقليمي بين محور أبوظبي وحلف قطر.

إن حالة الغليان السياسي المفاجئ التي أعقبت زيارة أردوغان للسواحل السودانية على البحر الأحمر، إنما هي حالة مدروسة وممنهجة تسعى إلى تحقيق غاية سياسية استراتيجية تتمثل في توجيه ضربة موجعة إلى النظام السوداني بإحتلال الشريط الساحلي السوداني وربما إسقاط حكومة البشير متى ما كان ذلك ممكنا، كما تهدف بذات القدر إلى توجيه صفعة كبرى إلى دول الحلف القطري بانتزاع سواكن من بين مخالب أردوغان، وهو هدف يسعى محور أبوظبي إلى تحقيقه بأي ثمن.

ولمعرفة مدى إمكانية أو استحالة تحقيق الهدف المذكور، تجدر بنا الإشارة إلى بعض الحقائق المتعلقة بموازين القوى العسكرية واللوجستية لبعض الدول التي من المرجح أن تكون ميدانا للصراع الإقليمي المحتمل في منطقة القرن الإفريقي.

السودان:

يأتي السودان حسب تصنيف عام 2017م في المرتبة الثامنة إفريقيا من حيث القدرات العسكرية ولديه ما يتجاوز ربع مليون رجل تحت السلاح، كما يمتلك الجيش السوداني أسلحة ومعدات عسكرية متطورة نسبيا، وفوق كل ذلك يتمتع الجيش السوداني بخبرات قتالية ميدانية هائلة اكتسبها من خلال خوض الحروب الأهلية ضد المتمردين في مختلف الجبهات.

إرتريا:

لولا أنها دولة ذات سيادة معترف بها من قبل الأمم المتحدة ولديها علم مرفوع جنبا إلى جنب مع أعلام الأمم الحرة، لأمكن القول أن دولة إرتريا في الوقت الراهن لا تملك جيشا يحمي حدودها، صحيح أن إرتريا كانت تملك جيشا قويا تجاوز تعداده 300.000 رجل تحت السلاح بحلول العام 2001م، إلا أن ذاك الجيش تبخر بشكل محزن وتحول إلى أثر بعد عين كنتيجة مباشرة للإستنزاف البشري المستمر منذ بداية العام 2003م، إن أفواج الشباب الإرتري التي تغص بها معسكرات اللجوء في السودان وإثيوبيا والضحايا الذين تتداول أخبارهم وسائل الإعلام من حين لآخر وهم يموتون غرقا في مياه البحر الأبيض المتوسط في طريقهم إلى أوروبا، هم عديد الجيش الإرتري المفترض، لقد استخدم نظام أسياس أفورقي سياسة التدمير الممنهج للجيش الإرتري حيث تحولت البلاد إلى حفرة مظلمة يسودها القتل والإختطافات والتشغيل القسري والإستعباد والتهجير وجرائم التطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية، وهو ما أجبر الشباب الإرتري، لاسيما أفراد الجيش الإرتري إلى المخاطرة بحياتهم للخروج من البلاد بأي ثمن، وبالنتيجة، تم إفراغ إرتريا من قواها البشرية الفاعلة، إن مجموع ما تملكه إرتريا من جيش في الوقت الراهن لا يتجاوز 40 ألف جندي جلهم من كبار السن، هذا عدا عن كونه جيش منهك وفقير التسليح ويعاني من هبوط الروح المعنوية وليس مستعدا لخوض أي حرب حقيقية، وللتدليل على الحالة المأساوية التي وصل إليها الجيش الإرتري تجدر الإشارة إلى أن الجيش الصومالي يأتي في المرتبة الثلاثين في سلم الجيوش الإفريقية وفقا لتصنيف العام 2017م وهو بكل الأحوال أفضل حالا من الجيش الإرتري بالرغم مما يعانيه الصومال من مشكلات كبيرة.

في ظل هذه الحقائق الماثلة، يأتي السؤال البديهي عن مدى إمكانية قيام حرب متكافئة بين السودان وإرتريا، وعن مغزى الأخبار المتداولة في الآونة الأخيرة عن حرب وشيكة بين الدولتين، بما في ذلك الأنباء المتداولة عن أسلحة مصرية وخبراء عسكريين في قاعدة ساوا العسكرية في غرب إرتريا والحشود العسكرية في الحدود بين السودان وإرتريا، واجتماعات سرية لأطراف عسكرية وأمنية تضم الإمارات ومصر ومجموعات سودانية وإثيوبية متمردة.

لا شك في أن نظام إسياس أفورقي في إرتريا امتهن الإجرام والتآمر وحوّل إرتريا إلى مرتع خصب لنسج المؤامرات وساهم في تغذية النزاعات وخلق الفوضى في دول الإقليم، في اليمن والصومال وإثيوبيا وجيبوتي، ومن البديهي أن يستضيف أي جهة تحاول إلحاق الضرر بالسودان وإثيوبيا، ولكن، هل من الممكن أن يوفر النظام الإرتري ركيزة أساسية لقوة عسكرية بالحجم الذي تتطلبه مواجهة عسكرية كبرى بين مصر والإمارات وإرتريا من جهة والسودان وإثيوبيا من جهة أخرى ؟ في هذه الحالة، ستكون دول محور أبوظبي بحاجة إلى نشر ما لا يقل عن مائة ألف جندي مصري على الأقل، مصحوب بإسناد جوي من قاعدة عصب ”الإماراتية في إرتريا لكي تتمكن دول محول أبوظبي من خوض مواجهة عسكرية ذات مغزى مع الجيشين السوداني والإثيوبي في مساحة تمتد 1.517 كيلو متر هي طول الحدود بين إرتريا وكل من السودان وإثيوبيا، وهو أمر لا يمكن التفكير في حدوثه، على الأقل في المستقبل المنظور.

المصيدة:

يقوم محور أبوظبي ببث رسائل توحي بأن نظام عبد الفتاح السيسي في مصر عازم على مهاجمة إثيوبيا وتدمير طائراتها الحربية وهي لا تزال رابضة على المطارات داخل الأراضي الإثيوبية انطلاقا من قاعدة ساوا العسكرية وهنا لابد من الإشارة إلى حقيقة أخرى صادمة، وهي أن ما أطلقت عليه بعض وسائل الإعلام قاعدة ساوا العسكرية ليس في حقيقة الأمر إلا عبارة عن معسكر تدريب عسكري تقليدي لا يحتوي مطاره على مرابض كافية للطائرات ولا يمكن أن تتواجد به ثلاث طائرات في وقت واحد كونه لا يتوفر إلا على مدرج ضيق لا يتيح مناورة الإقلاع بشكل جيد، وهو مطار صغير جدا تم تصميمه خصيصا لإستقبال طائرة ديكتاتور إرتريا أسياس أفورقي عندما يزور المعسكر لحضور تخريج المتدربين من جنود الخدمة الوطنية.

إن القاعدة العسكرية التي يمكن الإعتماد عليها لتكون منطلقا لأي هجمات جوية مصرية من داخل إرتريا، من حيث المبدأ، هي القاعدة العسكرية والجوية في ميناء عصب التي طورتها حكومة أبوظبي لتلبية أهدافها التوسعية في اليمن والقرن الإفريقي وهي قاعدة تغص جنباتها بأكداس من الطائرات الحربية المتطورة ومن مختلف الطُّرُزْ.

يحتل الجيش المصري المرتبة الأولى في قائمة أقوى الجيوش الإفريقية بينما يأتي ترتيب الجيش الإثيوبي في المرتبة الثالثة إفريقيا، وهو ما يعني التكافؤ النسبي بين الجيشين، لكن، هل هناك نية حقيقية لدى حكومة عبد الفتاح السيسي للدخول في حرب مع إثيوبيا انطلاقا من الأراضي الإرترية ؟

إن الترويج لإحتمالات وقوع حرب وشيكة بين إثيوبيا ومصر في الآونة الأخيرة لا يعدوا كونه دعاية سياسية يقوم النظام المصري بتسريبها عمدا إلى وسائل الإعلام لشراء الوقت وتهدئة الشارع المصري الذي بدأ يشعر بعجز وقلة حيلة حكومة السيسي أمام الإصرار الإثيوبي على استكمال سد النهضة، فعبد الفتاح السيسي ليس معنيا بضمان الأمن القومي المصري بقدر عنايته بضمان تلبية النزوات التوسعية لولي عهد أبوظبي، وبالتالي فإن كل الضجة الإعلامية المثارة لتضخيم التهديد المصري لإثيوبيا تهدف إلى تشتيت الإنتباه عن الخطة العسكرية التي ينوي محور أبوظبي تنفيذها للإستيلاء على الشريط الساحلي للسودان على البحر الأحمر.

كما تنطوي حملة الترويج الإعلامي بشأن ”الحشود الإرترية والتواجد العسكري المصري في إرتريا على تجهيز مصيدة كبرى لإستدراج الجيش السوداني لحشد قواته ووضعها في حالة تأهب قصوى على طول حدوده مع إرتريا التي تمتد لما يزيد قليلا عن 600 كيلومتر لمجابهة العدوان الإرتري المحتمل، وبالفعل قام الجيش السوداني بتحريك قوات الدعم السريع وهي قوات متمرسة في الحروب الخاطفة وتتمتع بالمرونة وسرعة الحركة، حيث تمركزت هذه القوات على مشارف الحدود الإرترية في ولاية كسلا، وبالمقابل لا توجد أي مؤشرات على وجود حشود عسكرية إرترية على الجانب الإرتري من الحدود حسب آخر المعلومات المتوفرة، لأن الحقيقة التي ما مفر منها هي أن نظام إسياس أفورقي في إرتريا لا يملك قوات عسكرية يحشدها على الحدود لمواجهة قوات الدعم السريع، وهو ما سوف يغري هذه القوات بالتوغل داخل الحدود الإرترية مدفوعة بنشوة انتصار رخيص الثمن، ويمكن القول أن قوات الجيش السوداني لن تجد مقاومة حقيقية عند اختراقها للحدود الإرترية حتى تتجاوز ”قاعدة ساوا العسكرية وربما تصل إلى مشارف هضبة بارنتو، ولكنها من الصعب أن تتقدم أبعد من ذلك لأن الطبيعة التضاريسية الجبلية ستكبح جماح تقدمها مع وجود القليل من المقاومة التي يمكن أن توفرها بقايا الجيش الإرتري مسنودة بوحدات قتالية من مرتزقة محمد بن زايد، ومن هنا فإننا نخلص إلى القول بأن الضجة الإعلامية المثارة حول تواجد أسلحة مصرية وخبراء عسكرين في ”قاعدة ساوا العسكرية ليست إلا لإستدراج الجيش السوداني إلى مصيدة في عمق الأراضي الإرترية.

لدغة الثعبان:

عندما تتوغل القوات السودانية داخل الأراضي الإرترية وتحتل معسكر ساوا، أو قاعدة ساوا العسكرية كما يحلوا لوسائل الإعلام تسميتها، ستنغرس أقدام الجيش السوداني في هضبة بارنتو في العمق الإرتري، ولا شك أن الجيش السوداني سيكون مزهوا بتحقيق تقدم عسكري سهل أمام قوات إرترية محطمة معنويا وعاجزة عسكريا، حينها سيكون الوقت مناسبا للجيش المصري لتنفيذ لدغة الثعبان ضد الجيش السوداني بالتحرك البري من مثلث حلايب مسنودا بقطع بحرية عبر مياه البحر الأحمر للإنقضاض على الجيش السوداني والتقدم بمحاذات الشريط الساحلي واحتلال السواحل السودانية (670 كلم) بما في ذلك ميناء سواكن بما يمثله من رمزية سياسية وانتصار معنوي لمحور أبوظبي، وفي هذه الحالة، لن يكون أمام الجيش السوداني إلا خوض حرب غير متكافئة في جبهتين متباعدتين جغرافيا، وسيكون من الصعب على الجيش السوداني تحقيق الإنتصار في أي من الجبهتين، قد يبدوا تطور الأحداث على هذا النحو الخطير أمر مستبعد وغير منطقي للوهلة الأولى، كونه ينطوي على تدخلات أجنبية واختراقات لحدود دول مستقلة، ولكنه وارد الحدوث إذا تم وضعه ضمن سياق التطورات السياسية والعسكرية التي تشهدها دول كثيرة في الإقليم كما هو الحال في اليمن وسوريا وليبيا، وتعتبر الأطماع التوسعية لدولة الإمارات العربية المتحدة هي القوة الدافعة والمحرك الرئيسي وراء كل هذه التطورات.

حلف قطر، تماسك الموقف السياسي وخذلان الجغرافيا:

تشكل دولة قطر بجانب تركيا والسودان وربما إثيوبيا، حلفا سياسيا وعسكريا، وإن كان غير معلن بصفة رسمية، ويعتبر اجتماع قادة أركان الجيوش الثلاث (قطر وتركيا والسودان) في الخامس والعشرين من ديسمبر 2017م في العاصمة السودانية الخرطوم أحدث المؤشرات على وجود هذا الحلف، قد يبدوا هذا الحلف قويا ومتماسكا من حيث تنسيق المواقف السياسية والعسكرية، لا سيما التنسيق والتعاون السياسي والأمني والعسكري بين أهم الفاعلين في الحلف قطر وتركيا، إلا أن المشكلة الكبرى التي يمكن أن تشكل عائقا أمام فاعلية هذا الحلف وتَحُول دون بروزه كحلف قوي ومؤثر تكمن في الشتات الجغرافي بين دوله، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالتواجد العسكري في البحر الأحمر، فالدولة الوحيدة التي تطل على هذا الممر المائي الحيوي من بين دول الحلف القطري هي جمهورية السودان، فهل يمكن أن تقوم تركيا، مثلا، بتحريك أسطول حربي يتمركز في الشريط الساحلي السوداني على البحر الأحمر لردع أي تقدم مصري بهذا الإتجاه ؟ هذا ما ستجيب عليه تطورات الأحداث في الأيام والأسابيع القليلة القادمة، وإذا حدث ذلك فإن التهافت للسيطرة على الساحل الغربي للبحر الأحمر يكون قد تأزم بشكل غير مسبوق ودخل مرحلة الصدام الدموي بين القوى الإقليمية.

الدور الإثيوبي المنتظر:

من حيث المبدأ، إثيوبيا ملزمة باتفاقيات التعاون الدفاعي المشترك مع جمهورية السودان، واتفاقية التعاون الأمني والعسكري بينها وبين دولة قطر، غير أن مسألة دخول إثيوبيا في مقامرة حرب يؤلف الجيش المصري أحد أضلاعها الرئيسية ليست بتلك السهولة التي يروج لها الإعلام، فالقرار السياسي في إثيوبيا، ليس طليقا كما هو الحال بالنسبة لأطراف الصراع الأخرى، لا سيما في القضايا المتعلقة بدخول حرب من هذا النوع ليست على الحدود المباشرة لإثيوبيا، وسيكون رئيس الوزراء الإثيوبي هيلي مريم دسالينج بحاجة إلى موافقة البرلمان الإثيوبي للدخول في حرب ضد مصر إلى جانب السودان، وهو ما لا يمكن التنبؤ بحدوثه في ظل ما يعانيه التحالف الحاكم في إثيوبيا من حالة شقاق داخلي، وفوق كل ذلك فإن السياسة الخارجية للدولة الإثيوبية في عهد التحالف الحاكم ومنذ عهد الرئيس الراحل ملس زيناوي تتمحور حول تحقيق الأهداف الإقتصادية الداخلية، وتعتبر إثيوبيا الفقر أهم أعداءها وتعمل على محاربته من خلال ربط سياساتها الخارجية بمبدأ الربح والخسارة الإقتصادية وهو ما يقلل من احتمالية انجرارها في حرب غير مضمونة العواقب.

الدور المحتمل لحركات المعارضة في الجانبين:-

حركات التمرد والمعارضة الإثيوبية في إرتريا:

تعرضت الحركات الإثيوبية المتمردة التي يرعاها النظام الإرتري لحالة من التآكل التدريجي خلال السنوات القليلة الماضية، وهي تعاني من جفاف شديد في الموارد البشرية، حالها كحال الجيش الإرتري، فقد خلق النظام الإرتري وضعا أمنيا وسياسيا ومعيشيا لا يمكن القبول بالعيش تحته مهما كانت الأسباب، فقد ظل النظام الإرتري يتعامل مع المعارضة الإثيوبية وكأنها إحدى وحدات جيشه المقاتلة، حيث يتحكم بحركتها بشكل مطلق ويخضعها لنفس الشروط القاسية التي فرضها على الجيش الإرتري بما في ذلك استخدامها لقمع أي تمرد داخل جيشه، وهو ما حدث بالفعل عند محاولة الإنقلاب العسكري التي قادها العقيد سعيد علي حجاي في يناير 2013م، وبالنتيجة توقف إلتحاق الإثيوبيين بالمجموعات المتمردة في إرتريا بشكل تام منذ العام 2014م، ثم بدأت هذه القوات بالهروب من إرتريا وتسليم أسلحتها للجيش الإثيوبي الذي وفر من جانبه شروطا مغرية لكل من ينسلخ عن تلك المعارضة، وكان انسلاخ قائد المجموعات الإثيوبية المسلحة المعروفة اختصارا بـــ”دمحيت” الجنرال مولا أسقدوم في سبتمبر 2015م قاصمة الظهر لتواجد المجموعات الإثيوبية المسلحة في إرتريا، حيث سلم الجنرال أسقدوم بكامل جيشه وعتاده إلى الجيش الإثيوبي، وتبعته مجموعات أخرى في مراحل لاحقة، ومن هنا يمكننا القول، أن المعارضة الإثيوبية في إرتريا تعاني من شح قاتل في مواردها البشرية وهو ما يعني عدم قدرتها على القيام بأي دور فعال ضد الحكومة الإثيوبية مهما توفرت لها من معينات أخرى إلا على سبيل القيام بأعمال إرهابية وتفجيرات هنا وهناك.

حركات التمرد والمعارضة السودانية في إرتريا:

كانت العلاقات الأمنية والسياسية بين النظامين السوداني والإرتري جيدة جدا حتى وقت قريب، غير أن تفاعلات الأزمة الخليجية (أزمة حصار قطر) أدت إلى حالة من الفتور السياسي بين النظامين حيث اختار السودان الوقوف في المنطقة الرمادية في بداية الأزمنة ثم حزم أمره وأبدى تعاطفا كاملا مع الجانب القطري، بينما دخلت إرتريا في تحالف وتنسيق إلى جانب دول الحصار، على أن التنسيق بين الأجهزة الأمنية في البلدين ظل حاضرا حتى قبل أسابيع قليلة خلت، ولا أدلَّ على ذلك من تمكن عناصر استخبارات النظام الإرتري من اختطاف معارض إرتري من داخل مقر إقامته في مدينة كسلا الحدودية والدخول به إلى الأراضي الإرترية في شهر نوفمبر الماضي، وهو المناضل الإرتري محمد علي ود سيدنا.

وقد أدت العلاقات السياسية والأمنية الجيدة بين النظامين الإرتري والسوداني إلى منع ظهور مجموعات معارضة مسلحة في الجانبين طوال العقد الماضي، وهو أمرٌ لا ينفي تواجد هذه المجموعات بشكل أو آخر، ونظرا لعدم توفر القوى البشرية لمعارضة سودانية تنطلق من إرتريا لمواجهة الحكومة السودانية، يحاول النظام الإرتري في الآونة الأخيرة نقل بعض الوحدات المقاتلة من مجموعات المعارضة السودانية من إقليم دارفور في غرب السودان ويقوم بتجميعها في غرب إرتريا تمهيدا لإرسالها إلى الداخل السوداني كمجموعات تخريبية، وذلك بالتنسيق الكامل مع محور أبوظبي، على الرغم مما تنطوي عليه مهمة نقل مجموعات قتالية من غرب السودان إلى إرتريا من صعوبات لوجستية.

أما مجموعات المعارضة السودانية التي تنتمي إلى مجتمعات شرق السودان (البجا والرشايدة)، فقد وقّعت اتفاقية سلام شرق السودان مع الحكومة السودانية في العام 2006م، وأصحبت جزءا من الحكومة السودانية منذ وقت مبكر، وليس لديها أي نية ظاهرة للعودة إلى إرتريا لمحاربة الحكومة السودانية انطلاقا من هناك، لا سيما وأنها لا تزال تحتفظ في ذاكرتها التأريخية بما يكفي من التجارب المريرة مع النظام الإرتري، علاوة على أنها تحظى بهامش معقول من الحرية للعمل من داخل السودان كمعارضة سياسية سلمية.

المعارضة الإرترية في السودان وإثيوبيا:

يمكن الجزم بأن المعارضة الإرترية في شرق السودان هي الحاضر الأكبر والغائب الأكبر في آن واحد، فهي حاضرة بثقلها الجماهيري الهائل، وبمخزون بشري داعم يتواجد في معسكرات اللجوء والمدن بشرق السودان يتجاوز تعداده المليون نَسَمة غالبيته العظمى من الشباب، وهذا المخزون البشري الغاضب ظل طوال السنوات الماضية متحفزا للإنقضاض على نظام أسمرا وتحطيمه في أقرب سانحة ممكنة، إلا أن العلاقات السياسية والأمنية بين النظامين الإرتري والسوداني لعبت دور لجام شديد الإحكام ظل يكبح رغبة الشعب الإرتري في التخلص من نظام إسياس أفورقي واستبداله بنظام سياسي ديمقراطي يحترم الحقوق والحريات، هناك إجماع حقيقي لدى مختلف الشرائح الإرترية بأن النظام الحاكم في إرتريا يمثل الشر المطلق ويجب الخلاص منه بأي ثمن، وحينها فقط يمكن للشعب الإرتري أن يتنفس الصعداء، ليس واضحا حتى الآن إن كانت الحكومة السودانية راغبة في دعم المعارضة الإرترية، أو على الأقل، التوقف عن مطاردتها والسماح لها بالعمل انطلاقا من الأراضي السودانية لتغيير النظام الإرتري، فلم يصدر عن السودان الرسمي أي إشارة بهذا الإتجاه، إلا أن المؤكد هو أن حكومة السودان غاضبة جدا من نظام أسياس أفورقي هذه المرة.

إن اللحظة التي يفكر فيها الرئيس السوداني عمر البشير بقطع حبال الود بشكل نهائي مع حليفه السابق أسياس أفورقي، ستشكل منصة الإنطلاق لكتابة فصل جديد في التأريخ الإرتري، نظرا لتوفر كافة العوامل الذاتية والموضوعية التي من شأنها وضع النهاية المرجوة لنظام إسياس أفورقي على يد أبناء الشعب الإرتري وفي زمن قياسي.

وبالنظر إلى العوامل الذاتية داخل المعارضة الإرترية ومدى استعدادها لخوض حرب لتغيير النظام الإرتري، فإن مما لا شك فيه أن المعارضة الإرترية مستعدة، بل هي على أهبة الإستعداد، لخوض تجربة تغيير النظام الديكتاتوري دون تردد، متى ما توفرت لها أرضية الإنطلاق وحصلت على الدعم المعنوي والسياسي من دول الجوار، غير أن ضرورات تقنين وإحكام مركز القيادة والسيطرة يتطلب من كافة الفصائل الإرترية المعارضة الإستعداد والقبول بالإنضواء تحت لواء حلف سياسي وعسكري واحد، وهنا يأتي الدور الريادي لجبهة التحرير الإرترية لما تمثله من ثقل تأريخي وطني وما تتمتع به من قبول جماهيري في أوساط الإرتريين، ومن المؤكد أن جبهة التحرير الإرترية قادرة على توسيع مواعينها وأجهزتها التنظيمية لقيادة مسيرة التغيير الديمقراطي وإنجاز مهمة الإنتصار على نظام أسياس أفورقي الديكتاتوري، وبعد الإنتهاء من مهمة التغيير، يكون المجال السياسي مُشرَعا لجميع المكونات والأحزاب السياسية الإرترية لإثراء الحياة السياسية من خلال المشاركة السياسية الديمقراطية والتعددية الحزبية وصولا إلى تشكيل حكومة ديمقراطية منتخبة عبر أصوات الناخبين الإرتريين.

أما بالنسبة لوجود المعارضة الإرترية في إثيوبيا، فإن الحكومة الإثيوبية لعبت دورا إيجابيا في احتضان المعارضة الإرترية وحماية قياداتها من التسليم إلى النظام الإرتري في أوقات الشدة، وهو موقف إنساني وأخلاقي نبيل يستحق الإشادة والثناء، إلا أن الحكومة الإثيوبية ظلت مترددة وأحجمت عن تقديم أي دعم حقيقي ذا مغزى يرتقي بالمعارضة الإرترية إلى مستوى القدرة على مجابهة آلة القمع الديكتاتوري لنظام أسياس أفورقي بالرغم من حالة العداء السافر والمعلن بين نظام الديكتاتور أفورقي والحكومة الإثيوبية، وبالتالي ظلت المعارضة الإرترية في إثيوبيا تعيش في حالة من الركود السياسي وليس أمامها نقطة ضوء تهتدي بها لقيادة مسيرة التغيير الديمقراطي انطلاقا من إثيوبيا بالرغم من وجود ما لا يقل عن مائة ألف شاب من الإرتريين الهاربين حديثا من قمع النظام الإرتري في الأراضي الإثيوبية مستعدين لتحمل كل الأعباء النضالية من أجل إزاحة النظام الإرتري من سدة الحكم ليعودوا إلى ديارهم التي شردهم منها نظام أفورقي.

الخلاصة:

إن المعانات الإنسانية المؤلمة التي يشاهدها العالم اليوم في الصراعات الدموية الجارية في اليمن وليبيا وسوريا كفيلة بجعل العقلاء من صناع القرار في دول القرن الإفريقي يفكرون مَليًّا قبل فتح جروح جديدة على جسد شعوب القرن الإفريقي الذي أنهكته الحروب والقمع السياسي والجفاف والمجاعات المتكررة، إلا أن الواقع على الأرض يؤكد بأن مصائر الشعوب الضعيفة أصبحت رهينة لأطماع توسعية لدول تملك الكثير من المال والقليل من القيم والأخلاق الإنسانية، وتعمل على توسيع نفوذها دون الإلتفات إلى الأثمان الباهظة التي تدفعها هذه الشعوب، وتدل كل المؤشرات والتجارب بأن دولة الإمارات العربية المتحدة التي تقود محور أبوظبي هي الدولة الأكثر تعطشا لدماء الشعوب والأشد فتكا بالأبرياء وهو ما يتجلى في سلوكها وممارساتها التوسعية الهمجية في اليمن وليبيا وإرتريا، وحضورها القهري التطفلي غير المرحب به في الصومال وموانئ الدول الضعيفة على السواحل الإفريقية، وتحرشاتها المستمرة بالتنمر على كل من حاول النأي بنفسه عن مشاريعها التوسعية الهدامة في الشرق الأوسط.

وإنه لمن المؤسف حقا أن تتحول دولة الإمارات من رمز للتقدم والنجاحات الإقتصادية وريادة الأعمال إلى كلب مسعور يفتك بكل من يقابله على الطريق.

ومهما بلغت حدة التوتر السياسي والتصعيد العسكري، فإن الوقت مازال في صالح كل من مصر والسودان، الطرفان الأكثر تضررا من أي حرب محتملة، للتفكير في آفاق التهدئة والسعي لإفساح المجال أمام الجهود السياسية والدبلوماسية لحل أي خلافات بينهما، والإمتناع عن الإنزلاق إلى أي مواجهة عسكرية من شأنها جلب الدمار والخراب إلى المنطقة، وهو ما تسعى إليه دولة الإمارات العربية المتحدة، للأسف، من خلال تصدرها لمحور أبوظبي وإثارتها القلاقل ونشر الموت والفوضى في كل الأصقاع.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click