السرد الإريتري بين البوح والفعل

بقلم الأستاذ: خالد محمد طه

الحضور الكريم، السلام عليكم، تحية ود وإمتنان. سعدت كثيرا، أن اكون بينكم اليوم، وأن اتحدث عبر هذه المنبر، وفي هذا الموقع

التنويري الأكثر أهمية (إتحاد الكٌتاب السودانيين).

السرد الإرتري 2 اولا لكم جميعا ولكل الناهضين بالهم الكتابي، عميق التعازي في فقد الاستاذ، الكاتب، العقيد، الصحفي/ احمد طه محمد الحسن (الجنرال)، نسأل الله ان يجعل مثواه الجنة وأن يجزيه عن وطنه ومواطنيه كل الخير، البركة فيكم، واود أن أشير هنا إلى أن الفقيد كان في يوما من الايام أحد اصدقاء الثورة الإرترية، وكان يردد مع اخرين في نهاية كل أمسية (تصبحون على وطن) !. التهنئة والتذكير باليوم العالمي للترجمة، هي بطاقة عبور نفتتح بها هذه الجلسة التي اتمنى أن تجدوا فيها إضافة نوعية تزيد كم التراكم المعرفي الثر الذي يحمله الحضور المتميز في هذه الأمسية.

من خلال هذه الامسية اود تسجيل صوت شكر للزملاء الكُتاب اعضاء جماعة تجاوز، لوقفتهم المبدئية المبكرة مع حق الشعب الارتري في الحرية والاستقلال. واجد هذا الجمع وهذا المكان هو الأنسب لإيصال ذلك الشكر للمبدع الذين كسروا حاجز الصمت في ذلك الزمان الكالح، الشكر للاساتذة/ محمد خلف الله عبد الله، الدكتور/ اسامة الخواض، ومحمد عبد الرحمن حسن (بوب)، محمد عبد الرحمن شقل، خالد عبد الله حسن، عبد اللطيف علي الفكي، رقيه وراق، السر السيد، محمد مدني، عادل عبد الرحمن بخيت، والراحل المقيم عمار النوراني، الذين حققوا التجاوز فعلا.

التحية ايضا للمبدعين د. تاج الدين نور الدائم، الاستاذ/ الفاضل كباشي، الفنان/ حسان علي احمد، الفنان/ عصام عبد الحفيظ، الفنان/ الطاهر بشرى، الفنان/ السماني لوال، والاعزاء في فرقتي الاصدقاء المسرحية ومجموعة عقد الجلاد.

الموقع الجغرافي والعمق التاريخي المعروف لارتريا، يبين مدى التداخل والتنوع الاسني والثقافي بين شعوب المنطقة، ومكونات الشعب الارتري نفسه، ويظل فعل السرد في المجتمع الإرتري بأعمدته البيجاوية (او السودانية حسب توصيف الاستاذ محمد ابو القاسم حاج حمد)، والجئزية الجبلية، والعفرية الساحلية (يدخل لسان الساهو ضمن هذا التصنيف - حاج حمد)، فعل يومي راسخ، حيث يبدأ اليوم بحكاية وينتهي بقصة.

في الحالة الارترية، تُستدعى القصة، او تتم الاستعانة بالسرد في كافة التفاصيل اليومية، حيث ظلت الروايات متوارثة عبر الاجيال، وظل موقع الراوي موجود في كل المناسبات، وبمختلف الألسن، لكن، المكتوب منه يقترب من حد الإنعدام، مما يعني أننا امام تجربة مشافهة موغلة في القِدم، ولها اثار راسخة في الشخصية الارترية.

بالرغم من كل ذلك جاءت الكتابة السردية بكل اللغات الارترية التسع (التقرايت، التقرنية، البلين، النارا، البازين، العربية، البداويت، العفرية، الساهو)، بالاضافة الى اللغات الانجليزية والايطالية والفرنسية والامهرية، وهذا المنتج القليل الكم، المتنوع من حيث لغات الكتابة، المتناثر او المتابعد مظهريا استوجب وجود حركة ترجمة نشطة وبجودة مهنية وإبداعية عالية، مما شكل معضلة حقيقية وصعب اّلية التواصل بين الكًتاب فيما بينهم، فضلا عن التوصيل للمتلقين ! وهذه في تقديري من المشكلات الكبرى.

ما اود الاشارة اليه بشكل صريح، أن الواقع الارتري خلال السنوات ال 60 الماضية شهد أحداث جسام، شملت حروب وتضحيات، جرائم وإنتهاكات، ولجؤ وشتات، ثورة وصمود، وإنكسارت، هزائم وانتصارات، واّمال وإحباطات، وتحققت معجزات، وإنهارت قوى، ورسخت اخرى، تشكل وجدان جمعي، وبرزت دعاوي ردة ونكوص، وإنحفرت في الأذهان اّلاف الحكايا، فكما يقال (الحرب كلبة ولود !) لكن بين كل ذلك يمكننا ان نقول (تخلفت جبهة القول عن جبهة الفعل).

في المنتوج الادبي والإبداعي كان الشعر أغزر وارسخ، لكنه في اغلب الأحيان كُرس لاغراض الحشد التعبوي، ولان الابداع في أصله فعل تحرري، جاء المنتوج مشوها، يتبع الفعل السياسي، بدلا من انها يقوده او يبشر به، او يمهد له. ونجد أن التنظيمات السياسية، بلا استثناء، مارست مختلف أشكال فرض التبعية على الحركة الإبداعية، وكانت النتيجة تفريخ مثقفي السلطة بدلا عن إرساء سلطة المثقفين، والسلطة هنا هي كل مركز إستخدم الإبداع وفق مسارات معدة سلفا، جعلت المبدعين يقرفصون داخل الأوعية المتاحة.

من جهة الرواية، كانت محاولات المناضل الكاتب/ محمد سعيد ناود، في خمسينيات القرن الماضي، التي انتظرت 50 سنة اخرى قبل أن يأتي ما يرفدها، حيث صدرت روايات جيدة للاساتذة/ الامين محمد سعيد، واحمد طاهربادوري، احمد عمر شيخ، وأبوبكر كهال، وألم سقد تسفاي، وسلمون ضرار، وحجي جابر، وعبد الوهاب عثمان، وأسماء اخرى كثيرة جدا، قدمت محاولات جادة لكتابة الرواية.

لكن في الرواية المهجرية توجد ايضا محاولات وقع اصحابها في فخ التقريرية، والهتافية، وعدم معرفة المجتمع موضوع الرواية، وما يمكن تصنيفه بعبارة : غربة الكاتب. مع مشكلات اخرى متعلقة بشكل الكتابة، ناهيك عن سببها. بينما تغلب على الرواية المكتوبة في الداخل التهويمات وإيحاءات بعيدة عن الواقع الفعلي وضعت في سياق رمزي مقحم قلل من جودة النصوص. بين كل ذلك يُلاحظ خفوت صوت القلم الانثوي، واود تبيان تحفظي على إستخدام عبارة (الأدب النسوي)، لأنه لا يوجد نوع (جندر) للكتابة.

لكن لايمكن الحديث عن واقع السرد الارتري، او السوداني ارتري إلا بالحديث عن الاستاذة/ مها محجوب الرشيد، التي لم تكتب من ارتريا، لكنها كتبت بوجدان المنتمي لارتريا. وكما كان في مجال الشعر كُتاب لم يقف وجدانهم عند نقطة حدودية، مثل العميد الراحل/ محمد عثمان كجراي، والاستاذ/ محمد مدني، والعميد الراحل/ عبد الرحمن سكاب، والكبير الراحل/ محمد مفتاح الفيتوري، جاء في مضمار الرواية قلم سوداني اعتبره الارتريون صوت تناول مجتمع له إمتدادات في ارتريا ايضا، هو الكاتب الاستاذ/ حامد الناظر، لذ احتفوا بكتاباته ليس على مستوى التلقي فقط.

مثلما تفاعلوا مع كلمات محمد عبد الله شمو عندما كتب: (فعلى هذه السفوح المطمئنة، نحن قاتلنا سنينا... وإقتتلنا، نحن سجلنا التاّلف في إنفعالات الأجنة). وجدوها تشبههم !. أما القصة القصيرة في ارتريا، قد تأخرت نسبيا، لذا جاءت اكثر نضوج، ثم في بدايات التسعينيات كانت بدايتها المؤثرة، لكن بدايتها الفعلية كانت قبل ذلك في محاولات غير مكتملة النضج، لكنه تراكم أكسبها المتانة، والتنوع والثراء، في سنوات التسعينيات برزت اسماء كثيرة واعمال اكثر، عبد الرحيم شنقب، جمال عثمان همد، حامد ضرار، الغالي صالح، خالد محمد طه، فتحي عثمان، صلاح سينيوس، سمير يعقوب مارحاي، عبد القادر حكيم، عبد الجليل سليمان عبي، فتحية الشيخ، مصطفى محمد محمود، عثمان ادريس قلايدوس، محمد اسماعيل أنقا، سلمون تارقي، سلمون ضرار، محمد اسناي، صالح جزائري، الشهيد/ ابوبكر عثمان خيار، محجوب حامد ادم، ابراهيم كربيت.

وكانت الريادة في مجال القصص القصيرة جدا للكاتب الاستاذ/ ابراهيم ادريس محمد سليمان (ماركس)، برغم انه مقل في الانتاج إلا انه ظل الوحيد تقريبا الذي يكتب القصة القصيرة جدا منذ حوالي الثلاثة عقود.

وفي ادب السيرة صدرت العشرات من الكُتب كانت كلها عبارة عن مذكرات منها كتابات الاساتذة المناضلين/ علي محمد صالح، ومحمود كدان، والامين محمد سعيد، وسلمون ضرار، ومحمد سعيد ناود، الشهيد/ ادم قندفل، وكثيرين من الرعيل الاول والجيل الثاني في الثورة الارترية. ايضا صدرت مجموعة قصصية للكاتب الاستاذ/ ادريس ابعري، وللسفير الكاتب/ حامد ضرار، ولم يتسنى لاي من القصاصين الاخرين نشر اعمالهم على شكل كتاب، إذن تظهر أزمة النشر بوضوح، لكن تم سد ذلك النقص عبر النشر في الملاحق الأدبية والثقافية في صحيفتي (ارتريا الحديثة) و (النبض)، قبل أن يأتي التطور الأرحب والنشر عبر الوسائط الالكترونية.

فقط صاحب النشر عبر الانترنيت مشكلات في ضبط اللغة، وأحيانا إنحدار في التعاطي مع شروط كتابة القصة القصيرة، بحيث يصعب تصنيف المنتج، ويغلب على هذه الفئة الجديدة الميل الى رفض النقد والتقويم، والإصرار على أن يتم قبول أعمالهم على علاتها او يتحول الامر إلى سجالات غير حميدة !.

مشكلات الطباعة والنشر و التوزيع ستظل حاجز مهم، لناحية عدم توفر العاملين في هذا المجال، مع الانحسار العام لسوق المطبوعات الورقية، وتأثيرات النسخ والقرصنة وما يتصل من مصاعب.

هنالك خصوصية أخرى لدى معظم الكُتاب الارتريين، تتمثل في إيغالهم في المحلية، وعكسهم للعناصر المكونة لهوية بلادهم، بأبعادها الافريقية والعربية، كما أن معظم القصص مصبوغة بأثر وصعوبات مرحلة الكفاح المسلح، وفي ذات الوقت نجدها مسكونة بهاجس الحرية ومناهضة مختلف أشكال القمع الإجتماعي والسياسي.

هذه الكثافة في الانتاج القصصي ضمت اعمال من مسافات مختلفة، لكن الشاهد أن معظم هؤلاء تلقوا تعليمهم او جزء منه في السودان، حيث تفتحت مداركهم، وتبلورت مواهبهم، بل تشكلت توجهاتهم الفكرية ايضا، ولهم جميعا إهتمام بالواقع الادبي والابداعي والثقافي السوداني، ممن تلقى تعليمه في السودان وممن لم يفعل !.

لكن في المقابل نجد أن اهتمامات المثقف السوداني بالشأن الارتري في اتجاه مغاير، فالمركز الفكري والثقافي السوداني متجه نحو الشمال العربي، رغم الوشائج والمشتركات، حيث تمت صياغة او سياقة الوجدان الجمعي في تلك الناحية. وكانت لسنوات القطيعة الرسمية فعلها ايضا، فإكتمل انتاج العزلة، او تثبيت التنافر التدريجي.

بين الكم الهائل للكتب السودانية المعنية بالعلاقات مع دول الجوار نجد اسماء جدا قليلة شملت الواقع الارتري بنظرة إهتمام منهم الراحل الاستاذ/ محمد ابو القاسم حاج حمد، والراحل الاستاذ/ ابراهيم عبد القيوم، والاستاذ/ فتحي الضوء. أرى انه لابد من مراجعة تاريخية لهذا الاهمال، ولابد من مد جسور المعرفة، ليس تحديدا ناحية إرتريا بل نحو مجمل العمق الافريقي للسودان.

لكن سيظل الارتريين يتذكرون، انه في العام 1992، تكونت (جمعية فكر وإبداع)، وكان مقرها في مباني مدرسة الجالية العربية – الامل النوذجية حاليا - وكان مؤسسها الاستاذ، السوداني ايضا/ عبد الكريم احمد، ومن بين عضويتها برزت اسماء كثيرة نذكر منهم في مجال القصة القصيرة الاساتذة/ إبراهيم محمد عبد الله (أبرار)، و محمود ابوبكر الذي اتجه مؤخرا الى مجال صناعة السينما، وعبدالكريم احمدين، الجدير بالاشارة الى ان مدير مدرسة الجالية العربية في اسمرا كان وقتها الاستاذ العميد/ محمد عثمان كجراي.
وطبعا يمكننا ان نقول انه ليست الصدفة وحدها، هي التي جعلت مؤسسي الجمعية الادبية والرياضية بمدارس (الباشا/ صالح احمد كيكيا) للبنين والبنات، في بلدة حرقيقو الساحلية في منتصف أربعينيات وخمسينات القرن الماضي، كانوا الاساتذة الافاضل/ القائد الشهيد/ عثمان صالح سبي، والراحل الاستاذ/ محمد الامين يوسف حمد النيل. وهو ايضا سوداني عمل بالتدريس ثم بالخدمة المدنية في ارتريا. لهما الرحمة والمغفرة.

بالعودة لموضوع السرد: بالطبع ليس بالامكان في هذه المساحة رصد وتتبع مسارات تطور السرد في ارتريا، او الإلمام بكافة التفاصيل، لكن عموما يوجد ركون جماعي للمنحى الحداثي، فيما يتعلق بشكل الكتابة وإنحياز للتنويري في المتعلق بسبب الكتابة.
تبدو ارتريا بلدا مجهولا بالنسبة للكثيرين، وكذلك حال بلدان اخرى في الشرق الافريقي، ثقافيا لانكاد نعرف عنها شيئا، رغم أن اللغة العربية هي إحدى المكونات الاساسية للثقافة الارترية، وإمتداداتها الحضارية والانسانية.

هنا تستحضرني الدعوة التي اطلقها صديقي الدكتور/ عادل القصاص حول هذا الموضوع موخرا، والتي تتلخص في عبارة (أعرف نفسك، ثم أعرف قريبك) !.

عنوان الندوة كان: السرد الارتري - بين الفعل والبوح، كل ما تناولناه كان عن الفعل، اما حديثي عن البوح فقصير جدا وواضح جدا: متى ما وجدت مساحة للنشر، هنالك دوما مبدعين في الانتظار، ولأن العقليات المنغلقة الافق والخيال، في اي مكان كانت، تخشى من تمردات الفن والابداع وتأثيره على الجمهور، والوعي الجمعي، وإمكانية ذهاب الابداع بأشكال الوعي الى سياقات غير التي تريد، فهي تمارس دوما عمليات إزاحة وإقصاء يومي للمبدعين، أليس هذا بوح كافي ؟.

* نص الورقة التي قدمها الكاتب في منشط "رواق الوراقين" بدار إتحاد الكتاب السودانين ـ الخرطوم.

Top
X

Right Click

No Right Click