العماء الديمقراطي الأمريكي… أسمرة خارج نطاق الرؤية

بقلم الأستاذ: سامح المحاريق - كاتب أردني المصدر: جريدة القدس العربي

ما نسبة الأمريكيين الذين يعرفون بوجود بلد يسمى إرتيريا ؟ كم موظفاً في البيت الأبيض يعرف أين تقع أسمرة ؟ ومن يمكنه أن يقدم

لأعضاء الكونغرس ولو عرضاً موجزاً عن تاريخ المأساة المتواصلة في هذا البلد منذ عقدين من الزمن ؟

إرتيريا، مع أنها توصف بالنسخة الإفريقية من كوريا الشمالية، لم تستطع أن تلفت انتباه الإدارة الأمريكية على الإطلاق، ولم تحضر في حملات الصحافة الأمريكية، وباستثناء بضعة أفراد يشاركون في مظاهرة أو أخرى للتذكير بقضية هذا البلد، فإنها تبدو مفقودة وغير مقروءة لرادارات الحرية وحقوق الإنسان الأمريكية.

يحكم أسياس أفورقي إرتيريا بالحديد والنار فعلياً لا مجازياً، فجميع أهالي هذا البلد تقريباً رهائن عنده، وكثير من شبابها يهدرون عمرهم في التجنيد الإجباري، في دولة وضعت جميع مقدراتها تحت حماية إسرائيل لتضرب بعرض الحائط تاريخاً عربياً من مساعدة ثورتها ضد إثيوبيا، لدرجة أن الإعلام في بعض العواصم العربية كان يعتبرها حركة تحرر عربية، ومعها أيضاً أوجادين المتنازع عليها بين الصومال وإثيوبيا وكينيا، مع أن الصومال لم تكن يوماً دولة عربية من الناحية التاريخية أو العرقية أو الوطنية، وانضمامها للمجموعة العربية سنة 1974 أتى لأسباب كثيرة منها تطويق إثيوبيا التي تزامن أن شهدت في السنة ذاتها ثورة شيوعية غيرت مزاج المنطقة بشكل عام. ويبدو أن تدخلات كثيرة دفعت بصدام بين نظامي أديس أبابا ومقديشو الشيوعيين والمدعومين من موسكو، في استغلال رفيع المستوى لتناقضات الأعراق والأديان في القرن الإفريقي. أسياس افورقي ديكتاتور يمكن أن يحجز موقعاً مناسباً مع القذافي وموغابي وعيدي أمين وبوكاسا، ولكنه يختلف في أنه أضاف نكهة المراوغة التي تجعله أيضاً قريباً من مجايليه الثوريين الانتهازيين في حلقة القتلة في اليمن الجنوبي، ولذلك تبدو إقامته مستقرة في المنطقة، ويتخذ من وقت لآخر صفة العدائية، كما حدث في الصراع مع اليمن حول جزر حنيش، عندما تمكنت ارتيريا الصغيرة والفقيرة من إلحاق هزيمة سريعة وحاسمة باليمن الذي كان يعيش في لوثة (قات) علي عبد الله صالح، وكان الأخير في نكتة سياسية يطالب الأردن بأن تفتح الحدود من أجل أن يواجه اسرائيل، بينما لم يستطع الصمود أو الخروج بموقف مشرف من صراع مع دولة مجهرية، كل ما تمتلك من توثب يقوم على استثمار اسرائيلي يقيد الخاصرة الافريقية، ويضمن لاسرائيل إطلالة (قاتلة ورومانسية) على البحر الأحمر، الذي كان يعتبر بحيرة عربية مغلقة في ظل استمالة جمال عبد الناصر للإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي لجانبه، أو بتحييده في حالة كانت فاتورة مواقفه أعلى مما يمكن أن تتحمله بلاده.

كل هذه التعقيدات لم تدفع الأمريكيين لأن يهتموا بإرتيريا، ولا أن يشملوها برعايتهم الكبيرة للعدالة والحرية، ولم تهتم هوليوود بإدراجها على قائمة الوعي الأمريكي، ولأن إرتيريا لم تكن على قائمة المستعمرات القديمة فإن فرنسا وبلجيكا أيضاً لم تهتما بشؤونها، على الشاكلة التي حدثت عند تدخلهما في مالي والكونغو، ذلك أن البلدان الاستعمارية تخلف وراءها عادة مجموعة من المصالح التي تستدعي الحماية من وقت لآخر في ظل حالات الاستقلال الهشة التي سجلتها القارة الإفريقية، ومع ذلك، فإن الكثير من المفكرين العرب أخذوا يعتقدون أن الدعوة الأمريكية أتت في صولة لحسم التاريخ من أجل نموذجها الرأسمالي الديمقراطي، وأنها تهتم بهذه المنطقة من العالم ضمن برنامج سياسي، يقف على أبعاد حضارية وأخرى استراتيجية، والحقيقة، أن التاريخ الذي كان يسعى فوكوياما لإنهائه ضمن الشرط الأمريكي (المفلسف والمستند إلى كل التأويلات الشيطانية على تراث الدولة المعاصرة في أوروبا) لم يكن سوى تاريخ الصراع على الثروة والمنافسة على الموارد والتجارة.

هذه الأسباب ليست كافية لتفسير العزوف الأمريكي عن ممارسة دورها التمديني (الذي لا يختلف كثيراً عن الاستعمار التقليدي) في إرتيريا وغيرها من الدول الإفريقية، فالأمريكيون مهتمون بالمنافسين المحتملين على مستوى القدرة على بناء دولة تستطيع أن تؤدي دوراً في العالم، بمعنى أن عقليتهم السينمائية لا تكترث كثيراً بالكومبارس، ولكنها مهتمة بأصحاب الأدوار الثانوية الذين يمكن أن يطالبوا بدور البطولة. ويعرف الأمريكيون أن العرب مؤهلين بصورة منفردة في العراق ومصر وسوريا والسعودية والجزائر، لأن يطالبوا بأدوار أوسع، كما أنه لا يمكن التكهن بمدى الدور الذي يمكنهم أداءه في حالة حصولهم على تكتل منسجم يخلو من الصراع البيني.

كان عبد الناصر مقلقاً للأمريكيين بصورة عميقة، وربما في بعض المراحل أكثر من السوفييت أنفسهم، لأنه لم يكن يقدم النموذج الشمولي المرعب الذي ألصقه الأمريكيون بالكتلة الشرقية، كما أنه كان صوتاً بارزاً في حركة التحرر الوطنية، وقيادة ملهمة في المنطقة العربية، كان يجب تحجيمها، وقدم عبد الناصر من خلال تهالك نموذجه الداخلي جميع الأسباب الممكنة للأمريكيين وغيرهم، ولكنهم مع ذلك استمروا في التحسس من الدول العربية التي تنتج زعامات تمتلك طموحات خارج حدودها، كما كان الأمر مع صدام حسين.

قبل أن يرتكب صدام حسين خطيئته الكبرى باحتلال الكويت، كان يقدم نموذجاً مقلقاً للأمريكيين، فدول الخليج العربي كانت قبلت بدوره حارساً للبوابة الشرقية، وكانت تستطيع أن تستوعبه إلى حد بعيد، ولذلك لم يتردد الأمريكيون ليس في إخراجه من الكويت، وإنما في محاصرته والقضاء عليه تماماً. والأمريكيون سيكونون مستعدين دائماً لتقديم العقوبة اللازمة في حالة الخروج عن النص واختطاف ولو جملة لافتة في السيناريو المكتوب للعالم.

أسياس أفورقي في المقابل يدرك ذلك، ويعرف دوره، ويكتفي بأن يفرض نفسه على ملايين الإرتيريين في صمت وبدون كثير من الجلبة، ولذلك فإن قائمة الانتهاكات الإرتيرية لحقوق الإنسان تبقى مجرد ملف مهمل حتى لو وثقته الأمم المتحدة، ومن فيض الانتهاكات يصبح الاسترقاق والسجن والاختفاء القسري والتعذيب والاضطهاد والاغتصاب والقتل، غيضاً ضئيلاً لأنه لا يمارس على مجموعات معينة، وإنما يمتد ليصبح أسلوباً للحياة في إرتيريا.

إرتيريا مجرد نموذج، ولكنه فاقع وواضح بما يكفي لدحض الشعارات الأمريكية التي يبدو أنها ليست مختصة بحقوق الإنسان وكرامته، إلا في الدول التي يمكن أن تشكل منافساً محتملاً، أو أن تمتلك طموحات لدور أكبر في عالم تراه الولايات المتحدة من منظور أفلام الغرب المتوحش والمافيا، عالم من الأضواء و(الأكشن) فجزء مؤثر من تقاليد السطوة الأمريكية يقوم أساساً على الدعاية ومنطقها، بدون أن يكون بالضرورة ممثلاً لأسباب واقعية وحقيقية، وعلى غير مبعدة من إرتيريا ما زال العالم يتذكر الصورة المهينة للمارينز الأمريكي عندما سقطوا في فخاخ بنات آوى في مقديشو.

Top
X

Right Click

No Right Click