إريتريا: إعلام الحكومة وإعلام المهجر

أجرى التحقيق الأستاذ: محمد سرحان المصدر: الإفريقية

وقف "إسياس أفورقي" في أول خطاب بعد استقلال إرتريا، في 20 يونيو 1991م، في استاد أسمرة، معلنا حظر أي نشاط سياسي

خارج تنظيم "الجبهة الشعبية"، وفي حديث آخر نقل عنه قوله: "هؤلاء الذين يفكرون أن من الممكن أن تكون هناك ديمقراطية في هذه البلاد يستطيعون التفكير هكذا في عالم آخر".

أسياس أفورقي

وبالحديث عن حرية الإعلام والتعبير، وبما أنه من غير المنطقي أن تكون هناك حرية في ظل نظام ليس حرا، فلعل البدء بكلمات "أفورقي" تنبئ القارئ بما هو عليه حال حرية الإعلام في إرتريا.

فمنذ استقلالها لم تعرف إرتريا لا حرية في التعبير ولا حرية في الإعلام، فهي لا تزال تحافظ على مكانها للعام التاسع على التوالي في ذيل مؤشر حرية الصحافة الذي تصدره منظمة "مراسلون بلا حدود" إذ تحتل المركز 179من بين 180 دولة يشملها التقرير، تليها فقط كوريا الشمالية، حتى أن تقارير كثيرة تسميها "كوريا الشمالية الإفريقية".

الإعلام من الثورة إلى الدولة:

فبعد أن كانت لغة الإعلام الإرتري في مرحلة التحرير لغة حماسية عاطفية تحث الجماهير على النضال والتضحية، وقع بعد الاستقلال عام 1991، في إشكالية صعوبة الانتقال إلى إعلام الدولة، ورغم حظر النشاط الياسي بعيدا عن الجبهة الشعبية، بقي الباب مفتوحا على استحياء أمام بعض الصحف المستقلة، ومسموحا بوجود مراسلين أجانب في الفترة من 1997 حتى 2001، إلى أن تم طرد كافة المراسلين الأجانب واعتقال عشرات الصحفيين وحظر الصحافة المحلية المستقلة.

إعلام الصوت الواحد:

ومن حينها تتشكل الحالة الإعلامية في إرتريا وتقوم على الصوت الواحد، الرأي فقط وليس هناك هامش لرأي آخر، فلا صوت هنا يُسمع غير صوت النظام، ولا يُسمح إلا للإعلام الرسمي فقط بنشر الأخبار، لأنه ببساطة لا يوجد غيره، بعد أن جرى الإبقاء على صحيفة واحدة هي صحيفة "إرتريا الحديثة" تصدر باللغتين العربية والتجرنية، ولا تصدر يوميا، وإذاعة واحدة " صوت الجماهير" تبث بمختلف اللهجات وتعمل بنظام الساعات، وفضائية واحدة هي "الفضائية الإرترية"، هذه الحالة من الأحادية تحول دون حرية نقل المعلومة الحقيقية وبالتالي تشكيل الوعي الجماهيري، ومساعدة الجماهير على تشكيل أراء وبالتالي اتخاذ موقف.

دعاية الحرب ديدن البقاء:

يعتمد إعلام نظام "أفورقي" على دعاية التجييش ووضع المواطن في حالة حرب وجعل من حالة التعبئة المستمرة هذه رسالته في مخاطبة الجمهور، اتساقا مع حال النظام الذي يقتات على صنع الأزمات ويستمد قوته واستمراره في إحكام سيطرته ووأد فكرة الديمقراطية والتعددية، من أجواء الحروب والأزمات وكذلك اللعب على ورقة الطائفية وإثارة النعرات ما بين المسلمين والمسيحيين، حتى أصبح مجرد الحديث عن الحريات والحقوق من باب الترف الإعلامي، بالإضافة إلى صنع حالة حرب سواء بالدعاية والتجييش ضد إثيوبيا، وتارة ضد السودان وأخرى ضد اليمن أو جيبوتي، هذا الواقع السلطوي دفع العديد من الإعلاميين إلى الهرب للخارج حال ما سنحت لهم الفرصة.

تغريبة إرترية:

هذا الواقع الاستبدادي الأحادي جعل إرتريا من أكثر الدول تصديراً للاجئين، هربا من الاضطهاد وجحيم التجنيد الإجباري الذي قد يمتد مدى الحياة، والأزمات المصطنعة مع دول الجوار، فامتدت مخيمات اللاجئين على حدودها مع السودان، وقامت مجتمعات إرترية كاملة في المهجر.

البحث عن متنفس:

في مقابل هذه الحالة من انسداد أفق الحرية، كان الإرتريين في الخارج في حاجة لمتنفس يعبرون من خلاله عن آلامهم ومحنة وطنهم ويقصون عبره حكاية تغريبتهم، فكانت بعض المواقع الإلكترونية التي أسسها إعلاميون إرتريون هربوا من استبدا النظام، بمثابة متنفس أو محاولة للحديث عن الوطن، وميكرفونا يسمع العالم من خلالها صوت إرتريا، إلى أن ازدهرت منصات التواصل الاجتماعي فكانت متنفسا أكبر وأسهل وساحة أرحب للحديث عن النفس وسرد حكايات وطن بعيد معزول عن العالم خلف أسوار الاستبداد يسمى إرتريا.

الاستفادة بالصمت:

عن إعلام النظام في الداخل وواقع المنابر الإعلامية الإرترية في المهجر يقول الصحفي الإرتري "جمال همد" محرر موقع "عدوليس" الإرتري، إن فكرة تأسيس "عدوليس" وغيره من المواقع الصحفية بالخارج الناطقة بالعربية، كان الهدف منها

محاولة ملء الفراغ وتقديم خدمة خبرية للمواطن الإريتري بعيدا عن نظرية ومفهوم "التعبئة والتحريض " الممارسة من قبل السلطة الحاكمة.

وأشار "همد" إلى أن الإعلام الحكومي في إرتريا رغم ضعفه استفاد من صمت الإعلام العربي عما يحدث في إرتريا باعتبار اهتمام الإعلام العربي في الأغلب بمنطقة المركز وعدم الالتفات إلى إرتريا إلا في الأحداث الكبيرة، بجانب افتقاد المواقع العربية في أحيان كثيرة للمهنية وانجرارها وراء الشائعات، بالإضافة إلى ضعف التمويل.

صوت إرتريا المسموع:

من جانبه يقول "حسام شاكر - الخبير في الاستشارات الإعلامية" إن الحالة المهجرية لأبناء إرتريا فتحت الباب أمام وجود منافذ إعلامية استفادت من شبكات التواصل الاجتماعي وكذا إذاعات ومواقع وهذا الإعلام المعارض بأنواعه يمكن أن يسهم في مجالين أساسين:

أولهما: تشكيل وعي بقضايا الشعب وصناعة صوتا مسموعا مستقلا عن نظام الحكم ينبني عليه تحركات ومواقف.

والثاني: امتلاك مخزون إعلامي يعبر عن إرتريا الوطن أمام العالم باعتبار أنها دولة بإعلامها ذو الصوت الواحد لا تمتلك القدرة على توصيل صوتها للعالم، فهي موصومة بالاستبداد وهنا توجد فرصة سانحة أمام إعلام المنفى الإرتري للقيام بهذا الدور.

البديل المتاح:

الشاب بكري حمد "بيكو" ناشط إرتري على مواقع التواصل الاجتماعي وصاحب قناة يوتيوب بعنوان Falfasa فلفسة، وهو يحظى بمتابعة ليست بالقليلة في أوساط الإرتريين، يقول إنه يستهدف من فيديوهاته التعريف بمعاناة الشعب الإرتري، وإنه يخاطب الإرتريين وكذلك الشعوب العربية لتوصيل معاناة المواطن الإرتري.، ويرى أن مقياس مدى تأثير السوشيال ميديا في أوساط الإرتريين هو الانطباعات التي تأتيه من متابعيه، ويعتبر أن هذا النشاط على شبكات التواصل الاجتماعي بالخارج لكشف سلبيات هذا النظام الذي يعتمد التعتيم أسلوبا له، لكن تبقى عقبة تعدد اللغات المحلية والتي تصل إلى تسع لغات، ما يضطر إلى استخدام لغة مع ترجمة نصية للغة أخرى.

أما "إسماعيل موسى" وهو ناشط إرتري له نشاط ملحوظ على "فيسبوك" ويحظى بمتابعة لا بأس بها، فيرى أن السوشيال ميديا كانت هي البديل المتاح للتعبير عن معاناة الإرتريين، في اعتبار الواقع في إرتريا ليس من القضايا المهمة على الساحة الدولية للأطراف الفاعلة دوليا، ويرى "إسماعيل" أن السوشيال ميديا كونها وسيلة متوفرة ومجانية فهي الأكثر شيوعا حاليا، كما أنها بيئة مفتوحة تستطيع من خلالها طرح قضيتك وتوصيل رسالتك بالطريقة التي تريدها أنت دون إملاءات من أي جهة، مع الوضع في الاعتبار أن وسائل الإعلام لاسيما ذائعة الصوت لا توفر فرصا مناسبة للشباب.

ثمة عقبات في العبور للداخل:

مع حرص الناشطين في الخارج على مخاطبة أبناء الشعب الإرتري بالداخل ومحاولة التساوي معهم على نفس القدر من معايشة الواقع، لكن ثمة عقبات تحول دون ذلك تتمثل أهمها في ضعف الانترنت وعدم وصوله لكل المناطق، وهو ما يمثل تحديا أمام الإعلام المعارض في المهجر في الوصول للشعب في ظل خنق النظام لفرص الوصول للمنابر الإعلامية غير المرغوبة في رأيه، لكن الاستشاري الإعلامي "حسام شاكر" يرى أن هذا التحدي يبقى مسألة وقت على الأرجح فلا يوجد نظام يمكنه أن يُبقي بلده معزولا عن العالم طيلة الوقت أو حجب المعلومات أو معزولا عن التشبيك الإلكتروني بشكل دائم، في ظل سرعة تطور تطبيقات الهواتف واتساعها.

أضعف الإيمان:

تقول الإعلامية "ريما إبراهيم" المقيمة في لندن ومقدمة برامج تلفزيونية منها برنامج "ملفات إرترية" إن دورنا كإرتريين في الخارج طرق كل الأبواب لتسليط الضوء على معاناة شعبنا" واستثمار وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت متاحة ومتوفرة وأيضا المساحات التلفزيونية للفت انتباه العالم إلى معاناة الشعب الإرتري وهذا أضعف الإيمان".

فجوة تتسع:

الاستشاري الإعلامي "حسام شاكر" أشار إلى أنه يصعب توقع مدى قدرة الناشطين على منصات التواصل الاجتماعي بالخارج على التأثير في الداخل والتفاعل المتبادل إذ يرتبط بوجود الانترنت وغيره من العوامل، لكنه حذر من نقطة مهمة هي أن النخبة التي تتشكل بالخارج نخبة مسيسة تتملكها لغة خطاب ومفردات تعبير غير متطابقة مع ما هو عليه الحال في الداخل وقد تصبح مع الوقت معزولة عن الحس العام اليومي للمواطن وبالتالي تنشأ فجوة تتنامى بين الخارج بما فيه من حريات مفتوحة ومنابر متاحة، وبين الشعب في الداخل الذي يعيش حالة من العزلة والحصار الإعلامي.

Top
X

Right Click

No Right Click