المناضل/ محمد نور إدريس في حوار مع الإعلامي الأستاذ أبوبكر عبدالله صائغ - الجزء الخامس والأخير

حاوره الإعلامي الأستاذ: أبوبكر عبدالله صائغ - كاتب وصحفي ثقافي

انتظمت صفوف الثورة بدءاً من جبهة شمال شرق الساحل مروراً بجبهة نقفة ثم جبهات رورا وعنسبا وحلحل، في البداية تم فتح جبهة

شمال شرق الساحل كخط مواجهة ثابت ضد قوات العدو تلتها جبهة نقفة، حيث تم السيطرة في جبال دندن والمناطق التي تحيط به.

كان ذلك في يوم 1979/2/5م، واستمرت الحملات الأولى والثانية والثالثة والرابعة وفشلت كل تلك الحملات، ثم قام الجيش الشعبي بشن هجوم مفاجئ على قوات العدو التي كانت ترابط في ضواحي جبل دندن وشتتها وسلب أعداد مقدرة من الأسلحة والعتاد، الامر الذى مكنه من الاستمرار في المعارك التي كانت تدور هناك، وجاءت الحملة الخامسة حيث توغلت قوات العدو في المساحات الخالية بين جبهتي شمال شرق الساحل ونقفة والتي كانت خارج إطار سيطرة الثورة.

استعانت القوات الاثيوبية التي كان يقودها قائد عسكري كبير اسمه/ كاسا قبرى ماريام ببعض الخونة للوصول لتلك المناطق كمرشدين، تلك القوات وصلت حتى مناطق أقرع، شن الجيش الشعبي هجوما معاكس عليها وتم القضاء عليها ودفن قائدها في تلك المناطق، استمرت الحملة الخامسة في المناطق الأخرى حتى تم القضاء عليها وفشلت هي الأخرى، في تلك الفترة استمرت مراوغات العدو لحل القضية الارترية سلمياً وجرت عدة لقاءات كلقاء المانيا وغيره.

ان التفكير في حل القضية الارترية سلمياً في تلك الفترة كان مجرد طرح ليس برغبة أكيدة بل لإخفاء الاستعدادات العسكرية الكبيرة التي كان العدو يجريها لبدء الحملة السادسة، فشلت تلك اللقاءات، وبعد فشلت الحملات الخمسة أجرى العدو تقييما شاملا لكافة الأوضاع ومنها إمكانيات الثورة، لذلك أعد العدو للحملة السادسة، بل استدعى الصحفيين الأجانب لمشاهدة نهاية الثورة الارترية، وكان منقستو هيلي ماريام يشرف على تلك المعارك بنفسه، حيث استغرقت استعدادات العدو لها مدة سنتين، وتميزت باستخدام العدو للغازات السامة المحرمة دولياً وأيضاَ استخدم طائرات الانتينوف ليلاً لشل حركة الثورة ومحاصرتها، أيضاً تأمر بعض فلول جبهة التحرير الارترية مع العدو لضرب الجبهة الشعبية من الخلف كما تامر نظام جعفر نميري مع إثيوبيا وذلك بقفل المكاتب وطرق الامدادات و الحدود السودانية لمنع انسحاب المقاتلين والسماح للقوات الاثيوبية للتوغل داخل الأراضي السودانية لملاحقة الثوار في حال الانسحاب إليها.

حشد العدو لحملة النجم الحمر حوالى 150 ألف جندي، كما استعدت الجبهة الشعبية جيداً لمواجهة العدو بالإضافة الى استعداد الشعب الإرتري في الداخل والخارج للوقوف مع الثورة لإفشال الحملة.

كانت حملة النجم الأحمر التي امتدت من "كركبت الى قرورا" شرسة جداً، وكانت قوات العدو تتحرك في المواقع الخالية ثم يتحرك المقاتلون لملاحقتهم وهكذا استمرت الحملة السادسة "النجم الأحمر" ثلاثة أِشهر وخمسة أيام دون أن يحقق العدو أي نصر يذكر، وكانت بداية الفشل في جبهة كركيت حيث تم دحر كل القوات التي حاولت التحرك من هناك، أما في بقية المناطق استمرت حتى تم إعلان فشل الحملة السادسة.

أين تم توزيعك بعد الشفاء من الإصابة ؟

في تلك الفترة الثورة كانت تملك طاقم طبى يعمل بتفاني وإخلاص، لدرجة أن المقاتلين كانوا يعتقدون بأن أي مصاب إذا وصل الى المستشفى وهو حي سوف يتم شفائه، وصلت الى مستشفيي "عالا " في حالة غيبوبة تامة وحين أفقت من الغيبوبة سألت الذين يتواجدون حولي أين نحن الان !!

فقيل لي نحن في مستشفيي "عالا"، قلت لهم ماهي أخبار المعارك ؟ قيل لي: قواتنا تسيطر في المناطق التي تدور بها المعارك، ولحظة الإصابة أسعفني المقاتل/ ود سالم ثم سلموني للمواطنين الذين حملوني الى المستشفى، وأذكر أن الدكتور/ مكئيل نبراى هو الذى بتر ساقي في المستشفى ويعمل الان كمستشار لوزيرة الصحة، والدكتور/ مكئيل نبراى كان يعمل ليلاً ونهاراً لعلاج المصابين الذين كانوا يأتون لمستشفى عالا من ثلاثة جبهات وهى "دقمحرى وسالا دعروا وعدى حوشا" وعدد الكادر الطبي كان لا يتجاوز طبيب ومساعد طبيب وعدد من الممرضين، ولضيق المكان وقلة الكادر الطبي كانت الأولوية للحالات الخطرة ولذلك كان يتم إجراء غسيل يومي لجروحي فقط الامر الذى أدى الى تعفن رجلي المصابة وعند مقابلة الطبيب قال لى يجب بتر الساق وقرر إدخالي لغرفة العمليات حيث استغرقت عملية بتر ساقي أربع ساعات والتخدير كان نصفي، ولذلك كنت أتابع العملية بكامل وعي حتى النهاية، واصلت علاجي في مستشفى أخر كان في منطقة "عدى قدى"، ثم تحولت الى مستشفى أخر كان في منطقة "فلفل" ومكثت هناك أسبوع تحت إشراف الدكتور/ أصفاو، ثم رحلت الى الساحل ووصلت الى المستشفى الكبير الذى كان في منطقة "سبرقطى"، وبعد رحلة العلاج الطويلة ذهبت الى المكتب السياسي وتم توزيعي في قسم المبيعات والمشتريات وعملت كمسؤول قسم في قندع، وبعد مرور أربع أشهر تم استدعائي من قبل المكتب السياسي وقيلي لي سوف يتم تأسيس قسم للرعاية الاجتماعية في نقفة التي سوف تكون مركزاً لعدد من الشركات والمؤسسات، أيضاً سوف يتم تأسيس قسم لتدريب المعاقين بها، والتقى بي الشهيد/ محمد سعيد باره الذى كان عضو بالمكتب السياسي ومسؤول الشؤون الاجتماعية وقال لي يجب تأهيل المعاقين مهنياً وصحياً يخدمون في مؤسسات الثورة الاقتصادية الان و حتى لا يكونوا عبئا على الحكومة في المستقبل بعد تحرير البلاد، كان التأهيل يشمل مهن صيانة الساعات والراديوهات والخياطة والحدادة والنجارة وغيرها، وقال لي : سوف يتم جلب أصحاب الخبرة من الجيش لتدريبهم، أما بالنسبة للمواطنين النازحين من المدن سوف يتم بناء منازل لهم وتحت إشراف القسم، وصلت الى مدينة نقفة لتنفيذ المهمات الموكلة لي، وبدأت في تأهيل المعاقين وبالاستعانة بالمعدات التي كانت تصل إلينا من المدن المحررة، إثناء ذلك جاء قرار الانسحاب الاستراتيجي وانسحبنا من مدينة كرن، وكان معسكر المواطنين الذين جاؤوا من السودان ومدن أخرى في منطقة "دبعت" والجزء الأكبر منهم كان في مدينة نقفة، ويذكر أن عدد كبير من طلاب مدرسة الثورة كانوا في منطقة "زيرو"، في ظل تلك الأوضاع استدعاني الشهيد/ محمد سعيد باره الذى كان متواجداً في مدينة أفعبت وسلمني رسالة لقائد قوات حرس الحدود السودانية في منطقة قرورا، وتحركت الى قرورا بعد أن أصدرت التوجيهات لبقية المسؤولين الذين كانوا معي في القسم بضرورة ترحيل المعاقين والنازحين وأطفال مدرسة الثورة الى منطقة "عيت"، وفي قرورا وتحديداً في مكتب الجبهة الشعبية الكائن في حي حلفا التقيت بكل من المناضلين/ محمد على طاهر وسليم سعيد وتخلى عندو لنتحرك معاً لتسليم الرسالة، ومحتوى الرسالة كان يفيد بتحديد منطقة" عيت" التي تقع خلف قرورا لتكون مقراً أمناً للجرحى والمعاقين وأطفال الثورة والامهات واللاجئين القادمين من المدن بعيداً عن هجمات طائرات العدو، سلمنا الرسالة لقائد الجيش السوداني في المنطقة وقال لنا بعد أن قرأ الرسالة سوف استشير القيادة في بورتسودان، وقال لنا ما هو الموقع الذى حددتموه، قلنا له منطقة "عيت"، وقال لنا:

هذه المنطقة لا يمكن أن تقيموا عليها إلا بعد موافقة القيادة، قلنا له لا يمكن أن ننتظر حتى تصل الموافقة من القيادة لأن السيارات التي تقل الأطفال والمعاقين والجرحى ويبلغ عددها 45 شاحنة وصلت بالفعل الى قرورا ولو تركناهم في قرورا سوف تقذفهم الطائرات وتدمرهم وتدمر معهم المدينة، وأخيراً صعد الى سيارته ووصل معنا الى منطقة "عيت"، حيث وجد هناك الخيام نصبت والبعثة الطبية موجودة وكل شيء أصبح جاهز لاستقبالهم، استغرب الرجل وقال كيف وصلتم الى هنا وجهزتم ذلك، ثم تقرر الرحيل الى منطقة "جلهنتى" دون انتظار أى تعليمات، لأن منطقة "عيت" قريبة من ساحات المواجهة والمياه بها قليلة جداً، كان النقاش جارياً بين قيادة الثورة و الحكومة السودانية حول وجود مثل هذه المعسكرات داخل الأراضي السودانية.

مكثنا في تلك المنطقة حوالى عام ونصف العام ونتيجة لاتفاق حكومة نميري مع إثيوبيا تقرر محاصرة المعسكر بقوة عسكرية تمهيداً لترحيل قاطنيه الى داخل مدينة مرافيت، وفوراً استدعينا المسؤولين داخل المعسكر وقلنا للشعب من يرغب بالرحيل الى الأراضي الارترية المحرر ة سوف يغادر معنا ومن يرغب الاستقرار بالسودان فالخيار متروك له، أما الجرحى وأطفال مدارس الثورة تم ترحيلهم الى منطقة "حليبت" والمعاقين في بداية الامر استقروا في منطقة "هولع"، وكل المواطنين قرروا الرحيل الى داخل الأراضي الارترية في ظل الجحيم الذى كانت تتوعد به إثيوبيا الثورة الارترية في الحملة السادسة، وقبل بداية الحملة تحركنا الى منطقة "عريرب" وهي منطقة محصنة وذلك رغم استمرار المعارك في مناطق "هولع ودمبوبيت" وتبقت حوالى عدة كيلومترات لتصل قوات العدو الى منطقة المعاقين، وفوراً تم ترحيل المعاقين ليلاً ودارت المعركة في نفس الموقع مع قوات العدو التي توغلت عبر الأراضي السودانية وكنت أعمل حينها في مخزن ممتلكات الشؤون الاجتماعية، وبعدها تم استدعائي للمرة الثانية وتحولت للعمل في قسم الشؤون الاجتماعية وعملت في مناطق "ماريا طلام" لمدة عامين حتى موعد الحملة الصامتة، حيث تم سحب جبهة حلحل، مرة أخرى تم استدعائي ووزعت للعمل في السودان في الإدارة الشعبية.

وخلال وجودي في السودان عملت في الإدارة الشعبية في مدنى، والصراع كان مستمراً مع القوى المناوئة لنا وكانت المؤامرات مستمرة لحصار الجبهة الشعبية، وكنت أتحرك في معسكرات اللاجئين الارتريين، استمر الحال هكذا حتى بزوغ فجر الاستقلال، وأذكر حين تم إعلان تحرير إرتريا عبر الإذاعات العالمية وصلت الي المكتب بمدني حشود جماهيرية كبيرة تطالب للخروج بمسيرة هادرة وفوراً ذهبت الى مكتب مسؤول الامن وهو العقيد/ حسن لأخذ الموافقة منه لتحريك المسيرة الذي فوجئت بحماسه الشديد وقال لي " الان نخرج الى الشارع وقاد سيارته وتقدم موكب الجماهير الهادرة وطفنا كل أرجاء مدينة مدنى، واستمرت الاحتفالات في المكتب لمدة عشرين يوم متتالية وبعدها دخلنا في مرحلة تسجيل أسماء المواطنين للاستفتاء واستخراج الجنسية، وأكملنا مرحلة الاستفتاء بنجاح.

وتم إعلان الاستقلال وأصبحنا دولة ورجع كل العاملين في المكاتب الى إرتريا ثم تم توزيعي في الحكومات المحلية وعملت كمدير لمديرية "قرمايكا" لمدة سنة وعمل في عدة مهام إدارية في الخارج والداخل وفي مدرسة الكادر بنقفة في السنوات التي تلت إجراء هذا الحوار.

بهذه الكلمات المضيئة ختم المناضل/ محمد نور إدريس حديثه مع صحيفة إرتريا الحديثة.

Top
X

Right Click

No Right Click