المناضل/ محمد نور إدريس في حوار مع الإعلامي الأستاذ أبوبكر عبدالله صائغ - الجزء الثالث

حاوره الإعلامي الأستاذ: أبوبكر عبد الله صائغ - كاتب وصحفي ثقافي

الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا كانت قوة حديثة لم تكن لها خبرة في خوض معارك لتحرير مدن كبيرة وإستراتيجية مثل مدينة نقفة،

وإستطيع القول بأن معارك نقفة هى أول مواجهة متواصلة خضناها مع العدو لتحرير مدينة ما، لأن المواجهات التى كانت تدور بيننا وبين قوات العدو كانت متقطعة والثوار كانوا يشنون هجوم على أي موقع ثم ينسحبون الى الخلفية، أما الهجوم على مدينة نقفة كان هدفه تحريرها ثم الدفاع عنها مهما كانت التضحيات حتى تحرير كامل الارض الارترية، وإن الاستراتيجية التى إنتهجتها الجبهة الشعبية كانت تقضى بتحقيق مكاسب عسكرية كبيرة بأقل الخسائر، ولذلك فأن المواقع الاستراتيجية كانت تسيطر عليها قوات العدو، وإن الثوار لم يرغبوا في خوض معارك نهارية مع قوات العدو حفاظاً على القدرات البشرية والعتاد، ولو تقدمت قوات الثورة للسيطرة على مواقع العدو فهناك عدة عقبات يجب تخطيها، أولي تلك العقبات هي حقول الألغام التى زرعها العدو في مساحات شاسعة حول مواقعه، ولو تجاوزنا تلك العقبة فهناك الخسائر البشرية التى سوف نتكبدها، ولو حاولنا صعود الجبال والتلال التى يسيطر عليها العدو سوف ينهال علينا بالقنابل اليدوية والرشاشات التى تحصد كل شيئ يتحرك وهم متمترسون في الدفاعات الحصينة، كل هذه العقبات كانت تعيق تقدم الثورا نحو مواقع العدو، إختارت القيادة تنفيذ هجمات اثناء جنح الظلام لإضعاف قوة العدو واضعة في الإعتبار كل العقبات المذكورة سلفاً، وإن إستمرار أمد الحصار كان لصالح الثورة وإن قوة العدو بدأت تضعف شيئاً فشيئاً لطول مدة الحصار الذى إستمر عاما كاملا.

هناك سؤال يطرح نفسه في هذه الحالة وهو على ماذا كانت تعتمد قوات العدو المحاصرة لتأمين الغذاء والعتاد العسكرى ؟

كانت هناك طائرة عسكرية تسقط بإستمرار المؤن الغذائية والعتاد العسكرى على مواقع العدو التى كانت تتخندق في الخنادق الحصينة تحت الأرض ولا تخرج منها إلا أثناء الليل، وتلك الطائرة كان يطلق عليها الثوار "الكرار" أو "نين" لآن صوتها كان يسمع من على البعد وهي مازالت تحلق في كبد السماء، تلك الطائرة كانت تسقط الدعم اللوجستى على مواقع قوات العدو خلال فترة النهار، وتلك المواد كانت تسقط على مواقع العدو والثوار على حد سواء لقرب المسافة بينهم، وعندما يحل الظلام تخرج قوات العدو من مواقعها للبحث عن المواد التى أسقطتها الطائرات، أيضاً الثوار كانوا يبحثون عن تلك المواد في التلال المحيطة بنقفة، السباق بين الثوار وقوات العدو كان يستمر طيلة الليل للفوز بالمواد اللوجستية التى أسقطتها الطائرة وهكذا دواليك.خلال فترة النهار كان يعم ساحات وتلال وجبال نقفة السكون الحذر وحتى الكائنات كانت تختبئ في أماكن تواجدها، لآن كافة الاسلحة كانت مصوبة نحو أي كائن حي يتحرك، معظم الامدادات كانت تقع في المناطق التى يسيطر عليها الثوار وتكون من نصيبهم، وبعد تدمير المعسكر هرب أحد من قادة العدو ووصل الى أفعبت بعد أن فشلت كافة محاولات تدمير قوته وكتب عن تلك المرحلة من المواجهات وهو يقيم الان في الخارج وقال فيما كتب: إن قوة الثوار كانت كبيرة جداً ومعظم الامدادات التى كانت تسقطها الطائرات كانت تكون من نصيب الثوار وهم الذين كانوا يستفيدون منها، ولذلك بلغنا القيادة بعدم إرسال تلك الامدادات حتى لايستفيد منها الثوار، وفي تلك المواجهات تمكن الثوار من إسقاط ثلاث طائرات عسكرية إثيوبية حيث نزل جزء من طاقم قيادتها عبر المظلات في معسكر العدو وإحترقت الطائرات، والجزء الاخر نزل في مناطق بعيدة نسبيا عن نقفة وتم إنقاذهم بالطائرات المروحية، والعدو جلب طائرات جديدة وهى من نوع أف 5 وهي أمريكية الصنع لضرب مقاتلى الثورة.

العدو حاول مرات عديدة انقاذ قواته المحاصرة في نقفة وأذكر من تلك المحاولات الجيش الكبير الذى تحرك من أسمرا ووصل الى نقفة، وبعد أن تعرضت لعدة محاولات لايقاف تقدمها نحو نقفة وتلك القوات تمكنت من دخول نقفة وكان ذلك في نهاية عام 1975م، حيث تمكنوا من تبديل الجيش المحاصر الذى كان يرابط في نقفة وان يحلوا مكانه، والقوات التى خرجت من نقفة تعرضت لهجوم كاسح في منطقة يطلق عليها "حراس حرماز" ومعظم تلك القوات كان من الارتريين "الكومانديس" حيث فقدنا في تلك المواجهة أكثر من عشرة مقاتل منهم مرشد الفصيلة التى كنت ضمن أعضائها وهو المناضل/ إستيفانوس وبقية المقاتلين الذين أسرتهم قوات العدو تم إطلاق سراحههم في عملية إطلاق سجناء سجن سمبل الشهيرة، بقية قوات العدو لم تتمكن من دخول نقفة حيث تم تدمير قوة أخرى في منطقة " قنفلوم" في ضواحى عنسبا بعد معارك ضارية إستمرت لأكثر من شهر وبنهايتها تشتت قوات العدو ودحرت قبل وصول نقفة، أيضاً تحركت قوة أخرى ونزلت بالطائرات في منطقة "ناروا" ومعظمهم كانوا من وحدات الكومانديس، وتلك الوحدات تم القضاء عليها قبل الوصول الى نقفة مات من مات وأسر من أسر والبقية تمكنوا من الوصول الى أفعبت، وقوة أخرى تم انزالها مظليا وكان عددهم حوالى مائة جندى بقيادة "تسفاى" الذى جاء خصيصاً ليحل محل قائدهم "مامو" الذى أصيب بسلاح الثورة، تلك القوة نزلت خلف المعسكر إلا إنهم وقعوا تحت نيران قوات الثورة ولم يتمكن إلا أربعين جندى فقط من دخول المعسكر وبقية القوات قضي عليها، ويذكر بأن نقاش حاد دار بين قائد تلك القوة وبين القادة في أسمرا مفاده يجب إنزال القوات من علو منخفض جداً حتى لا يكونوا على مرمى نيران الثوار، ولكن تم إنزالهم من مسافة تقدر بألف وستمائة متر ووصلوا الى الارض وأصبحوا هدفاً لنيران الثورة كما توقع قائدهم " تسفاى"، هذا جزء من محاولات العدو لإسعاف القوات التى كانت محاصرة في نقفة.

الحرب التى دارت لتحرير نقفة كانت صعبة جداً وصعوبتها تكمن في أن قوات العدو كانت تعيش في الخنادق تحت الارض، والمواجهات كانت حامية وفقدنا فيها العديد من الشهداء، ومرارة تلك الحرب تأتى من عدم توفر السلاح والمؤن والعتاد والملابس والغذاء بالاضافة الى حرارة المواجهات اليومية مع قوات العدو، وأذكر أن أحد زملائنا وكان قائد لكتيبتنا وإسمه "ود حجى" قال لنا في إحدى الصباحات حين صدرت لنا الأوامر بضرورة دخول كل القوات الى مواقع دفاعاتها، لأننا خلال فترات النهار كنا نترك الحراس فقط في الدفاعات ونذهب الى الخلفية لقضاء وقت الراحة حيث قال في تلك اللحظات تمنيت ولو للحظة معينة أن أرى نقفة وهى محررة وحينها سوف أعتبر تحرير نقفة كتحرير أرتريا كلها، قال هذا الكلام وتحرك الى الإمام شاهدته قوات العدو وأطقلوا عليه النيران وأصيب في الجهة اليسرى من راسه وإستشهد فوراً، وفي اليوم التالى تحررت مدينة نقفة.

كما قلت لك الحياة المعيشية كانت صعبة جداً مما أدى لهروب عدد من المقاتلين من الميدان لصعوبة الحياة، معظم سنوات الثورة مرت علينا والجوع يأكل أحشاءنا وإن تجربة حصار نقفة وتحريرها، تجربة فريدة أثبتت قدرة المقاتل الارترى على الصمود والتحدى، حتى السلاح كان شبه معدوم وكل جندى كان يعطى ستين طلقة وحين يتبقي منها عشرين طلقة يوفرها للحظات الانسحاب لحماية نفسه، بمثل هذه الظروف المريرة مررنا نحو أفاق الحرية.

خلال تلك المعارك إستشهد العديد من المقاتلين وأرشيفهم عرض في اليوبيل الفضى لتحرير مدينة نقفة أذكر منهم الشهداء الاتية أسمائهم: الشهيد/ فقرى إستشهد وهو قائد قطاع، أيضاً قادة الفصائل مثل ودى حجى وقائد الكتيبة برهي طعدة فقدنا العديد من القادة العسكريين والسياسين خلال معارك تحرير نقفة، ومن الذين أصيبوا بالإعاقة أذكر المناضلين مثل محمد سعيد ود شعب وعندوم الذى نزل من موقعه لجمع السلاح، هناك العديين الذين تعرضوا للإصابة أثناء مشاركتهم في حرب التحرير الطويلة.

بعد مرحلة تحرير نقفة ماذا تقول عن الاحداث التى تتذكرها ؟

بعد الانتهاء من تحرير مدينة نقفة واصلنا زحفنا نحو مدينة أفعبت ووصلنا الى هناك ووجدنا زملائنا يخوضون حرب ضارية ضد قوات العدو في ضواحي أفعبت، تم تنظيم صفوف المقاتلين ونفذنا هجوم كاسح على قوات العدو التى كانت تتواجد في مدينة أفعبت، حيث بدأ الهجوم في تمام الساعة العاشرة صباحاً وتم تحريرها في تمام الساعة الخامسة مساءاً من براثن قوات العدو التى هربت نحو مدينة كرن.

وبعد الانتهاء من تحرير أفعبت تم إعادة تنظيم لكافة الوحدات لتكوين الالوية، وتم توزيعى في اللواء الرابع وتوجهنا الى المرتفعات، تبقت جزء من القوات بمدينة كرن حيث تمكنت من تحريرها بعد معارك شرسة خاضها الثوار ضد قوات العدو، ولواءنا خاض معارك ضارية ضد قوات العدو التى تحركت من مدينة أسمرا لإسعاف القوات التى تتواجد في كون في ضواحي "وكى دبا و إمبادرهو"، وقائد لواءنا كان المناضل/ ولدنكئيل إستشهد لاحقاً في معارك سقينتى وقائد الكتيبة هو المناضل/ بيناك وقائد القطاع كان المناضل/ محمد أدم شقراى، بعد ذلك دحرنا قوات العدو وتحررت مدينة كرن.

ثم بعد ذلك نفذنا عملية تحرير الاسرى الذين كانوا في سجن سمبل بأسمرا وتفاصيل تلك العملية هى كالتالى:

سلطات الاحتلال كانت تعتقل في سجن سمبل بأسمرا عدد من المقاتلين وأعضاء التنظيم من المنظمات الجماهيرية، عندما تقرر تنفيذ تلك العملية أسمرا كانت محاصرة من كل جانب، حيث تمكنا من الدخول إليها بالعبور بين ضاحيتى "طعدة كرستيان ووكى دبا" وإستطعنا إطلاق سراح الاسرى الذى يقدر عددهم بحوالى 800 سجين.

عملية تحرير السجناء شاركت وحدتنا في تنفيذها ولكن الجهات التى قامت بالتخطيط لها هي الاستخبارات التى كانت تنشط في الداخل وقائد كتيبتنا "بيناك" كان معهم، ونحن القوة التى حدد لها مهمة دخول المعسكر وعدد من وحداتنا إنتشروا في الضواحى لتأمين دخولنا، وأنا كنت أتحرك مع زملائي بأعتبارى لا أعرف أسمرا من قبل، دخلنا الى أسمرا وتجاوزنا المعسكر ووصلنا الى السجن ودخلنا الى داخل السجن وإستطعنا تحرير الاسرى، حصل تبادل لإطلاق النار بيننا وبين الحراس ولكن تمكنا من تحرير الاسرى دون مقاومة تذكر، ولحظة دخولنا السجن كانت العملية منظمة والجهات التى خططت للعملية وضعت في إعتبارها كل شيئ يمكن أن يحدث وعلمنا بأن الارتريين الذى كانوا حراس في السجن فتحوا لنا الابواب فور وصولنا وحررنا الاسرى، العملية تم تنفيذها خلال ساعات الليل، وخرجنا برفقة الاسرى وبعض من أفراد كتيبتنا قضوا باقي الليل في أسمرا مختبئين، بعض المعتقلين كانت أرجلهم مقيدة بالسلاسل ولذلك حملناهم على أكتافنا، الارض كانت مبتلة والطين كان يعرقل سيرنا، وأحذيتنا الجلدية كانت تغوص في الطين وبالرغم من ذلك أوصلنا السجناء الى قرية "عدى شماقلى"، وهناك إستلمتهم قوة أخرى ونحن رجعنا الى وحدتنا.

بعد ذلك مكثنا فترة جنوب أسمرا وتحديداً بضواحى "عدى حوشا"، وأثناء ذلك هاجمت الثورة مدينة دقمحرى وحررتها وتواصلت المعارك التى كانت تدور في سقينتى وتكسي، قوات العدو تحركت لإسعاف قواته في تلك المناطق وظهرت لنا قواتهم التى تقدر بحوالى 11 الف بضواحى "عدى حوشا"، ونحن كنا كتيبتين خضنا معهم مواجهات حامية إستمرت لمدة عشرة أيام تمكنا خلالها من إيقاف تقدمهم في تلك المنطقة، وبعد مرور إحدى عشرة يوماً وصلت إلينا قوات الدعم وإستطعنا دحرهم وأحرقنا دباباتهم وسيطرنا على اسلحتهم حيث أوصلناهم الى ضواحى "كربو بويتا"، وبعد ذلك تراجعت قواتنا بناءاً على الاوامر العسكرية التى صدرت إلينا وكان ذلك في عام 1977م.

في تلك الاثناء جاء التدخل العسكري الخارجي لدعم الجيش الاثيوبي وتدخل الاتحاد السوفيتي، وإن الطائرات التي كانت تحلق فوق رؤوسنا كان يقود طيارين من اليمن الجنوبي وأتذكر في إحدى المرات استدعيت لترجمة الاتصالات التي كانت تجرى بين الطيارين الذى كانوا يتحدثون باللغة العربية في المعركة التي حشد لها العدو حوالى 12 الف جندي في ضواحي "سلع دعروا"، وكان يقودها "نافي أباتى" من قادة الدرق المشهورين، وحينها كنت قائد للمجموعة وكنا نرابط في منطقة " عدى قشي"، ومنها تحركت الى منطقة" سلع دعروا "وحين وصلت الى هناك استدعاني عضو اللجنة المركزية الذى كان يشرف على العمليات العسكرية في الجبهات الامامية وهو المناضل/ ولدنكئيل سبهتو، وقيل لي ترجم الحوار الذى كان يتم بين الطيارين وقادة الدبابات على الأرض، الحوار كان مكشوفاً لنا لانهم كانوا يتبادلون الحديث دون تشفير أو استخدام الشفرات، من خلال ترجمة تلك المحادثات استطعت التعرف على أن العدو يستعين بقوة أجنبية ضمن قواته، من الدبابات التي أصيبت في تلك الفترة إحداها توجد الان في مصوع ودبابة أخرى اختلفنا حولها مع مقاتلي جبهة التحرير الارترية وأخيراً حسم الجدال بتدخل المواطنين الذين كانوا يتواجدون في تلك المنطقة والذين اقروا بأن الدبابة أصابتها نيران قواتنا ومنحت لنا، وأحرقت في تلك المواجهات العديد من اليات العدو بما فيها الدبابات، والقوات الاثيوبية كانت تميز بين مقاتلينا ومقاتلي جبهة التحرير الارترية، وكانوا يطلقون صاحب الشنطة على مقاتلي الجبهة، وصاحب الجاكيت لمقاتلي الجبهة الشعبية، قوات جبهة التحرير الارترية التي كانت تتمركز في تلك المناطق كانت تطلق نيرانها على قوات العدو من مسافة بعيدة، وقوات العدو استطاعت إجبار قوات الجبهة على التقهقر حتى وصلوا الى منطقة "شكتى"، وبعد ذلك خلت لنا ساحة المعركة التي خضنا فيها حروب طاحنة مع قوات العدو أصيب خلالها حوالى تسعين مقاتل لأن قواتنا كانت ترابط في مناطق مكشوفة والعدو كان يشن هجماته جواً بالتزامن مع الهجوم الذى تشنه قواتهم البرية، استمرت تلك المعارك المحتدمة أصيب خلال عضو اللجنة المركزية مرتين، وتدخل عدد من الجنود لإسعافه وبعد أن تمكنوا من إسعافه سقطت عليهم قنبلة وحولتهم جميعاً الى أشلاء متناثرة، جمعنا أعضائهم المتناثرة ودفناهم معاً، استمرت المعركة حيث تمكن من دحرهم حتى وصلوا الى قرية "عدى قعداد". وأحد قادة قوات العدو واسمه/ أطنافوا أباتى قال حين وصل الى أديس أبابا إن المعركة مع الثورة الارترية لا يمكن حسم بقوة السلاح، حينها أخرج منغستو مسدسه وقتله.

يتبع... في الجزء القادم

Top
X

Right Click

No Right Click