دور الأغنية الوطنية في ارتريا

بقلم الأستاذ: أحمد محمد داير المصدر: مجلة آفاق

تلعب التعبئة والتوجيه دورا في الاعداد للمعارك عسكرية كانت أم سياسية، ويمكن ملاحظة ذلك في الفرق الموسيقية الخاصة بالجيوش.

وبلغ الاهتمام بالاغنية حدا ما يميز دولة عن أخرى، علمها الخاص ونشيدها الوطني الذي تلتف حوله الأمة، ويستقبل به رئيسها ويعزف السلام الوطني في كل محفل اكراما للدولة ويقف الجميع تحية له.

نلاحظ من قديم الزمان ان الأغنية كانت تلعب دورا تحريضيا، ففي معركة (أحد) خرجت نساء قريش مع الجيش تردد:
ان تقبلوا نعانق نفرش النمارق
أو تدبروا نفارق فراق غير وامق

ولاحظنا ان جيش الاحتلال الأثيوبي ومليشاته الشعبيى كانت لديهم شعارات وهتافات وأغاني ترفع وتيرة حماسهم وهو ما ذكره الفنان حسين محمد علي في أغنية (قداى بيلو أمحرا).

في السودان هنالك الأغنية الخالدة (عزة في هواك) وفي مصر نشيدها الوطني (بلادي بلادي لك حبي وفؤادي). وفي جنوب أفريقيا رأينا كيف كان تأثير الأغنية المصحوبة بالرقص وكذالك في انتفاضة الححجارة في فلسطين.

الغرض من هذا المقال هو محاولة الغاء الضوء على الدور الذي لعبته الأغنية الوطنية الى جانب البندقية في مرحلة تقرير المصير ثم الكفاح المسلح.

أول ما يلاحظ في الفترة التي سبقت قيام الاتحاد الفيدرالي ان اثيوبيا تنبهت مبكرا للدور الذي يمكن ان تلعبه الأغنية فشجعت على تكوين فرقة فنية موالية لها في محاولة لاستمالة الشعب الارتري نحو الوحدة معها وكان اسم الفرقة يرمز الى ذلك (اندنت) أى الوحدة، وبعد قيام الاتحاد الفيدرالي تم تغيير اسمها الى (ماتبرى) وتعني باللغة التجرنية: الفرقة الوطنية للتمثيل.

في تلك الفترة كان لشباب الرابطة الاسلامية عشرات الاناشيد باللغتين العربية والتجرنية منها: فالتحيا الرابطة الاسلامية... فليحيا شعبها ارتريا، (سلامتا نعاخي بانديرا اريترا) اى لك التحية ياعلم ارتريا. في محاولة للرد على تكوين فرقة (اندنت) بادر بعض الشباب الوطنيين بانشاء فرقة (ممهل) وتعني بالتجرنية فرقة تطوير التراث الوطني علما بأن السلطات كانت تتشدد كثيرا في السماح بتكوين فرق تحسبا للدور الذي يمكن أن تلعبه.

وقد حدث في بداية نشاط هذه الفرقة ان أحد اعضائها الاستاذ/ فسهاى من ابنائ (ديباروا) - وكان قليل الاهتمام بالسياسة، ألف تمثيلية عن الفروقات الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء، وجاءت ضمن فقرات هذه التمثيلية عبارة (أدخلو يا ايتام ...أخرج يا هيلى) وهيلى هو احد شخصيات التمثيلية، غير الأمر لم يمر بسلام فقد استدعى هذا الشاب البرئ الى التحقيق وفصل من عمله وسجن وعذب، وخرج فسهايى من السجن وطنيا ناضجا وكتب قصيدة بعنوان (بحرخي اريترا نهقر قلبابا) اى بحرك يا ارتريا هو الذي أضفى مهابة وجلال على الوطن.

وجاء صاحبنا بالقصيدة وعرضها على الفرقة وقد تردد معظم الاعضاء وهنا بادرت الفنانة ذات الصوت النادر الجميل (أملست) بأخذ القصيدة وتلحينها وقدمتها في عرض قدمته الفرقة في اسمرا . وقامت الدنيا ولم تقعد وتم استدعاء كامل اعضاء الفرقة الـ - 68 بعدد اعضاء البرلمان الارتري في ذلك الوقت - الى مقر الشرطة وشتم المسؤول (أملست) وسألها عن مؤلف القصيدة، وكان الاتفاق قد تم مسبقا على عدم ذكر اسم فسهايى بعد ان لاقى من التعذيب ما يكفيه في المرة السابقة، ودون سابق ترتيب ردت (أملست) اسم الاستاذ/ رمضان قبرى الفنان الشاب في ذلك الحين باعتباره انه كان يؤلف قصائد باللغتين التجرنية والتجرى. وبعد ان كال المسؤول لرمضان سيلا من الشتائم سأله عن القصد من العبارة فحاول رمضان التبرير دون جدوى وكثر بعدها استدعاؤه واعتقاله الى ان غادر الوطن.

وقد لعبت هذه الفرقة دورها المطلوب وحدث ان زارت مدينة كسلا السودانية في العام 1958م وفي احدى الحفلات استفزت الفنانة (أملست) صياح الجمهور ومطالبته بالترجمة فطلبت من مقدم الحفل بتقديم فقرة لها لتغني أغنية سودانية وتردد المقدم في البداية، وتقدمت أملست لتغني (زاهي في خدره ما تألم) للفنان أحمد المصطفى، مشيرة الى نفسها في المقطع القائل (طهر مريم). علما بأن الفنانة المذكورة كانت قد قضت جزءا من حياتها في مدينة أروما السودانية مع بعض اقاربها. وللانصاف يذكر ان هذه الفنانة من أجمل الاصوات الارترية وتسجيلاتها نادرة - نقول هذا لعل المسئولين في وزارة الثقافة والاعلام يبادرون بجمع كل ما هو جميل وهام حتى لا نتحسر بمرور الزمن على ضياع تراثنا.

مع قيام الثورة كانت الاسهامات غزيرة بلغة التجرى باعتبارها لغة المنطقة التي انطلقت منها الرصاصة الأولى واستمرت أغنية التجرى في الصدارة حتى منتصف السبعينيات حين بدأت تواجه منافسة من أغنية التجرنية. ويمكن تسجيل هذه الاغنية للفنان الشعبي الكبير (ود أمير) كواحدة من أغنيات المرحلة الأولى:

(حمدى تبطحكا ديبلا انتا وديا * من لبلا علا عجى هبوى تأتيا)... أى لك الشكر يا رب على كل حال من كان يتصور ان بلادي ستدخلها القردة.

وكان للشاعر رمضان قبرى الكثير من القصائد بالتجرنية والتجرى وكان يلقيها من اذاعة صوت الاسلام من مكة المكرمة عام 1962م. وكان الفنان محمد عبد الله با عيسى هو أول من فنان يغني للثورة الارترية وقد ساهم منذ العام 1962م بعدة أغاني بلغة التجرى ومنها يوم 1. يو سكاب بدى 2. ايت عروني 3. أدام حسار طبطيو. ويذكر ان هذا الفنان الدارس للموسيقى في مصر موجود حاليا في مدينة (جدة) وهو أهل لأن يكرم.

ومن الأغاني الرائعة التي ظهرت في الستينات أغنية (ردؤا ...ردؤا أباى هلا ديب عدنا) وللمهتمين بالروابط بين مفردات التجرى واللغة العربية أقول أن ردء تعني باللغة العربية الفصحى عون ومساعدة. تقديري أن هذه الأغنية لعبت دورا كبيرا في دفع الشباب الارتري للتحاق بالثورة وقد طغت على جميع الأغنيات في عقد الستينات كله، أنتبهوا معي لهذا المقطع الرائع من الأغنية:

(حدقوني افقر حدقوني... من سناجى أفو كرفكوني... يئ اترف أنا مندى تأسروني).

اى دعوني التحق بالثورة... لماذا حللتم بيني وبين أترابي... لن أبقى هنا حتى اذا قيدتموني. وهذه الأغنية للفنان ابراهيم ليمان والمسجلة له ايضا أغنية (تعنادقو شباب ارتريا) ويذكر لهذا الفنان مواقف مشهورة، فقد قام بدور فعال في تخريج دفعات من الممرضين الأوائل للثورة في مستشفى مدينة أروما السودانية الذي كان يعمل به.

هزت المجزرة البشعة التي حدثت في قرية (عد أكد) والتي ساق فيها جنود الاحتلال رجال القرية وذبحوهم، ارجاء قريحة الفنان الشاب في ذلك الحين موسى صالح بهذه الكلمات التي غناها وهي بلهجة الحدارب:

هنن دهنى هايى... هيلى هاشون هريوا
قرا ماقى سمهايا... اميمشان بادهيبا
هيلى ناريت كتهامى يارى أوتار دينا
اندان فارسا وتكتمان ايلايو تفوتيب تدارنيبب أرى فارسا أهينا

ومعانيها على الترتيب:
كيف يمكن لهيلى سلاسى ونحن على قيد الحياة
ان هذا الوطن وجد بعاد صده لغزوات كثيرة تشهد مقابرنا بذلك
جافاك النوم بعدالآن يا هيلى فالشباب يتجمع لأخذ الثأر
قتلتم رجالنا ولم تتركو حتى نوقنا البيض
لكن فوارسنا خلفو ورائهم فوراس لن ينامو على الضيم.

ومن الطبيعي ان تكون للهجة الحدارب اسهامات في تلك الفترة المبكرة فهي لغة بعض الشباب الذين شاركو في أول معركة تخوضها الثورة في جبل أدال ونذكر من هؤلاء الرعيل حمد قادف وحمد ايرا.

حتى العام 1970م كانت مساهمات الفنانين في الثورة غير منظمة، وفي جلسة دردشة في الميدان تذكر احد المناضلين موقفا طريفا حدث قبل ذلك بسنوات في سوريا.

كان المناضل في دورة عسكرية وحدث ان كان أفراد الدورة في مسيرة خارج دمشق والمسيرة عادة ما تكون مضنية ولهذا فأن الترويح بترديد الاناشيد مطلوب، وصاح آمير المسيرة السوري (شو شباب ارتريا ما في عندكم نشيد وطني؟) واحتار الشباب في البداية ثم أشاروا الى أحدهم وكان حسن الصوت فغنى أغنية (أنا لبى بقوها)، والأغنية عاطفية وتعني أن قلبي معها ولكن في تلك الفترة كان التداخل بين الغناء للحبيبة والوطن قائما، المهم انطلقت زخات الرصاص تحية لأرتريا التي كانت كل القلوب معها. وبعد أن انتهى سرد القصة تساءل أحد المناضلين (لماذا لا يكون عندنا فرقة وطنية؟) وكانت تلك البداية لتكوين أول فرقة فنية في الثورة كلف بتأسيسها المناضل رمضان قبرى بحكم تجربته. وقد واجهت الفرقة في البداية مشكلة جذب عنصر نسائي فقد ترددت المناضلات في الالتحاق بها، وأسهم الشهيد عبد القادر رمضان في حل هذه المشكلة وذلك بأن قام بالحاق شقيقته المناضلة التي كانت تعمل في الجهاز الصحي بالفرقة الفنية مما أدى الى سقوط الحاجز والتحاق كثير من المناضلات بها.

لعبت هذه الفرقة دورا تحريضيا هاما في أوساط الشعب الارتري في في الداخل والخارج في المدن السودانية الآهلة باللاجئين الارترين مثل: كسلا - القضارف - حلفا الجددة - المصنع - الشوك ...الخ

من الأغاني المشهور التي قدمتها الفرقة (منديرتنا حبر سما) تأليف رمضان قبرى وغناء الفنان الراحل رمضان حاج، وأغنية (ارترا قرم بعل شاميى) تأليف رمضان قبرى وبالتجرنية قدمت الفرقة الأغنية الجميلة: (ارترا هقرى بزح نفتوكي دمى يفسس عوت كلبسكي) وهي ايضا من تأليف رمضان قبرى ايضا وبالعربية كانت هنالك عدة أناشيد منها: أنا جيل البطولات - بلادي بلادي يا أرض الجدود.

Top
X

Right Click

No Right Click