زفير لاجئ ارتري
بقلم الأستاذ: عمار لباب
الليل يرخي سدوله، مستلقي انا على سرير عمتي المهترئ نصف عار كسكان الادغال الافريقية، اسبح بخيالي، افكر في حال هذا الوطن المتهالك، الذي زرته بعد عشرين عاما من الشوق، الشمس تشرق وتغيب في لا مبالاة عجيبة، القمر صار كاملا،
لا احد يهتم، الكل غارق في احزانه، الكل خائف ومرتعب، يهرب من يهرب، يسجن من يسجن، يموت من يموت، لا احد يهتم كانهم تلك الاسماك والاصداف والقواقع والشظايا على ساحل البحر المعري.
جن الليل والبلدة التحفت لباس السكينة، لا اصوات سوى نباح الكلاب.
وعمتي فاطمة التي لم تبتسم منذ عقد مضى كما اخبرتني الجارة، ابتسمت بعد ان اشتمت فيني رائحة والدي ورأت فيني صورته عندما كان شابا، والدي الذي لجأ الى السودان، ولم يرجع للوطن منذ ثلاثة عقود ونصف العقد.
كانت عمتي جالسة مطرقة الرأس لا حراك بها وقد ابيض وجهها فبات لون الورق، تنظر بحزن للملابس المطروحة امامها، كانت ملابس ابنائها الثلاثة، غرق الاثنان سويا في المحيط في طريق هجرتهما لاوروبا فالقارب لم يسع احلامهما بالحرية، والاخير يقبع في سجون الهقدف بعد ادانته بجريمتي التفكير والوطنية، قبل عقد من الان سمعت عمتي اشاعات بانه قد مات من التعذيب، ومذ ذاك الحين بدا وكأن عمتي قد تحجرت، تتحرك من الصباح حتى المساء صامتة، ناظرة الى الارض، لقد فقدت شيئا عزيز على قلبها ومحال ارجاعه، خلال العمل كانت تغرق في افكارها فجأة، تجمد في مكانها، لا تسمع شيئا حتى المس يدها، وعندما تجمع الحطب لاعداد الطعام تجمد يدها على الشجيرات واذا ناديتها جفلت وكانها افاقت من حلم، تنظر نحوي وتعاود عملها وترسل زفرة حري..
لم تتوقف عجلة الزمن، انسلخ فبراير بعد يناير وابريل بعد مارس، وحمل مايو معه فشل، وعلامات متفاوتة للنجاح..
هنا يمر الوقت سريعا، هزلت عمتي وراحت تزبل من يوم لاخر، والبلدة تزداد حزنا، افرغ الحاكم دكان البلدة، اختفي بالتدريج السكر، الدقيق والزيت، واخيرا اختفي البائع ادم نفسه، اخبرتني زوجته انه هرب الى السودان، وقريبا سيهاجر الى اوروبا وستلحق هي به، ستتحقق احلامهم بان يعيشو احرارا..
ضاق صدري من هذا العيش المهين، صرت اتوجع لامرهم كامرأة بكر في ولادتها الاولى، تذكرت كلمات والدي بان هذا الشعب قد سئم الحياة، خرجت في الصباح الباكر اجوب طرقات البلدة ودخان الفجر الازرق لم يتبدد باشعة الشروق، لم اكن اعرف الى اين اتجه، امشي، امشي وامشي، حتى رأيت ما هالني وكاد ان يعصف بعقلي، كانت الشمس حينها قد ارتفعت في السماء، فوق الجبال، اسير مثبتا رأسي على مواقع قدمي، رفعت رأسي واذا بي اري مبنيان يمتزجان في صمت، كنيسة تعلوها مئذنة ومسجد يعلوه صليب، في البدء ظننت ان الامر مجرد سراب، حتى جاء صوتها ناعما كانها تعزف على قيثارة من الصندل، كانت تقرا انجيل يوحنا، وتردد ايات من سفر التكوين، تمسك صليبا من الذهب وتدعو الرب يسوع، اقتربت اكثر، قدماي ترتجفان، تصببت عرقا، اصابتني القشعريرة، كاد عقلي ان يجن بعد ان تحولت ملابسها تلقائيا وتوشحت عباءة سوداء، الصليب تحول الى مصحف، صارت ترتل ايات من القران، تتوسل بالنبي الخاتم وتردد اوراد الطريقة الختمية.
(يا رب بالمصطفي بلغ مقاصدنا) بصوت كانه النبي داؤود عليه السلام